عن نيوتن، والطاعون

عن نيوتن، والطاعون، وكيف حرض الحَجر الصحي على القفزة الأعظم في تاريخ العلم

“وما الحقيقة إلا ثمرة للصمت والتأمل”

في خمسينات القرن السابع عشر للميلاد، بدأت غمامة الطاعون باجتياح العديد من بلدان أوروبا. حيث ضرب الوباء إيطاليا، أولاً، تلتها إسبانيا و ألمانيا، ثم هولندا. في ذلك الحين، كانت إنكلترا -التي يبدو أن إرادة الله شاءت أن تحميها من ذاك الوباء- تراقب الدول المجاورة لها من خلف جدار القنال الإنكليزي بوَجلٍ شديد، ثم بهدوء يسوده الحذر لمدة وصلت إلى ما يقارب عقدًا من الزمن.

بيد أن العالم بأسره، آنذاك، كان يضع التجارة في مقام رفيع، كما أن قوى العولمة كانت آخذة بالانتشار. وبما أن اقتصاد إنكلترا كان يعتمد اعتمادًا كبيرًا على التبادل التجاري، فإن موانئها كانت تعج بالسفن المحمّلة بالحرير والشاي والسكر القادم من كافة الحدود المكتشفة في العالم. لكن هذه السفن كانت محملة، أيضا، بالجرذان التي تحمل على أجسادها براغيثا، وهذه البراغيث هي التي تحمل البكتيريا المسببة للمرض؛ والتي كانت عبارة عن مملكة من الكائنات الحية الدقيقة أحادية الخلية، علماً أن الخلية لم تكن مكتشفة بعد، في ذلك الحين؛ إذ تنتقل العدوى من تلك البراغيث إلى جسد الإنسان عند رسوّ السفن.

وهكذا, تم الإعلان عن أول حالة وفاة بالطاعون في لندن في يوم الميلاد عام 1664. تلتها حالة أخرى في شهر شباط \ فبراير, ثم تتالت الحالات بعد ذلك. وهذا ما دفع كاتب اليوميات الإنكليزي (صموئيل بيبس) ليكتب في شهر نيسان\ أبريل من العام ذاته قائلاً:

في هذه المدينة، ثمة مخاوف كبيرة من المرض. ليحفظنا الرب جميعا.

بيد أن الرب لم يكن نظيرًا لانعدام المعرفة العلمية الأساسية بعلمي الأحياء والأوبئة. كانت الوفيات سريعة ومروعة، وسرعان ما أصبحت كثيرة إلى الحد الذي لم يتمكن أحد فيه من حمل الجثث. لتزداد أعداد الضحايا عشرة أضعاف بحلول فصل الصيف. إذ قفز عدد الوفيات من المئات إلى الآلاف في الأسبوع الواحد. لذلك فُرض على المرضى البقاء في منازلهم. كما تم وضع العديد منهم في سفن وتركوا ليلقوا حتفهم بمعزل عن المدينة. أما بيوتهم، فقد رسم عليها من الخارج صليب كبير للدلالة على وجود مصابين في الداخل. وفيما يخص المسرحيات، والرياضات الدموية العنيفة، وما إلى ذلك من تجمعات لحشود الناس، فقد مُنعت منعًا باتًا. كما منع الباعة المتجولون من بيع السلع، وموزعي الصحف اليومية من الهتاف في الشوارع، فانزوى الجميع إلى الداخل. ليخيم على مدينة الصخب والضجيج صمتًا موحشًا وغريبًا. وتغلق الجامعات، هي الأخرى، أبوابها.

عندما أرسلت جامعة “كامبريدج” طلابها إلى منازلهم، كان هنالك شاب شغوف بعلم الرياضيات و الحركة والضوء. هذا الشاب الذي توفي والده الأمي قبل ولادته بثلاثة أشهر. والذي كان يعبد “إله النظام لا الفوضى” وبدأ دراسته الجامعية عن طريق خدمته لبعض الطلاب الأثرياء من أجل تحصيل مصاريف دراسته. حيث أخذ كتبه التي جمعها، وعاد بها إلى مزرعة أمه.

هنا، حيث العزلة والوحدة، إذ يواصل الوباء امتداده بشراسة، كان (إسحق نيوتن) يحلم بنقطة الارتكاز التي تنتشل البشرية من عصور الظلام. في هذا المكان، سواء كانت الحادثة حقيقة أم مشكوك بصحتها؛ سقطت التفاحة. وفي ظل تلك التفاحة بزغت الفكرة الثورية لقانون الجاذبية التي يراها (نيوتن) قوة “يمتد تأثيرها حتى مدار القمر” على طول المسافة الفاصلة  بينه وبين الأرض دون انقطاع أو حدود. في ذات المكان شرع (نيوتن) بحساب تلك القوة التي يعتبرها “عنصرًا ضروريًا لإبقاء القمر في مداره، بفعل قوة الجاذبية على سطح الأرض” في غضون حسابه لهذه القوة، قوة الجاذبية، وكضرورة للقيام بذلك، ابتكر (نيوتن) نظرية التفاضل و التكامل.

في كتابه المميز (إسحاق نيوتن) الذي يعد مقياساً ذهبياً للسيرة الذاتية والسرد القصصي، والذي يجسر الهوة بين العلم و الشعر، كما يعرفنا على القصص الكامنة خلف المشاهير “الوقوف على أكتاف العظماء“* يحدثنا الكاتب الأمريكي (جيمس جليك) عن (نيوتن) الشاب  الهارب من الطاعون إلى منزل طفولته، إذ يقول:

لقد أنشأ (نيوتن) رفوف مكتبته بنفسه، وشيّد مكتبة صغيرة. فتح (نيوتن) دفتر ملاحظاته الذي يحتوي على ما يقارب الألف صفحة، والذي كان قد ورثه من زوج أمه وأسماه “كتاب مهمل” وبدأ بملئه بملاحظاته التي سرعان ما تحولت إلى بحوث حقيقية. لقد جلب لنفسه المشاكل؛ فقد تفكر بهذه الملاحظات بهوس شديد، محصياً الإجابات الواردة فيها، وطارحًا المزيد من الأسئلة. لقد تجاوز (نيوتن) حدود المعرفة، على الرغم من عدم علمه بذلك. فكانت سنة الطاعون هي سنة التغيير الجذري بالنسبة له.  فقد جعلت منه تلك الوحدة والعزلة عن العالم الخارجي عالم الرياضيات الأهم في العالم.

 ومن حسن حظ (نيوتن) أنه عاش حياةً طويلة، فقد بلغ عمره عند وفاته أربعة وثمانين عاما، أي أنه عاش أكثر من ضعف متوسط العمر المتوقع للإنسان في تلك الفترة. حيث حُمل نعشه من قبل اللوردات و النبلاء آنذاك. كان (نيوتن) سيعيد النظر إلى أكثر مراحل حياته الفكرية ثراء  خصوبة وهو يدرك بأن “الحقيقة ليست سوى ثمرة للصمت و التأمل”

المصدر: موقع ساقية

*يقصد بها عبارة نيوتن الشهيرة التي أجاب بها عندما سئل عن قدرته على رؤية ما لا يراه الآخرون، والوصول إلى قوانين لم يستطع غيره الوصول إليها  ” إذا كانت رؤيتي أبعد من الآخرين، فذلك لأنني أقف على أكتاف العمالقة من العلماء الذين سبقوني” 

 

My food addiction

In this book, Raja shares the knowledge, inspirational insights, and personal findings she has accumulated over her 40-plus years of struggling with weight and 13-plus years of recovery from food addiction. She highlights how her mindset shifted from focusing on weight to concentrating on her relationship with food—moving from dieting to abstaining, from body to spirit. This shift allowed her to finally enjoy guilt-free eating, maintain a healthy weight, and experience a profound sense of surrender, stability, gratitude, and freedom.

”No matter your struggle and no matter the form that excess may take in your own life – you will discover in ‘My Food Addiction’ a path to avoiding excess that transcends region, culture, and religion, and find hope and inspiration in a daily reprieve that might transform your life, just as it did for Raja.”

Jeff Pribble, book editor.

” تصوير صدى القلب “الخطوة الأولى” “Echocardiography: The first step”

تكمن أهمية هذا الكتاب كونه يعد مرجعاً موثقاً يسمح للممارسين الطبيين المبتدئين التعرف إلى تقنيات الموجات فوق الصوتية واستخداماتها في "تصوير صدى القلب" كإجراء طبي تشخيصي. كما إنه يقدم من خلال مؤلفه؛ الممارس الطبي إيهاب جرادات، خلاصة خبرات متنوعة تساعد في إتقان الممارسة الدقيقة المباشرة لهذا الإجراء الطبي. ويُعدُ الكتاب مساعداً جيداً للممارسين والدارسين، إذ يقدم المعلومات النظرية الأساسية حول إجراء "تصوير صدى القلب" لتطبيقها عملياً، بدءاً بوضعية المريض، ومهارات التعامل مع المسبار، ومعرفة جميع الخيارات في الجهاز الطبي المخصص لهذا الإجراء، ومن ثم يقدم معلومات عن كيفية إعداد دراسة شاملة لقلب المريض بما في ذلك إعداد التقارير والقياسات. 

Echocardiography “The first step”

The use of the Ultrasound Technique in medical fields allowed the medical practitioner to started Echocardiography subject, which is approaching the cardiac windows for diagnostic purposes, and it’s a matter of practice, the more cases to perform the better understand for the topic. This book comes to be the first step in echocardiography performance, it targets the beginners in scanning, by introducing the basic theory information, it leads them through the procedures, starting of patient position, the way to hold the probe, reaching comprehensive study for the case including reporting and measurements

“أهلاً بالعربية” – د. ليلى النبر.

تقدم د. ليلى النبر في كتابها «أهلاً بالعربية» دروسا منهجية متكاملة ترمي إلى تعليم العربيّة العامّـيّـة للناطقين بغيرها. وقد صُمِّم الكتاب بلهجة أهل بلاد الشّام (الأردن، سوريا، فلسطين، ولبنان) التي تُعَدُّ لهجة وسطى بين اللهجات العربيّة. وجاء الكتاب الصادر عن “الآن ناشرون وموزعون” في عمّان في 304 صفحات من القطع الكبير، وشملت فصوله الأربعة والثلاثون كلَّ ما يحتاجه الدّارسُ، بدءًا من الحروف العربية وما يقابلها من حروف باللغة الإنجليزية، مرورًا بالتّحيّات والتّعابير والضمائر وأدوات الاستفهام وأسماء الإشارة، وسائر العناصر التي تشكّل الحوارات المعتادة في تفاصيل الحياة اليومية في البلدان العربية. واهتمَّ الكتاب بأسماء الأدوات والأماكن، وأفرد فصولا خاصة بالملابس وأفراد العائلة والأرقام وحاجيات المنزل وأداوت الصيانة، وتضمّن كذلك قاموسًا لمعاني جميع المفردات الواردة فيه، واحتوى تمارينَ وتدريباتٍ، وخَصّص فصلاً كاملاً لمجموعة من قواعد العربيّة الفصيحة لمن يودُّ التقدُّم من الشريحة المستهدفة في دراسة اللّغة العربيّة. واعتمد الكتاب أسلوب القوائم في تقديم المعلومة، ومزجَ بينها وبين التدريبات ونقاط التوجيه أو التذكير في تقديم مادته. واستُعملت فيه اللّغةُ الإنجليزيّة، تُقابلها في كلّ كلمةٍ أو جملةٍ الحروفُ اللاتينيّة والعربيّة، وهو ما بدا واضحا منذ عنوان الكتاب على الغلاف الخارجي، ما يجعلُه سهلَ التناوُل للأعمار كافّة، دون الحاجة إلى مُعلِّم. وجعلت المؤلفة للكتاب فصلا إرشاديا سبق الفصول الأربعة والثلاثين، واهتمت فيه بإيضاح خطة عملها، وبذكر الفوارق التي قد تبدو للمستخدم إشكالية في ما بعد، لا سيما ما تعلق منها برسم عدد من الحروف. ونبهت د. النبر مستخدم الكتاب في مقدمته التي كتبتها باللغة الإنجليزية إلى أن هناك علاقة وثيقة بين الألفاظ العربية المنطوقة باللهجات العامية، والألفاظ التي تنتمي إلى العربية الفصحى، فهي في معظم الأحيان مشتقة منها أو مطابقة لها مع تغييرات طفيفة في طريقة النطق. وأشارت إلى أن اللهجات العامية لا تتقيد بالقواعد المعمول بها في العربية الفصحى، بل إنها تعطي الأولوية لطريقة اللفظ وأداء الكلمة إلى السامع، ما يجعل للقدرة على الاستذكار واستعادة الكلمة أهمية كبيرة في الاستخدام اليومي للغة. ومن الجدير ذكره أن لدى د. ليلى النبر خبرة تمتدّ لأكثر من ثلاثين عامًا في مهنة التعليم في المدارس الخاصة، وتعليم الطلبة العرب والأجانب، كما أمضت أربعة عشر عامًا في تعليم العربية لموظفي عدد من الهيئات الدبلوماسية الأجنبية في الأردن، وانتُدبت مرات عديدة لتقديم  محاضرات في  دول الغرب عن اللغة العربية وآدابها. وهي حاصلة على شهادة البكالوريوس في اللغة العربية وآدابها من جامعة بيروت العربية، ودرجة الدكتوراه الفخرية ومستشارة في اللغة العربية وآدابها من جامعة أكسفورد- أيرلندا. وقد وافقت جامعة كمبردج على منح شهادة “مدرب معتمد” للدارسين الذين أنهوا الدورة التدريبية لهذا الكتاب.

فستق عبيد- سميحة خريس

الروائية الأردنية سميحة خريس

رواية «فستق عبيد»: قصة العبودية المستمرّة

تدور رواية «فستق عبيد» بشكل رئيسيّ بين قارتين؛ إفريقيا (السودان، الجزائر، ليبيا) وأوروبا (البرتغال). في الجزء الأوّل تجري الأحداث على تخوم الصحراء السودانيّة؛ مجلس يحكي فيه الجدّ السودانيّ (كامونقة) عن ماضيه في العبوديّة حين أُخذ عبدًا لتاجر سمسم من كردفان (التيجاني) ليبقى مرتحلًا على أسنمة الجمال في رحلة طويلة، قاطعًا خلالها 800 كيلو متر بأسبوعٍ وليلتين من بلاد دارفور في غرب الدنيا إلى الشرق عبر درب الأربعين حيث القفار والشمس.

خلال السنوات الثلاث الماضية عالجت ستّ روايات عربيّة موضوع العبوديّة في الوطن العربيّ، ثلاث منها تناولت العبوديّة في فترة نهايات القرن التاسع عشر و بدايات القرن العشرين في السودان، وهي: «شوق الدرويش» للسودانيّ حمور زيادة، و«كتيبة سوداء» للمصري محمد المنسي قنديل، و«فستق عبيد» للأردنيّة سميحة خريس.

أمّا الروايات الأخرى فكان من بينها رواية «بابنوس» لخريس والتي تناولت العبوديّة بعد منتصف القرن العشرين في السودان أيضًا. فيما تناولت روايتان العبوديّة خارج السودان: «زرائب العبيد» لليبيّة نجوى بن شتوان عن العبوديّة في ليبيا، و«ثمن الملح» للبحريني خالد البسّام عن العبودية في جزء من الجزيرة العربيّة.

وتواجدت الروايات التي تعالج العبوديّة في قوائم الجوائز العربيّة لثلاث سنوات، وحصلت معظمها جوائز، الأمر الذي يدفعني لأسأل عن الألفة بين موضوع هذه الروايات؛ أي العبوديّة والجوائز العربيّة.

قبل عام تقريبًا من الآن حصلت رواية فستق عبيد لسميحة خريس على جائزة كتارا 2017، وقبل البدء بعرض الرواية، يُذكر أنَّ روايتي خريس «فستق عبيد» و«بابنوس» تتناولان العبودية في السودان، لكن، وهذه نصيحة للذين يرغبون بقراءة العملين، فإنَّ الفترة الزمنيّة التي تناولتها رواية فستق عبيد سابقة على الفترة الزمنيّة التي تناولتها رواية بابنوس رغم صدور بابنوس أولًا، لذا أنصح بقراءة العمل الصادر مؤخرًا ومن ثم الأقدم لتفادي اللبس أو لتحقيق وضوح أكثر في تتبع الأحداث.

«فستق عبيد»

يدور العمل بشكل رئيسيّ بين قارتين؛ إفريقيا (السودان، الجزائر، ليبيا) وأوروبا (البرتغال). في الجزء الأوّل تجري الأحداث على تخوم الصحراء السودانيّة؛ مجلس يحكي فيه الجدّ السودانيّ (كامونقة) عن ماضيه في العبوديّة حين أُخذ عبدًا لتاجر سمسم من كردفان (التيجاني) ليبقى مرتحلًا على أسنمة الجمال في رحلة طويلة، قاطعًا خلالها 800 كيلو متر بأسبوعٍ وليلتين من بلاد دارفور في غرب الدنيا إلى الشرق عبر درب الأربعين حيث القفار والشمس.

يروي (كامونقة) حكايات الانكسار للأحفاد -من بينهم الطفلة رحمة- بفخرٍ شديد، وهي حكايات تدور عقب ثورة المهدي في السودان (1881-1889) الذي كان جيشُه من العبيد المحرّرين من التجّار، أمّا المكان فبيْن أم درمان وكردفان.

لا تعرض سميحة خريس العبودية بصورتها المتعارف عليها (الأبيض يشتري، و الأسود يُباع)، ثمة الكثير من صور العبوديّة التي تناولتها الرواية؛ عبودية الرجل الأسود للرجل الأسود، وعبوديّة الرجل الأسود للتاجر، وعبوديّة الرجل الأسود لرجل الدين. تعرض العبوديّة في أرض السواد، منظورًا لها من السود بدايةً، من جهة التاجر (التيجانيّ): «مقارنة بسواي؛ كنت عبدًا محظوظًا لرفقتي مالكي المهيب المهاب الطيّب، لا أغلال بيننا، ولا سوط ينظم تعاملنا، لا يخطئ أحدنا في فهم الآخر، محسودان على التناغم. (..) في محاولاتي للنسيان صنفت نفسي بصورة مخادعة رجلًا حرًا برفقة التيجاتي الطيب الذي يمتلكني». كان هذا حديث كامونقة العبد لنفسه.

خلال ترحال قافلة التاجر يمرّ كامونقة بمعسكر المهدي؛ إذ ذاك ستسلب العبوديّة الجديدة كامونقة حين يرى العبيد، كل عبدٍ فارٍّ من سيّده إذا ما التحق بالجهاد صار حرًا، عبوديّةٌ حرّة مع المهديّ، هناك يقول كامونقة: «ركبني عفريت اسمه الجهاد، وأنا ما عرفت قبل اليوم أنَّ عليّ أن أجاهد جنديًا؛ أقتلُ الإنجليز أو المصريين، وأسلم أمري بالكامل للخليفة المهدي». يُجري مقارنات العبوديّة في شكلها الأوّل (للتاجر) مع شكلها الثاني (رجل الدين):« يفترُ حماس قلبي إذا سمعت زعيق بوق أبو بايه العاجي، (في معسكر المقاتلين الجهاديين) نفس الصوت الذي يطلقه النخاس ليجمعنا على منصة عرض العبيد في الماضي، بات صداه يجمعنا حول الخليفة في المعسكر».

سيحارب كامونقة المصريين والإنجليز أخيرًا، يرحل في جيش المهديّ، وهناك سيخسر الجيش غزوته، وفي الخسارة ينبني الوعي بعبوديّته، سيشعر أنَّه ليس عبدًا وحسب، بل أسوأ: «أنّي رجل عبد، رجل عبد ميت».

في هذا الحوار مع سميحة خريس، سألناها عن عدّة مواضيع: الرواية الفائزة «فستق عبيد»، والرواية التاريخيّة، وأسرار العمل على الرواية، وبالطبع عن العبوديّة ومواضيع أخرى عن الجوائز و الحياة الشخصية.

حبر: لماذا اختارت سميحة خريس السودان أرضًا لمناقشة العبوديّة، ولماذا هذه الفترة الزمنيّة، نهايات القرن التاسع عشر وبدايات القرن العشرين؟

سميحة: تختار الظروف المحيطة بالكاتب وبالموضوع مفردات النص. تختار الجغرافيا والتاريخ ونمط الشخصيات أيضًا. وأنا منذ البدايات على قناعة تامّة بأن نصًا ينتظرني في مكان لم يخطر بالبال، وأعرف أنَّ الظروف هيّأت لي أن يكون هذا المكان في السودان، ربّما لأني عشت فيها فترة من الزمن، وربما لأني درست تاريخها. وأكثر؛ لأن في الروح حرقة على جوانب مسكوت عنها في تاريخ هذا البلد وواقعه الراهن، ولسبب غامض يجعلني أفكر دائمًا بالهروب في نصي من أسر الأماكن التي ألتصق بها، إيمانًا بأنَّ قضايا الإنسان في كلّ مكان تخصني وتعنيني. هذه مجموعة من العوامل تضافرت لاختيار المكان.

تُجيب خريس على سؤالٍ مضمر لم نسأله عن وجود روايتها مع هذا الكمّ من الروايات التي تناولت العبوديّة في هذه الفترة (نهايات القرن التاسع عشر، بدايات القرن العشرين) وصدرت خلال السنوات الثلاث الأخيرة، فنكتشف أن الفكرة قديمة في مشروعها الروائيّ.

سميحة: كان هذا النصّ يتشكّل عندي أثناء دراستي دون أن أعي هذا الأمر. أُصاب بالدهشة والرعب معًا وأنا أتلقى دروسًا في علم الاجتماع والأنثروبولوجيا والتاريخ. وقد ظننت أن هذه المرحلة غابت تمامًا لانخراطي بجوانب مختلفة من الحياة، ولعودتي إلى البئر الأولى عبر نصوص متعددة تحركت في الفضاء الأردني. ولكني واجهت مجددًا العالم الأوسع حين كتبت روايتي «يحيى»، وكانت هي مفتاح اختياري لموضوع الرقّ، ساعدتني أبحاثها على استكشاف عالم الرق في القاهرة في القرن السادس عشر الميلادي، وأعادت إلى ذاكرتي ما درست، وحرضتني على مزيد من الأبحاث والدراسات التي تتعلق بما يحدث اليوم. في الواقع كان اختياري الأول العودة إلى جذور المسألة، على الأقل في التاريخ القريب، وكنت قد اخترت تلك المرحلة التي بدأ فيها العالم يبحث عن سبل تغيير مسيرته الحضارية، وانفجر ذلك الحلم في الحرب العالمية الثانية، ولكني أرجأت هذه الفترة وبدأت بمعالجة الأمر من الزمن الراهن عبر رواية سابقة في زمن صدروها، لاحقة في تاريخ أحداثها، وكان ذلك يتعلق بالجانب السياسي والإنساني وبإلحاح مشكلة وأزمة دارفور على الضمير العالمي، وعلى ضميري أنا شخصيًا.

نعود للرواية، إن كان الجزء الأوّل في الرواية يتناول العبوديّة في محيط سود البشرة، فإن الجزء الثاني منها، يُدخل ذوي البشرة البيضاء إلى المشهد. عاد كامونقة إلى أرضه حرًّا: «تمتعت بكوني رجلًا حرًا، ومن يومها ونحن نزرع سهل الرمل الأصفر بالفول السوداني (..) قد تسألون لماذا الفول السوداني؟». هنا تروي خريس على لسان كامونقة كيف كان الجلّابة وقطاع الطرق يقتنصون الصغار الجوعى عارضين عليهم حفنات من الفول، مستغلين جوعهم: «هكذا اختطفوا السذج في الماضي، وأنا أردت تحصين أولادي من غواية الفول، الذي يسمونه في أماكن كثيرة فستق عبيد، إنّه الفستق الذي يمكن أن يوقعك في العبودية، قلت لنفسي: أزرعه، فيشبع الأولاد، ولا يذهبون إلى العبودية بأقدامهم».

ورغم ذلك، تُختطف إحدى حفيدات كامونقة، الطفلة رحمة. فيبدأ الجزء الثاني عبر رحلة في البرّ على الأقدام، كان التاجر اليهودي الجزائري رايمون يقود قافلة العبيد التي فيها رحمة عبر صحراء ليبيا إلى بنغازي، ثم في صفقة إلى تاجر برتغالي (ساراماغو) إلى ميناء الجزائر. ومن الجزائر إلى البرتغال، هنا تعرض خريس صور العبوديّة بين العبيد أنفسهم أثناء المحنة، تحظى رحمة الطفلة المخطوفة بمعاملة استثنائيّة قائمة على الجنس، تعيش بين البيض في أعلى السفينة فيما العبيد في الأسفل يُعاملون كأشياء يُمكن رميها في البحر إذا ما انتهت صلاحيّتها.

كلّ حكاية في الرواية تعالج إحدى صور العبوديّة؛ حكاية العبيد في أسفل السفينة مع طاقم السفينة تعالج صورة العبد الأسود الرجل بعين السيّد الأبيض الرجل، حكاية الحبّ الزائف بين رحمة مع التاجر ساراماغو تعالج صورة العبد بوصفه أنثى مع السيّد الأبيض. وحكاية التاجر ساراماغو المنحدر من سلالة غير نبيلة مع زوجته كارولينا سليلة النبلاء، تعالج عبوديّة الرجل الأبيض في مجتمعه من قبل طبقة النبلاء، هكذا تمضي الرواية، لا حكاية فائضة في «فستق عبيد».

حبر: هل استفادت سميحة خريس من تجربتها في رواية سابقة (بابنوس) لتُنضج على مهلٍ هذه الرؤية لمفهوم وممارسة العبوديّة؟

سميحة: العبودية كما الحرية، مفهوم مركّب تمامًا، ليس فقط من زوايا مختلفة، ولكن أيضًا في الشخص الواحد، في الزمن الواحد، وفي كل إنسان قدر من هذا وذاك. تتخد أعتى أشكال العبودية وضعًا مأساويًا كما حدث مع أبطال روايتي. ويمكن العثور على ومضات المفهومين في كل شخصية، سترى التاجر البرتغالي في لقطة مركّزة واقفًا بباب بيته يتحدث مع زوجته التي تفوقه منزلة اجتماعية فيحني رأسه منتظرًا أوامرها، ثم يلتفت ذات الرأس في ذات اللحظة، إلى عبدته مرتفعًا بمقدار يتيح له توجيه الأوامر، ولكن هناك أيضًا العبودية الوقحة التي تصفعك دون خجل، حين يصير الإنسان سلعة يباع ويشترى، بسبب ضعف مقدرته وغياب إرادته السياسة ونفوذه. والأوجع أن يتم ذلك بسبب لونه.  في تقديري ورغم أننا تجاوزنا عصر حقوق الإنسان وحريته فإنَّ أشكالاً أخرى من الرقّ تبتدع وترتدي ثيابًا قشيبة بالكاد نتعرف على وجهها القبيح.

تمضي أحداث الرواية باستعراض أوضاع العبيد في البرتغال، تناسلهم، من غراميات غير شرعية مع الأسياد البيض، يُولد أطفال «كريولو»، مختلطين بين الأبيض والأسود. يموت جيل من العبيد، ويستفيق جيل جديد بمشاعر ومعتقدات مختلفة عن جيل الآباء، هنا يُضاف لصور العبد شعوره الدينيّ. تركّب سميحة عُقَد العبودية على عُقد الدين. أطفال من سلالات مؤمنة بالإسلام، تفتحت أعينهم على تعاليم السيد المسيح. تتأزم العقد في الرواية، وفي عقول ومشاعر الشخصيّات، فيظهر الحلّ في وصيّة رحمة التي صارت أمًا لبنت تُسمى «تركيّة»، تبعثها مع تاجر إلى بلادها، كون هذا البلد (البرتغال) لا يعنيها. وهنا تنتهي الحكاية في فستق عبيد.

يُمكن استكمال الحكاية من رواية بابنوس، حيث تستمر المحنَة؛ لا يستقبل الناس في السودان القادمة الجديدة كواحدة منهم، إنما كواحدة بيضاء (تحمل البنت صفات البيض من علاقة غير شرعية بين التاجر ورحمة).

حبر: لماذا عمل آخر يتناول العبوديّة بعد بابنوس؟ أيمكن أن نقول أن «فستق عبيد» استدراكُ ماضي «بابنوس»؟

سميحة: على الرغم من ارتباط العملين معًا، في ما يمكن تسميته رواية أجيال، فبطلة فستق عبيد هي الجدة البعيدة لبابنوس، فإن كل قارئ يمكن أن يقرأ إحدى الروايتين دون حاجة للأخرى، كما يمكن أن يقرأهما معًا لتعميق التجربة وتسلسلها التاريخي والاجتماعي والسياسي، فتصبح جرعة المعرفة أعلى لديه حول ما حدث وما يحدث حقًا. ولكن الواقع أن النص ليس استدراكًا لما غاب، بقدر ما هو استحضار لفكرة تؤشر بمرارة على استمرار الوجع والممارسات اللاأخلاقية للعالم، وعلى تعدد أشكال الرقّ وتغير مسمياته وتعدد وجوه النخاسين. ولست بهذا أراهن على غياب الأمل، ولكني أؤكد على أن الإنسان الإفريقي تحديدًا دفع ثمنًا باهظًا، كما أدينُ كل من تكالبوا على القارة السمراء فاستعبدوا بشرها وسرقوا ثرواتها. بالطبع لا أبرر هذا الاختيار لأؤكد على الرق في ما يتعلق بأصحاب البشرة الأفريقية ولكني في أكثر من صورة ومشهد وموقع في الروايتين أشير إلى الرقيق البيض أيضًا، لأني أريد أن أنبه إلى وحشية الإنسان القوي حين يتعامل مع الضعيف، و«المتحضر» حين يتوحش مع من يظنه «البدائي». وفي الروايتين حرصت على البحث العميق في ثقافة الإنسان البسيط، تلك التي تعلي من شأن الخير والتي تبدو أكثر نبلًا من حضارة الإنسان القوي المستعمِر النخّاس.

حبر: لنفتح أسرار الكتابة معًا للقارئ، ماذا قرأت أو عايشت سميحة خريس للخروج بتصوّر عن أشكال العبوديّة هذه، و التي لا تُظهر العبيد كأرقام كما عالجتها أعمال أخرى؟

سميحة: بداية قرأت الحقبة التاريخية التي تناولتها، كانت أمامي الثورة المهدية التي لا يعرف عالمنا العربي الكثير عنها، والتي تحفل بكنوز يمكن للروائي استغلالها. استعدت تلك الآراء المتناقضة حول تلك الحقبة، ورغم أني على صعيد الوعي لست مع كثير من تفاصيل الفكر الذي شكل هذه الثورة، ولكني من جانب آخر معجبة بالشجاعة والإيمان واليقين الذي جعل من البسطاء أندادًا لأقوى قوة سياسية آنذاك، وقفوا في مواجهة بريطانيا العظمى، على أمل بناء المستقبل كما يريدون.

بالطبع في البال رواية «الجذور» لألكس هيلي، و«جزيرة» إيزابيل الليندي، و«كتيبة سوداء» للمنسي قنديل، وصولًا إلى قراءات قديمة، «كوخ العم توم»، ومشاهدات أفلام كثيرة تناولت هذا الهمّ الإنساني. ولكن الأثر الأكثر خربشة للروح، كان الأجساد الهائمة على وجهها في خيران الخرطوم، امرأة التقيتها في قلب العاصمة واستعرتُ اسمها «ست النفر» في الرواية الأولى بابنوس، أناس تحدثوا لي عن ملابسات خرافية كأنها مقتطعة من كتب الأساطير.

ثم، وهو الأهم، استمرار الوقائع المؤلمة إلى عصرنا هذا، لم تكن حكاية المنظمة الخيرية الفرنسية التي أطلقت شعار «أنقذوا أطفال دارفور» بعيدة، فقد قبض على فعلة الخير هؤلاء يخطفون أطفالًا بهدف بيعهم في فرنسا، وكانت قضية كبرى، جرى التغطية عليها، وجرى مؤخرًا إطلاق سراح المتهمين بالاتجار بالبشر فيها، عدا عما يدور من خزي في هوامش الحروب التي تعيد تلك الممارسة ليكون وقودها، على الأغلب الأعم، هم الأطفال العرب.

حبر: تصنّف فستق عبيد ضمن الروايات التاريخيّة، وفي استعراض توجهات الروائيين في الأردن بشكل عام نجد أن الجيل الأوّل: غالب هلسا، مؤنس الرزاز، تيسير السبول، لم يكتبوا في الرواية التاريخيّة، في الوقت الذي كتب الجيل الثاني: هاشم غرايبة، سميحة خريس، إبراهيم نصر الله، قاسم توفيق في هذه الرواية. كيف تنظرين إلى ذلك؟

سميحة: تحدثت لأكثر من مرة حول كتابة الرواية التاريخية، وهي في تقديري تعتمد على ظاهرة جمعيّة وليست فردية، لا أعتقد أن روائيًا يقرر وحده في زمن ما أن يكتب الرواية التاريخية، ولكن الأجواء تتهيأ حول عدد من الروائيين ليكتبوا في هذا المجال، إنه الزمن الذي تنجز فيه الحضارة نقلة كبيرة، ويتهيأ الزمن للدخول في حقبة مغايرة، ويقف الإنسان كما الأمّة على مفترق طرق، عندها يكون لزامًا على مجموع الروائيين الوقوف والاستدارة لقراءة الماضي في محاولة لفهم الموقع الذي يقفون فيه وأكثر؛ في محاولة لاستشراف ما هو آت. جيل الروائيين الأردنيين كانوا في قلب التغيير فعلًا، ولكننا في الجيل اللاحق وصلنا مفترق الطرق، وتم استدعاؤنا من عوامل مختلفة، بعضها يتمثل بتغير وجه الحياة الاجتماعية، وبعضها بتحول الحياة السياسية والفكرية، وأظنّ أنَّ الروائي في هذه المرحلة يصير شاهدًا على عصر.

حبر: في عام 2012 حاولت في المركز الثقافي الملكي عشيّة إشهار عملكِ «على جناح الطير» القول بأنَّك لنّ تكتبي  سيرة حياتك وتفضلين إبقائها خفيّة؟

سميحة: ليست المسألة أن هناك أسرارًا خطيرة أحيطها بالكتمان، ولكني حقًا أعتبر حياتي نسخة مشابهة لحياة بنات جيلي، ليس هناك ما يستحق الإفصاح، أو ترك شهادة للزمن، قد يكون لدي خصوصيات متفرقة تتمثل بتجربة السفر والمعارف التي عرضت لي، أو بتجربة الكتابة والنماء فيها، ولكنها تفاصيل تناولتها في كتابي «على جناح الطير»، وكان همي عندها أن أسجل سيرة للمدن التي عرفتها وعرفتني، إذ أن التغيير والمهم قد وقع للأماكن وللحياة التي عرفتها في تغيراتها وتقلباتها، وأعتقد أن هذا يكفي. هذا لا يمنع أن الحياة الشخصية من حيث وجهات النظر والأفكار والمشاهدات تتسرب من حياتي أو حياة من أعرفهم إلى النصوص الروائية نفسها، ففي كل شخصية أكتبها شيء مني، سواء كانت شرًّا أو خيرًا ، رجلًا أم امرأة، هذه معارفي وما يشكل نفسي وعقلي، عدا ذلك من أحداث روتينية للحياة فلا أظن أن فيها ما يستحق أن يكتب، ربما بالنسبة لي كانت حياة مكتظة بالتحديات والعمل الدؤوب، ولكنها بالنسبة للآخرين عادية، فلماذا إذًا أفرض تلك التفاصيل على الناس في كتاب؟

عمّار أحمد الشقيري

حقوق النشر: حبر 2017

الماتريوشكا – سوار الصبيحي

تشتمل مجموعة "الماتريوشكا" للقاصة الأردنية سوار محمد الصبيحي على تسع عشرة قصة توزعت على 136 صفحة من القطع المتوسط.

وجاء في قراءة للروائي الأردني الراحل إلياس فركوح، تصدّرت المجموعة التي صدرت طبعتها الثانية عن "الآن ناشرون وموزعون" بعمّان، أن اختيار الصبيحي "الماتريوشكا" عنواناً لمجموعتها "اختيارٌ واعٍ لفنّ القصة المتوالدة من أُخرى تشكّلُ نقيضاً لها أحياناً، أو مكملاً، أو مشاكساً، أو مجادلاً، أو شاهداً عليها ولها!".

وأضاف فركوح: "هكذا كانت القصص داخل الكتاب، تتوالد من بعضها كاشفةً عن عوالم وشخصيات تتعارض في طموحاتها، وتختلف في رؤاها، وتتباين في تركيب شخصياتها؛ إناثاً وذكوراً، بعضها يقبع أسيراً للماضي يتغذّى عليه، بالمقابل من بعضٍ يتوق للمستقبل من غير وَجَل كأنه يريد أن يولد من جديد. بعضٌ يخلقُ لنفسه حياةً مما يحلم به، وبعضٌ يتحايل على حياته بتزييفها من خلال التلاعب بصورته".

وتابع فركوح بقوله: "الماتريوشكا دمية روسيّة مجوفة تحتوي في داخلها دُمىً أصغر فأصغر تشبهها، أو تختلف عنها في تفصيل هنا أو هناك! ولأنها كذلك؛ فإنها قادرة على تحفيزنا لأن نذهب بعيداً في تأويلاتنا، ليس للقصص فقطـ، بل أيضاً لذواتنا نحن الأفراد". ذاهباً إلى أن هذا الاختيار يمثل التقاطاً ذكياً يدلّ على عُمْق الكاتبة؛ فنحن "نتضمن في أعماقنا مجموعة تناقضات تتجلّى صارخةً، أو حاثّةً، أو خائنةً، بحسب المواقف التي نتعرض لها".

أما القاص الأردني يوسف ضمرة، فقال في مقالته التي ذُيلت بها المجموعة التي فازت بجائزة الدولة الأردنية التشجيعية في حقل الآداب (2021): "تلجأ سوار الصبيحي إلى كل ما يلزمها لتبني لنا عالماً سريّاً أو غامضاً أو مكشوفاً لكثيرين منا، لكننا لا ننتبه إليه في مشوارنا الحياتي، أو نداريه أو نغطيه خوفاً على أنفسنا من المعرفة. كل ما تقوم به الصبيحي هو الكشف عن هذا الغامض والسري والمكشوف، وهو ما يعني تعريتنا أو مواجهتنا بمرآة ترينا أعماقنا، لا ملامحنا الخارجية وحسب".

وأضاف: "تختار الكاتبة نماذجها التي نعرفها ونلتقيها ونمر بها ونصادفها دائماً في حياتنا، لكننا لا نعرف ما يدور في أعماقها وفي مشوارها؛ بل يمكن القول بثقة عالية: إن هذه الشخوص ذاتها لا تعرف حقيقة ما يدور في أعماقها من أسئلة ورضا وطموح وأمل ووحشة وخوف وغير ذلك. نحن أمام شخوص نكاد نعرفها لأنها قريبة جدّاً منا، بل نشعر بها تتحرك في دواخلنا كما لو أنها جزء منا".

وتابع ضمرة بقوله: "هذه التجربة التي تنقلها لنا الكاتبة من خلال صورة فنية مكثفة هي التي تضعنا مباشرة أمام أنفسنا، ونبدأ في أثناء القراءة بطرح الأسئلة التي تتداعى بلا توقف: عمن تتحدث الكاتبة في هذه القصص؟ من هؤلاء الناس؟ هل ثمة مشكلات وقضايا وأفكار كهذه موجودة خارجنا من دون أن نعرف؟ وهل كنا كذلك طوال مشوارنا عبر السنين من دون أن ننتبه؛ هل سرقتنا الحياة من وجودنا إلى هذا الحد؟".

ورأى أن هذه القصص تحيلنا إلى الدوافع التي تقف خلف الكتابة نفسها، أو إلى السؤال: "لماذا نكتب؟". مشيراً إلى أننا بمقدار ما نُفاجأ بالتفاصيل العادية التي تتمكن الكاتبة من تنسيقها واستخدامها، فإننا لا نستطيع تهميش التقنية الفنية التي تجيد توظيفها.

وأوضح ضمرة أن الكاتبة تعتمد المقارقة في قصصها، وأن القصص "تُبرز قدرة الكاتبة على تطويع الوقائع العادية لتصوغ منها بنية فنية حية، قادرة على إثارتنا ولفت انتباهنا لما هو تحت القشرة الخارجية لنمط الحياة اليومية التي نحياها  ونخشى على أنفسنا من منعطفات حادة قد تكون زلقة أو تودي بنا إلى مسارات مغايرة نحتاج وقتاً طويلاً للتأقلم معها، وإقناع أنفسنا والآخرين بها".

نقرأ على الغلاف الأخير للمجموعة ما يشبه الخطاب الذي توجّهه الكاتبة للقارئ، ونصّه: "يُطلَب من القارئ عادةً عدم الاكتفاء بقراءة السطور، والتعمق في استنباط ما بينها. إلّا أني أطلبُ شيئاً مختلفاً.. هل تستطيع قراءة ما بعد السطر الأخير؟ إنْ أجبتَ بـ(نعم) فإنَّ هذا الكتاب قد كُتب لك. وإنْ أجبتَ بـ(لا)، فلا بُدّ أن تعطي مخيلتكَ فرصةَ نقلك –عبر قراءته– من موقع المتلقي إلى المشاركة في الحدث. تضم المجموعة قصصاً توصف بالقصيرة، إلّا أنَّ لها بدايات بعيدة، وأحداثاً متراكمة أقف فيها عند نقطة ما، تاركةً مهمة التأويل لك".

الروائية جيهان رافع

ترتكز رواية "موت في حياة ما" للروائية السورية المقيمة في سلطنة عمان جيهان رافع، على عُمق الشعور الإنساني وارتباط الروح بالمكان.واتَّخذت الروائية من المحبة وسيلة لبث رسائل تستهدف المتلقِّي بصبغة إنسانية، تحضر فيها سوريا وتداعيات أحداثها التي انعكست غربةً وشتاتاً على أهلها، في أكثر من مفصل من مفاصل السرد.والرواية الصادرة عن الجمعية العمانية للكُتّاب والأدباء بالتعاون مع "الآن ناشرون وموزعون" في الأردن، جاءت في مئة وسبع وتسعين صفحة من القطع المتوسط، وهي جزء من برنامج النشر لعام 2020 والذي رفدت فيه الجمعية المشهدَ الثقافي بخمسة وعشرين إصداراً تمثّل أجيالاً متنوعة من الأدباء والكتاب والباحثين.تقول رافع في مجريات "موت في حياة ما": "ذكريات ساخنة تتجلَّى بأكثر من خيالٍ يتحرق اشتياقاً للدفء، والشمس تبدو مثل برتقالة سقطت من يد فلّاح متعب، يطلّ القمر باهتاً متهادياً فوق أمواج الأحداث والصور، مثل فانوس رفعته يد امرأة على متن قارب اكتظّ بالمهاجرين، فأحالهم في ليل موحش أليافاً زرقاء وخرزات فضية لرصاصة واحدة".وجاء في موضع آخر من الرواية: "كانت ترتسم أمامه كأنها تذكّره بأنّ الأحلام باتت كالخيول، حين يصدر صوت حوافرها وهي تطوي مسرعةً نحو مستقبلٍ عتيد، كما في الحكايات شامخة مهيبة، فينخسف الحلم عندما يصحو على صوته أنين أرضه تحت ركام الحروب، فتخبره بانتحار الحقيقة المفجعة".يشار إلى أن جيهان رافع وُلدت في دمشق، وتقيم في سلطنة عمان منذ سنوات. و"موت في حياة ما" هو إصدارها الثالث، بعد مجموعة نثرية بعنوان "حين يتكلم الحب" التي قضايا روحية وإنسانية وعاطفية ذاتية، ومجموعة قصصية بعنوان "قاع الذاكرة" رصدت فيها الواقع الاجتماعي وانعكاساته على الفرد بأشكال مختلفة.