حوار الأسبوع

الأديبة شريفة التوبي: الكتابة تتطلّب روحًا حرة وقادرة على خوض عباب محيط المغامرة

حاورها: نضال برقان
تذهب الأديبة شريفة التوبي إلى أن «الكتابة عن حدث تاريخي، وكتابة ملحمة تاريخية بأسلوب سردي وتحت جنس أدبي اسمه «رواية» عمل ليس سهلا أبداً»، مؤكدة أن «الكتابة في حد ذاتها مغامرة..». التوبي نفسها، وهي قاصة وروائية من سلطنة عمان، كانت أصدر روايتها الجديدة "البيرق.. هبوب الريح" "الآن ناشرون وموزعون"، 2024 وهي الجزء الثالث والأخير من ثلاثية "البيرق" للكاتبة، بعد جُزأيها الأول "حارة الوادي" والثاني "سُراة الجبل". ولتسليط المزيد من الضوء حول تجربة الأديبة العُمانية شريفة التوبي كان لنا معها الحوار الآتي: 
  • يحضر البعد التاريخي بأسلوب ملحمي في مجل أعمالك الروائية، فكيف تنظرين إلى طبيعة العلاقة بين التاريخ وناسه وبين السرد الروائي؟ - بالنسبة لي التاريخ مادة مغرية للكتابة، التاريخ كنز من الحكايات، والكاتب الذكي من يستطيع البحث في دهاليزه وعوالمه لكتابة حكاية جديدة على أنقاض حكاية قد يظن البعض أنها ماتت أو خلق حكاية جديدة لا تلتقي مع الحكاية الاصلية سوى في الفكرة. ليس من السهل نبش التاريخ، وليس من السهل أبداً أن تخرج بشيء جديد ومتخيّل على أساس حكاية واقعية أو شخصية حقيقية، وهنا على الكاتب أن يحذر من أن يقع في فخ إعادة كتابة التاريخ دون إضافة جديد يستحق الإشارة له بأنه أدب، فأعراف وقواعد الكتابة السردية تختلف اختلافاً جذرياً عن كتابة التاريخ، والأديب لا يشبه المؤرخ إلا في حدود الفكرة. الكتابة في الأصل اجترار حدث من الذاكرة، ومن ثم بناء العوالم المتخيلة عليها، دائماً هناك فكرة يستند عليها الكاتب أو الروائي، تكون قد استوقفته أو أثّرت فيه بشكل أو بآخر، ولامست مشاعره، وهذا ما يؤكد ظنّي بأن الكتابة تبدأ من القلب، لتنتهي إلى القلب، ذلك هو الطريق الممتد بين الكاتب والقارئ. من جانب آخر أجد أن المساحة المتاحة للأديب أوسع بكثير من المساحة المتاحة للمؤرخ، فالمؤرخ يتعامل مع شخصيات حقيقية واقعية وأحداث ولا يمكن له تجاوزها أو تغيير شيء من واقعها، ورغم ذلك هناك نسبة كبير في عدم مصداقيته، لكونه خاضع لسلطة معينّة، والتاريخ لا يكتبه سوى المنتصر كما يقال، ففي كتب التاريخ نحن لا نقرأ إلا أسماء قادة الجيش والسلاطين كأبطال حرب مهما كانوا قتلة أو مجرمون، لكن الراوي يركّز على من كانوا وقوداً للحرب، ينتصر للبسطاء الذين غيّبهم التاريخ، ويكتب عن مشاعرهم أفكارهم، حياتهم، التفاصيل الدقيقة الجميلة والقبيحة، الجميلة والمحزنة، في الأدب وجه آخر للحكاية التاريخية لا يراه سوى الأديب أو الراوي.
 
  • إن الكتابة عن حدث تاريخي، وكتابة ملحمة تاريخية بأسلوب سردي وتحت جنس أدبي اسمه «رواية» عمل ليس سهلا أبداً، هناك مجازفة وخيط حاد قد يكون جارح للكاتب قبل القارئ في حرصه الشديد ألا ينقطع، خشية أن لا يحدث خلط بين الواقع والمتخيّل. في روايتك «سجين الزرقة»، تتناولين قضية اجتماعية حساسة تتمثل في مجهولي النسب، والموقف الاجتماعي من هؤلاء الأبرياء، ترى ما الذي دفعك إلى تناول موضوعه حساسة كهذه، وكيف كان استقبال القراء لمعالجتك لمثل هذه القضية؟ - الكتابة في حد ذاتها مغامرة، ورواية «سجين الزرقة» كانت مغامرتي الأولى، فحينما قررت كتابة هذه الرواية بالذات والتي كانت أول عهد لي بكتابة الرواية، كنت أعلم أني على وشك الدخول في كتابة عمل غير مضمون النتائج، أقحم نفسي في «عش الدبابير»، ولكن كان عليّ أن أمتلك الشجاعة الكافية للكاتبة، فصورة الطفل ونظرة احزن في عينيه وهو يتأرجح في مرجوحة بدار الأيتام أثناء حضوري فعالية خيرية، لم تفارقني، تملكّني شعور بالرغبة في الكتابة عنه، تخيّلت حياته حينما يكبر، ولاحت في مخيلتي أمّه، كيف أتت به، أين هي، كيف مشاعرها وهي تتخلى عنه؟ أسئلة كثيرة لم أجد لها إجابة إلا من خلال الكتابة، وكأن الكتابة كانت تفتح أمامي هذا العالم بشكل واضح، وتجيبني على أسئلتي. لقد كانت الفكرة أشبه بمطرقة تطرق قلبي ورأسي، لذلك كان لا بد لذلك الطرق أن يتوقّف، ولن يتوقف إلا بالكتابة، أردت أن انتصر لهذه الفئة المغيّبة تماماً من المشهد الاجتماعي، والمُنكرة وكأن ليس لها وجود، إلى درجة أنه لا يُعترف بهم كأشخاص لهم وجود ومعاناة لا يعلمها بها إلا الله. لقد أنصفتهم الجهات الرسمية الحكومية ولم ينصفهم المجتمع، ليقضون حياتهم وهم يدفعون ثمن جريمة أباءهم ويعابوا بها كوصمة عار طوال حياتهم. في هذه الرواية تعمّدت أن يسمع الجميع صرخة راشد وصوته ليدركوا معاناته، راشد الذي أتى كثمرة محرّمة لزنا محارم، ولصوت سالم اللقيط الذي عُثر عليه في «كرتون» مرمياً بالقرب من صندوق القمامة، هؤلاء موجودون بيننا، وما من مجتمع مثالي وفاضل بأكمله، مهما ادّعينا الفضيلة كمجتمعات عربية محافظة. لقد ظلّت هذه الرواية سنوات مخبأة في درج مكتبي، خشية رفض المجتمع لها، وحين أخرجتها لنور كنت كمن يحمل ثمرة محرمة بين يديه، وكما حملت شمسة راشد حين ولدته سفاحاً، لكن خالف المجتمع ظنّي وتقبّل القارئ «سجين الزرقة» قبولاً شرعياً وحسناً، ونجحت الرواية وحصلت على جائزة الإبداع الثقافي لإصدارات عام 2021 من الجمعية العمانية للكتاب والأدباء.
 
  • جاءت روايتك الحديثة تحت عنوان البيرق «هبوب الريح»، ترى ما أبرز الرسائل التي حملتها هذه الرواية؟ وما الجديد الذي تجترحه للقارئ؟ - بهذه الرواية تكتمل ثلاثية البيرق التي صدر الجزء الأول منها في عام 2021م تحت عنوان فرعي «حارة الوادي» ومن ثم صدر الجزء الثاني «سُراة الجبل» عام 2022 والآن بحمد الله وعونه صدر الجزء الثالث «هبوب الريح»، من دار الآن ناشرون وموزعون. هاجس كتابة هذه الرواية كان يسكن روحي منذ زمن طويل، منذ أن كان جدي يحدثني عن ذلك التاريخ القديم قبل النهضة المباركة 1970 على يد السلطان قابوس بن سعيد رحمه الله، فانتبهت أن في تلك الحكايات مالم اقرأه في كتب التاريخ عن تلك المرحلة الزمنية بالذات، وكنت بحاجة لقراءة أخرى لهذا التاريخ، ورؤية وجه آخر للحكاية، وحينما كتبت ثلاثية البيرق، كنت أكتب الكتاب الذي تمنيت قراءته، فأعدت تشكيل الحكايات التي سمعتها من جدي ومن والدي ورفاق والدي بما يتناسب مع أعراف كتابة الرواية، أردت أن أخلق عالم جديد مؤثث بتلك الأحداث التي أستطيع القول أنها مغيّبة، وعُمان كبلد عريق، كل زاوية فيه وكل درب وكل سهل وجبل ملهم للكتابة، في عُمان وراء كل حجر حكاية، فقط كانت تنتظر من يكشف عنها ويعيد كتابتها. وكوني مؤمنة أن الكتابة رسالة، أدركت أن هناك رسالة مفقودة لم تصل عن هذه الحقبة الزمنية، هناك رجال ونساء دفعوا سنوات شبابهم وحياتهم ثمناً لحرب دارت رحاها في دروب تلك الحارة القديمة وعلى سفوح الجبل الأشم. في هذه الرواية كنت معنيّة بالجانب الاجتماعي، بالمرأة، بالعائلة، بزوجة السجين أو المناضل وأمه، أردت تسليط الضوء على المشاعر الداخلية التي يعيشها ذلك الإنسان الفقير الذي تغرّب في بقاع الأرض، باحثاً عن لقمة العيش وعن التعليم، وتفاجأ أن الحياة خارج الحدود لا تشبه داخل الحدود، أردت لكتابة عن ذلك الإنسان الحالم بالتغيير في مرحلة زمنية كانت تعج بالأفكار الثورية التي سيطرت على مختلف أنحاء العالم، في مرحلة صعبة عاشها مجتمعنا العماني، مرحلة لاقى فيها الفكر الشيوعي لدى الشباب العربي والخليجي قبولاً في تلك الفترة، وكان من السهل انسياق هؤلاء الشباب المغتربين لهذه الأفكار الجديدة، أردت أن أسلّط الضوء على الصراع الذي عاشه أبطال الرواية أو بطل الرواية حمود وهو يرى نفسه متورطاً بالسير في درب شائك دامٍ وقد أتى من يحقق للبلاد الحلم بالتغيير، فماذا يريد وماذا يريد رفاقه؟ وقد أتى من يقول لهم» سأعمل بأسرع ما يمكن لجعلكم تعيشون سعداء من أجل مستقبل أفضل». ومد يده إليه قائلاك» عفا الله عما سلف»، فهل سيعود حمود من الطريق الذي سار عليه أم يواصل دربه ذلك ما سيعرفه القارئ في هذه الرواية؟
 
  • كيف ترين طبيعة العلاقة بين الكتابة الإبداعية والحرية في العالم العربي؟ - لا يكتب سوى الحرّ، وأعني بها الروح الحرة الجسورة، القادرة على خوض عباب محيط المغامرة. أي فكرة حين تحوّل إلى حكاية هي مغامرة، ولا يمكن أن تنجح تلك المغامرة إلا بوجود هذا الكاتب في بيئة حرّة وأرض ثابته يقف عليها حين ينوي التحليق بمخيّلته في عوالمه السردية. بكل أسف وفي الدول العربية ما زلنا نفتقد إلى الحرية التي تتوفر في بلدان أخرى من العالم، ما زلنا نكتب بحذر، وما زلنا نختار اللفظة المناسبة التي تلائم ذوق وأخلاقيات المجتمع الذي نعيش فيه، حتى لا يرفضنا المجتمع أو ينبذنا أو لا تجد كتبنا من يقرأها. إن خشية الكاتب من محاكمة المجتمع له تسبق خشيته من محاكمة السلطة، وكم من الروايات أو الإصدارات حكم عليها المجتمع بالإعدام لمجرد أن قارئ التبس عليه فهم المعنى، أو لم تناسب إحدى المفردات أخلاقه وقيمه، وفي مثل هذه الأجواء الملبدة بغيوم الحذر والترصّد، لا يمكن أن يتشكل إبداع حقيقي، فالإبداع الأدبي خصوصاً يحتاج إلى حرية، وإلى غياب عين الرقيب ومقصّه، وكم من الكتّاب الذين دفعوا حياتهم وحرياتهم ثمناً لكلمة كتبوها أو فكرة آمنوا بها لأنها لم توافق هوى الرقيب. ولكن ورغم ذلك مع الانفتاح الثقافي، وانتشار الترجمات، وانتشار مواقع التواصل الاجتماعي وسهولة النشر، أصبحت هناك مساحة كافية من الحرية للكاتب العربي، فلم يعد الكاتب ينتظر مساحة في صحيفة لينشر فيها ولا ينتظر تصريحاً بالنشر من جهة رسمية. لقد أصبحت وسائل النشر متاحة ومباحة للجميع، ودور النشر المنتشرة ساهمت أيضاً على نشر الأعمال الأدبية، وحتى وأن حصل ومنعت من العرض أو البيع، فإن وسائل النشر الإلكتروني موجودة، وأصبح بإمكان القارئ أن يقرأ الكتاب الذي يشاء بتنزيله أو تحميله من مواقع العرض أو البيع الالكترونية. ولكن هذه المساحة المفتوحة هي تحدٍ للكاتب المبدع، الكاتب الأصيل في صنعته، ففي زمن المتاح والمباح واستسهال النشر، عليه أن يراقب مستوى إبداعه، وأن يرقى بنفسه ويطوّر أدواته وتقنياته، لأنه في النهاية لن يبقى سوى الأصيل والهزيل سيذهب أدراج الرياح.
 
  • ترى ما أبرز الأدوات الفنية والأسلوبية التي تلجئين إليها في كتاباتك الروائية؟ - أني من أولئك الذين يهتمون كثيراً بالمكان، يلفتني المكان ولعله الدافع الأول والملهم والمحرّك لي للكتابة، أحب تفاصيل الأماكن خصوصاً الأماكن الأثرية القديمة، تغريني تلك الآثار المتهالكة والبيوت الآيلة للسقوط، وشيء ما يشدّني للبحث عن أسرارها، ويستفز لدي الرغبة بالكتابة، وكأني أرى الأشخاص الذين عاشوا في تلك الحارات وعبروا دروبها القديمة، ودسوّا حكاياتهم خلف تلك الجدران الطينية المتهالكة. لذلك يستطيع القارئ أن يرى ويلمس تفاصيل المكان في أعمالي وكأنه يعيشه. كذلك أحرص على انتقاء المفردات اللغوية المناسبة للفترة الزمنية أو المرحلة التاريخية التي تدور فيها أحداث الرواية، وما يتناسب مع الشخصية، ففي ثلاثية البيرق حرصت على كتابة الحوار باللهجة المحليّة لأني وجدت أنها مناسبة أكثر مع طبيعة الشخصيات. أكتب غالباً بلغة في متناول القارئ بكل مستوياته الثقافية، كذلك أعتني كثيراً بالجوانب النفسيّة للشخصيات في صفاتها الشخصية منها الشخصية الطيبة والشخصية المخادعة والشخصية الشجاعة أو القلقة، وكل ذلك يتضح للقارئ من خلال السرد أو حركة هذه الشخصيات وما تعبّر به عن نفسها من خلال الحوارات.
(صحيفة الدستور الأردنية, 27/12/2024)

غزالي لـ «الجريدة.»: «الشعر الكيميائي» بُعد حضاري للأدب العربي

«أصدرت موسوعة الشّعر الكيميائي من 3500 بيت محقق احتفاءً بتحقيق القصيد» ياسر السعديبمعادلة قد تبدو للكثيرين ـ حتى من نقاد الشعر ـ مستحيلة، في ظل اعتقادٍ ساد أزماناً طويلة بأن العلوم التجريبية تسير في وادٍ والشعر في نقيضه تماماً، دخل د. غزالي إلى عالم الكيمياء من بوابة الشعر، بعدما انفتحت أمامه خلال رحلة بحثية طويلة كوة ثقافية وعلميَّة أطل منها على عالم عجيب يلتقي فيه الخيال مع التجريب، والآداب مع العلوم. وفي حوار شكَّل الشعر عمود خيمته وأسبابها وأوتادها، قال الأستاذ المحاضر في قسم الدراسات العربية بجامعة باريس د. الهواري غزالي لـ«الجريدة» إن الشِّعر طور لديه حساسيَّة مذهلة تجاه العلوم، ليتحول لديه من مجرَّد هواية إلى وسيلته للبحث في الفكرة العاطفية قبل أن تتحوَّل تلك الفكرة إلى فلسفة، مضيفا أنه في ظل هذا العشق الشعري كان منطقيا أن تتمحور حوله دراساته من الليسانس إلى الماجستير إلى دبلوم الدِّراسات المعمَّقة إلى الدكتوراه لتعميق نظرته النقدية اللائقة به. وأضاف غزالي أنه اختار الدخول المنهجي إلى كنوز الشعر العريق من باب التَّحقيق، وهو الجهد الواعي الذي توجه بإصدار موسوعة الشِّعر الكيميائي، مبينا أن ذلك التنقيب التحقيقي أو التحقيق التنقيبي فتح له غرضاً جديداً في الشِّعر لم يتم تناوله ولا تداوله، أطلق عليه مسمى «الصَّنعويَّات»... حول تلك الرحلة ونتائجها وذلك الغرض المستحدث الذي يبشر به غزالي محبي الشعر والعلوم على السواء، كان هذا اللقاء، فإلى التفاصيل:هل ثمة وشائج بين عملك الأكاديمي وعالم الكيمياء؟ إنَّ عملي كأستاذ محاضر للغة العربية وعلومها وآدابها بقسم الدِّراسات الشَّرقية بجامعة بوردو الفرنسية أوَّلاً بين 2005 و2010، وبجامعة باريس ثانياً ابتداءً من 2012 إلى غاية اليوم، ثمَّ عملي كباحثٍ بمركز البحوث في تاريخ الآداب العالميَّة بمعهد الدراسات الشَّرقية الإينالكو بباريس، سمح لي بتقديم بحوث مستمرَّة بخصوص ما له علاقة بالأدب العربي، ولقد نشرت على سبيل المثال شهر أبريل الماضي بمجلَّة قسم الدِّراسات العربيَّة بجامعة غرناطة مقالا في التَّراث الكيميائيّ العربي. ويعتمد حضوري كأستاذ محاضر على تكوين طلبة ينحدرون من جميع جنسيات العالم في اللُّغة العربيَّة والفكر العربي والتَّرجمة. فدروسي التي أقدِّمها لا تتوقَّف على المستوى البيداغوجي حيث أعمل على تمكين الطَّلبة من التَّمكُّن في مجال اللُّغة، وإنَّما أيضًا على المستوى المهني، حيث أقوم بالمساهمة إلى جانب زملائي من مختلف الأقاليم اللُّغويَّة في تكوين مترجمين بقسم الماستر في عديد المجالات القانونية والأدبية والثقافيَّة والطبيَّة. بعد تخرُّج هؤلاء الطَّلبة، فإنَّهم يشتغلون ضمن مؤسَّسات مختلفة لغرض ضمان شبكة التَّواصل مع غير النَّاطقين بالفرنسيَّة. أمَّا بخصوص الكيمياء، فليس لعملي كأستاذ محاضر أيَّة علاقة، وإنَّما من موقع كوني باحثًا، كنت أفتِّشُ عن موضوع جديدٍ، فقادني حدسي أوَّلًا وبقصدٍ واعٍ إلى الشِّعر، ثمَّ بغير قصدٍ إلى مخطوط يضمُّ ديوان بن أرفع رأس الجيَّاني في الكيمياء، ثمَّ بلا قصدٍ ولا وعي وجدتُ نفسي أسبح في عالم الكيمياء.تهتم بعلم الشعر أكثر من الأجناس الأدبية الأخرى، ما سر هذا الاهتمام؟ هو اهتمام يفوق التَّصوُّرات، إذا عرفنا أنَّ الشِّعر أتخذه عندي مادَّةً خاما لكل بحوثي ودراساتي، فأنا أكتب الشِّعر بأنواعه المختلفة، ولقد أصدرت لغاية الآن خمسة دواوين شعريَّة وهي «أناشيد النُّبوءات المتوحِّشة» (2009)، «قلبٌ لا يُحسنُ التَّصديق» (2013)، و«للبحر صوت آخر على جسر ريالتو» (2021)، و«كتاب الغبطة المتصلة» (2022)، و«نزيلا قاسيون» (2023) وبالمناسبة، فلقد حصلتُ على الجائزة الأولى للشِّعر بالجزائر سنة 2008، وكان ذلك أمراً جيِّداً. إن الشِّعر بالنِّسبة لي تفويضٌ للرُّوح لانتقال في المكان الذي عرف أزمنةً مختلفةً، وفي هذا الانتقال إحساسٌ بالسَّفر في العوالم الدَّاخلية للانسان، والتي تسمح بطرح تساؤلاتٍ عن الذَّات والتَّاريخ والوجود في شكله عام. سأروي لك قصَّة حدثت لي وأنا بغرناطة، وهي قصَّة كتبتها شعرًا بديوان الغبطة المتَّصلة. عندما خرجتُ فجرًا متَّجها نحو باريس، وقبل الوصول إلى طليطلة، بين تلك الجبال المهيبة، وكان اللَّيلُ حينها لا يزال دامسًا والبرد قارسًا، فكَّرتُ بضرورة تزويد سيَّارتي بالزَّيت الميكانيكي، فوجدتني أقف على أوَّل محطَّة وقودٍ، أطلب من البائع أن يزوِّدني بذلك، فلم يفهم عنِّي ما طلبتُ، إذ حدَّثته بالفرنسيَّة التي من المفترض أن يكون قد استوعبها باعتبارها لفظة أوروبيَّة. فعندما لم أجد ما أحدِّثه به، تلفَّظت بالنُّطق العربي لمفردة الزَّيت، ففهمني على الفور. لقد أيقظت هذه المفردة في داخلي الكثير من الدَّهشة إذ لا يُعقل أن تتدخَّل العربيَّة في هذا المنأى الدَّامس بين الجبال الأوروبيَّة لتكون حلًّا. اللُّغة إرث للمكان والزَّمان معًا، والرِّحلة تجعلك تكتشف ذلك في أكثر الظُّروف تعقيدًا. تقول قصيدة زَيْتُ الطَّريق إلى طُلَيْطِلَة: - بِدَايَةَ العَامِ/ مِنْ شَهْرِ جَانْفِي الحَزِينْ/ أخْرُجُ من غَرْنَاطَةَ غَسَقًا/ أسْلُكُ بَيْنَ فِجَاجِ الطَّريقِ الشِّتوِيِّ إلى طُلَيْطِلَة/ فَلا أتَبَيَّنُ إلّا ضَوءَ سَيَّارَتِي/ يَعْدُو أمَامِي كَشَبَحٍ/يَجُرُّ خَلْفَهُ/ هَواجِس المَطْرُودِين نَحْوِي/ أتَسَاءَلُ/ هل سأَقْضِي الطَّريقَ إلى باريسَ/دُون تَعبِئَةٍ للزَّيتِ الميكَانِيكي - حَشَرْتُ سَيَّارَتِي فِي مَحَطَّةِ بِنْزِين/ أسْفلَ جبَلٍ غَابِيٍّ/ وسَألْتُ البَائعَ/ بِغَيْرِ لُغَةٍ/ فَلَمْ يتَبَيَّن قوْلِي/فتَذكَّرْتُ زَيْت الزَّيتون/ وقفلتُ مستَمِرًّا/ بـ«ـأثَّيْتِي» - في الطَّريقِ/ في غَسَقٍ أوروبِيٍّ/مُفْرَدَة الزَّيتِ العرَبيَّة/ أيَّدَتْنِي.اشتغالك في علم الشعر انعكس إيجاباً على الحدس العاطفي لأفكارك؟ أجل، لقد طوَّر الشِّعر عندي حساسيَّة مذهلة تجاه العلوم، فبينما كان مجرَّد هواية، صار وسيلة للبحث في الفكرة العاطفية قبل أن تتحوَّل هذه الأخيرة إلى فكرة فلسفيَّة، وفي ظلِّ هذا الاهتمام به، قمت بإنجاز أطروحة دكتوراه في علاقة الشِّعر العربي الحديث بالعالم الشَّفهي القديم بجامعة بوردو، وأطروحة دبلوم الدِّراسات المعمَّقة بالجامعة نفسها عن الشِّعر والتَّصوُّف، وأطروحة ماجستير قبلهما عن الشِّعر والإنشاد بجامعة تلمسان، وذلك لغرض تعميق نظري في التَّوجُّه النَّقدي الذي يليق بالشِّعر العربي. وفي ظلِّ هذا الهوس الدَّائم بالشِّعر، قمت سنة 2008 بترجمة الشَّاعر الفرنسي جون بول ميشال، الذي يعدُّ أحد أهم الشُّعراء الفرنسيِّين في هذه المرحلة، إلى العربيَّة، وذلك بإصدار ديوانه هذا الحظ وهذه النَّار بدار توبقال للنَّشر والتي يشرف على إدارتها الشَّاعر المغربي محمَّد بنِّيس.ما الذي دفعك إلى طريق تحقيق الشعر؟ لعلم الشعر أبواب كثيرة ومتعدِّدة، ومن بين هذه الأبواب التَّحقيق. ولقد أصدرت موسوعة الشِّعر الكيميائيّ خصِّيصًا للاحتفاء بتحقيق الشِّعر، قبل أن يكون ذلك احتفاءً بعلم الكيمياء. وعلى الرَّغم من أنَّني كشفتُ عن غرض جديدٍ في الشِّعر لم يتم تناوله ولا تداوله، إلَّا أنَّني أبقى مدينًا لحبِّي للشِّعر وارتباطي الوثيق به. وتسعى مهمَّتي في التَّحقيق من خلال هذه الموسوعة الشِّعريَّة إلى نفض الغبار عن أهمِّ قسمٍ من التُّراث العربي الذي طاله النِّسيان وهو الكيمياء. وتحتوي هذه الموسوعة على أكثر من 3500 بيت شعريٍّ محقَّقٍ بالكامل. وأعمل من خلال هذه الموسوعة على تأسيس غرضٍ شعريٍّ جديد، يُضافُ إلى قائمة الأغراض الشِّعريَّة التي عرفها العرب، كالغزليَّات، والطَّرديَّات، والمرثيَّات وغيرها. وهو غرضٌ اصطلحتُ عليه بالصَّنعويَّات نسبة إلى مصطلح الصَّنعة الذي يعود إليه الكيميائيُّون للإشارة إلى مهنة الكيميائي الذي يسعى إلى صناعة الذَّهب.هل كنت تهدف من خلال اصدارك إلى تحريك المياه الراكدة في هذا المجال فقط أم كان لك أهداف أخرى؟ في الواقع، لا يكمن الهدف من هذا المشروع في إخراج الدَّواوين الشِّعريَّة المغمورة إلى الوجود فحسب، وإنَّما أيضاً في الخروج بكتاب أكاديمي كاملٍ يحمل عنوان تاريخ شعر الكيمياء عند العرب: من القرن الأوَّل إلى القرن العاشر الهجري. وهو كتاب أستنتج من خلاله المشتركات الأساسيَّة بين هذه الدَّواوين سواء فيما له علاقة بغرض الصَّنعويات المغيَّب تمامًا عن الثَّقافة النَّقدية للأدب العربي. كما أنَّ الغرض من نشر أدب الكيمياء يكمن هو أيضًا في تطوير نظريَّة في النَّقد الأدبي تعتمد على تحليل الشِّعر المعاصر انطلاقًا من الرُّموز التي تناولها شعراء الكيمياء القدامى وانطلاقًا أيضًا من فكر عالم النَّفس السّويسري كارل يونغ الذي اعتمد هو الآخر على الكيمياء لتطوير مفهوم اللاوعي الجماعي والنَّماذج العليا. ولذلك، فكتاب مدخل إلى الأدب الرَّمزي الكيميائي الذي نشرته مطلع يناير من هذا العام يدرس شعر الشاعر العماني سيف الرَّحبي باعتبار أشعاره تجليًّاتٍ مشتركةً للرُّموز نفسها وللأحلام المتشابهة والتي تعكس اللَّاوعي كإرث إنساني جماعيٍّ باطني. وعلى غرار مارسولان بارتولي (1827-1907)، وإيريك هولميارد (1891 - 1959م) وماري لويز فون فرانز (1915-1998) تلميذة كارل يونغ، فإنَّني أحاول دعم الدِّراسات الفلسفيَّة الأوروبيَّة والعربيَّة لاسيما فيما له علاقة بتفسير علم الأديان والفلسفة، من خلال إخراج هذه الأعمال القديمة والتَّعليقات التي وضعها المفسِّرون القدامى كشرح علي بن أيدمر الجلدكي لديوان الشُّذور لابن أرفع رأس.هل ترى أن هذه النوعية من الدراسات الأكاديمية ستشهد رواجاً في العالم العربي؟ بالطَّبع، فالعالم العربي يتوفَّر على مخابر علميَّة جامعيَّة متخصِّصة، ومراكز بحوث قادرة على تعميق هذا المشروع، والذَّهاب به بعيدًا لإعطاء الأدب العربي والثقافة بعدهما الحضاري. لا بدَّ أن أشير فقط إلى أنَّ موضوع الكيمياء العربيَّة تتم دراسته بشكل مستمرٍّ في الجامعات السويسريَّة والألمانيَّة، فعلى سبيل المثال، نشرت يوليانا مولر، لعام 2023، تحقيقًا لكتاب حل مشكلات الشُّذور، لابن أرفع رأس، من رواية أبي القاسم محمد بن عبد الله الأنصاري، وطُبع التَّحقيق بالمعهد الألماني للأبحاث الشَّرقية ببيروت. وحلُّ مشكلات الشُّذور كتابٌ ألَّفه بن أرفع رأس إجابةً عن مجموعٍ من الأسئلة التي كان يطرحها عليه تلميذه أبو القاسم محمد بن عبد الله الأنصاري بحثاً عن شرحٍ الأبيات الواردة بديوان شذور الذَّهب الذي صدَّرنا به هذه الموسوعة. وتعدُّ البروفيسورة الألمانيَّة ريـﮕولا فورستر، إضافة إلى كثير من المستشرقين، من بين من يواصلون العمل على الكيمياء العربيَّة وعلى ابن أرفع رأس بالتَّحديد. فقد قامت هذه الباحثة بإصدار كتاب جماعيٍّ بالانجليزيَّة حول ابن أرفع رأس احتفاءً بمئويَّته التَّاسعة عام 2021. ولعلَّه من الجيِّد القول إنَّ هذا الموضوع لا يزال فتيًّا، وهو يحتاج إلى جهودٍ كثيفةٍ لاحتوائه، فشعراء كيميائيُّون لا تزالُ أسماؤهم مغمورةً ونصوصهم الكثيرة تنتظرُ التَّحقيق، وأعطيك مثالًا على ذلك. في منطقة الخليج العربي، يوجد شاعرٌ وكيميائيٌّ عمانيٌّ مغمور وهو الشَّيخ جاعد بن خميس الخروصي، لقد وجدتُ له أشعاراً في الكيمياء، واكتشفت أنَّ أحفاده يحتفظون بديوان شذور الذَّهب لابن أرفع رأس الجيَّاني وذلك بمكتبته القديمة بمنطقة العوابي، وهو ديوان قام بالتَّعليق عليه، كما قام بنظم أشعار في معارضةٍ واضحة لا غبار عليها.نشرت مقالاً عن موضوع الأندلسيات المقارنة بالقدس العربي، فهل هذا يعد هذا الموضوع استثناء خارج الشعر؟صحيح جدًّا، هو قفزة خارج الشِّعر اللُّغوي، ولكنَّه استمرارٌ في التقدُّم داخل الفكرة الأصيلة والعلوم والدِّراسات. فلقد قمت بداية عام 2023 بتأسيس مركزٍ متوسِّطيٍّ للدِّراسات الأندلسيَّة بباريس وأعقبتُ ذلك بفتح مكتبين بقرطبة وتونس. وذلك لغرض تطوير تصوُّرٍ علمي جديد يرتكز على مفهوم الأندلسيَّات المقارنة (Andalusismo comparado) وهو مفهومٌ أكاديميٌّ جديد.ما الإشكالية العلمية التي تعتمدها في هذا الاتجاه؟ لقد قلت في المنشور السَّابق الذي ذكرته أنَّ هذا التَّخصص يعتمد على إشارة بسيطة وهي أنَّ الأندلس ليست إقليمًا جغرافيا وإنَّما فكرة، ولم تكن واحدة وإنَّما متعدِّدة، ففضلا عن وجود أندلس بإسبانيا (باعتبارها إقليمًا ثقافيًّا ساهم في نضوجها المفكِّر بلاص إينفانتي)، توجد أيضًا أندلسٌ أخرى بتونس (حاضرة زغوان وتستور) والجزائر (حاضرة تلمسان والبليدة) والمغرب (حاضرة طنجة وتيطوان وشفشاون). ويفترض أنَّه قد حان الوقت، أمام تاريخ الدِّراسات المقارنة على الأقل، للدُّخول في مرحلة تأسيس نظريَّة حديثة للأندلس المتعدِّدة - لاسيما في مجال الاستشراف الثَّقافي - ولفتح المجال العلمي أمام الأندلُسيَّات المقارنة وتحويلها إلى تخصُّصٍ علميٍّ قائمٍ بذاته. وفي الواقع، يسمح فتحُ بابِ هذا المجال بالتَّقريب بين المناطق الحضريَّة للبلدان الأربع لما بين جنوب أوروبا وشمال إفريقيا (التُّونسيَّة والاسبانيَّة مثلًا) خصوصًا لغرض دراسة أوجه الشَّبه اجتماعيًّا وثقافيًّا، كتناول الآداب والفنون الأندلسيَّة المقارنة من خلال دراسة دواوين فريديريكو غارسيا لوركا المكتوبة بغرناطة مثلاً والأخرى المكتوبة بالعربيَّة بزغوان بقلم أبي القاسم الشَّابي مثلاً، أو دراسة الموسيقى الأندلسية بما في ذلك المقارنة التي يمكن أن تُعقَدَ بين الفلامنكو والمالوف.