بدعوة من منتدى شاعر الكوره الخضراء عبد الله شحاده وبالتعاون مع “الآن ناشرون وموزعون” أقيمت ندوة فكرية حول كتاب الشاعر الفلسطيني باسل عبد العال “الخيمةُ في الغابة” وذلك مساء الاثنين 30 حزيران 2025 في قاعة ملتقى السفير الثقافي في شارع الحمراء في بيروت .
الندوة قدمتها المهندسة روان صالحة وتحدث خلالها الشعراء : ميراي شحاده ، ميشلين مبارك والشاعر الفلسطيني أنور الخطيب .
أسهلت الندوة المهندسة روان صالحة بكلمة قالت فيها :
الهَيْئَاتُ الثَّقَافِيَّة،
أَهْلُ الْفِكْرِ وَالْأَدَبِ وَالشِّعْر،
الْمُنْتَدِين الْكِرَام: الْأُسْتَاذ أَنْوَر الْخَطِيب، الْأُسْتَاذَة مِيشْلِينْ مبَارَك، الْأُسْتَاذَة مِيرَاي شحادَة،
الْمُحْتَفَى بِكِتَابِهِ فِي هَذِهِ الْأُمْسِيَة الثَّقَافِيَّة: الشَّاعِر وَالْكَاتِب بَاسِل عَبْدُ الْعَال،
السَّيِّدَاتُ وَالسَّادَة،
الْحُضُورُ الْكَرِيم،
أَهْلًا وَسَهْلًا بِكُمْ فِي هَذِهِ الْأُمْسِيَة الثَّقَافِيَّة الَّتِي نَلْتَقِي فِيهَا تَحْتَ ظِلَالِ الْكَلِمَة، وَعَبْرَ دُرُوبِ الْحَرْف، لِنَحْتَفِيَ مَعًا بِإِصْدَارٍ جَدِيدٍ يُثْرِي الْمَكْتَبَةَ الشِّعْرِيَّة، وَيُضِيءُ قَنْدِيلًا فِي لَيْلِ الْحَنِين.
نَلْتَقِي الْيَوْم بِدَعْوَةٍ مِنْ مُنْتَدَى شَاعِرِ الْكُورَةِ الْخَضْرَاء عَبْدِاللَّه شحَادَة الثَّقَافِيّ، لِنَحْتَفِيَ بِإِصْدَارِ كِتَابِ “الْخَيْمَة فِي الْغَابَة” لِلشَّاعِرِ الْمُتَأَلِّقِ بَاسِل عَبْدِ الْعَال، وَالصَّادِر عَنْ دَار “الآنْ”. وَهُوَ مَجْمُوعَةٌ مِنَ النُّصُوصِ الشِّعْرِيَّةِ وَالنَّثْرِيَّة، الَّتِي كُتِبَتْ أَثْنَاءَ الْحَرْبِ الْوَحْشِيَّةِ الْأَخِيرَة عَلَى غَزَّة وَبَيْرُوت، فَكَانَتْ بِمَثَابَةِ شَهَادَةٍ وُجْدَانِيَّةٍ حَارَّة، سَجَّلَ فِيهَا الشَّاعِرُ تَفَاصِيلَ الْأَلَمِ وَالنُّزُوحِ وَالْفِقْدَان، بِلُغَةٍ صَادِقَةٍ تَنْبِضُ بِالْحَيَاةِ رَغْمَ الدَّمَار.
فِي هَذَا الْكِتَاب، تَنْبِضُ الْقَصَائِدُ بِلُغَةٍ شَفَّافَة، مُضَمَّخَةٍ بِرَائِحَةِ التُّرَاب، وَبِصَوْتِ الذَّاكِرَة، وَبِأَلَمِ اللُّجُوءِ الَّذِي لَا يَشِيخ.
يُهْدِي الشَّاعِرُ بَاسِل عَبْد الْعَال نُصُوصَهُ إِلَى الشَّهِيد الْخَال نِضَال عَبْدِ الْعَال، الَّذِي شَارَكَهُ الرُّؤْيَةَ وَالرِّسَالَة، فَجَاءَتِ النُّصُوصُ مُثْقَلَةً بِالْحُبِّ وَالْحَنِينِ وَالْوَفَاء، وَمَع ذَلِكَ، لَمْ تَكُنْ وَحِيدَةً؛ إِذْ ظَلَّ الْأَمَلُ حَاضِرًا، كَخَيْطِ نُورٍ يَمْتَدُّ بَيْنَ خَيْمَةٍ فِي غَابَةٍ، وَقَلْبٍ لَمْ يَفْقِدْ يَقِينَهُ.
ثم قدمت المهندسة صالحة الشاعرة ميراي شحاده فقالت : نَسْتَهِلُّ نَدْوَتَنَا بِكَلِمَةِ مُنْتَدَى شَاعِر الْكُورَة الْخَضْرَاء عَبْدِاللَّه شحَادَة الثَّقَافِيّ.
مِيرَاي شَحَادَة لَيْسَتْ فَقَطْ رَاعِيَةً لِلْأَدَبِ وَالشِّعْرِ، بَلْ حَارِسَةً لِلهُوِيَّةِ الجَمَالِيَّةِ لِلْكَلِمَة.
صَاحِبَةُ رُؤْيَةٍ تُؤْمِنُ بِأَنَّ الثَّقَافَةَ لَيْسَتْ تَرَفًا، بَلْ ضَرُورَةً، وَبِأَنَّ الْفِعْلَ الْأَدَبِيَّ لَا يُقَاسُ بِعَدَدِ الْحُضُور، بَلْ بِصِدْقِ التَّأْثِير وَعُمْقِ الْأَثَر.
وَلَكِنَّ الْحِكَايَةَ لَمْ تَبْدَأْ مِنْ قَاعَة، وَلَا مِنْ مُنَاسَبَة، بَلْ مِنْ إِيمَانٍ شَخْصِيّ، مِنْ حُلْمٍ صَغِيرٍ تَشَكَّلَ فِي قَلْبِ الْكُورَة، حِينَ شَعَرَتْ مِيرَاي أَنَّ الصَّوْتَ الشِّعْرِيَّ فِي وَطَنِهَا بِحَاجَةٍ إِلَى بَيْت، إِلَى حِضْنٍ يَجْمَعُهُ، إِلَى مِنْبَرٍ يَصُونُهُ وَيُعْلِي شَأْنَهُ.
هِيَ الَّتِي جَمَعَتِ الْأَجْيَالَ تَحْتَ سَقْفِ الْكَلِمَة، وَصَارَتْ مِرْآةً تَعْكِسُ مَا فِي الْكُورَةِ مِنْ خُضْرَةٍ شِعْرِيَّة.
فَلْتَتَفَضَّلْ إِلَى الْمِنْبَرِ الْمُهَنْدِسَة مِيرَاي شحَادَة، حَامِلَة الشُّعْلَة وَرَاعِيَة الْمَعْنَى.
مداخلة الشاعرة ميراي شحاده :
ثم القت رئيسة منتدى شاعر الكورة الخضراء عبد الله شحاده الشاعرة ميراي شحاده كلمة قالت فيها :
الحضور الكرام
أهل الحرف وكرامة الحبر المنبثقة من صحوة ما بعد الحرب.
المنتدين الأصدقاء
والمحتفى به الصديق الشاعر باسل عبد العال.
كدائرة رسمتْها أقدار الأبجدية بين أفقيّة الجدول وعاموديّة الغيم ، وبين امتشاق الألف واحتضان الياء للنور والحياة، حيث تتكامل المعاني الثقافيّة بجوهر الإنسانيّة وتتموسق الحروف أعلى من الجدران وأبعد من الحدود…هكذا هي روابط المحبة بين منتدى شاعر الكورة الخضراء عبدالله شحاده الثقافي ومركز زاوية رؤية الثقافيّة والقيّيمين عليه من إداريين وناشطين ولاسيّما المحتفى به اليوم، الصديق باسل عبد العال، المتوشّح بجلنار عكّا وعنب الكلام والزافرةُ أشواقه إلى أساور حبيبته، إلى فلسطين وياسمينها… حيث العطر لا يُهزم، يفتحُ بتلاتِهِ فوق الحصار، وفي فمِ الذاكرة…وينمو على جدران المنفى، ويُزهرُ في فوهة البنادق، وبين كلّ سطر وسطر نخبّئ له مفتاح العودة في إصدار جديد يحمل في طيّاته روعة المجاز وقبح المغتصبين!
أهلًا بكم في أمسيتنا “الخيمة في الغابة!” أية خيّمة وأيّة غابّة ؟ فالخيمة تكاثرت حتّى ملأت بقاع الأرض وأنجبت لنا خيمات و خيبات… والغابة فاحت منها رائحة الموت وعفونة النعوش الزكيّة!
محكوم علينا هذا القلق الوجوديّ، ومحكوم علينا التيهُ بين المعنى والعبث، وهذا الإنصاتُ الثقيلُ لصمتِ المصير، وهذا التوقُ الأبديُّ إلى خلاصٍ لا يأتي.
وكأنّ الباسل يقول: هناك من يعبث بالموسيقى ويبدّد سلّم النوتات إلى أزيز مسيّرات تنخر العظم وتثقب الروح؟
كم يلزمنا بعدُ يا أحبّة من مواسمَ هجرة وتهجير، من ترحال ورحيل؟ تراكمت فوق أجسادنا آكام من الرمال فبِتنا مزروعين في صحارى الغيب، يا خوفنا إن تثمُر في الجذور مزيدًا من القلق والأرق والضياع.
هل حقًّا تُسعفنا في كينونتنا المهمشّة ووجودِنا المغتَصب كل هذي القصائد والرسائل وحبر الخيبات المدوَّن في أعشاش العصافير المقفرة؟!
وأيّ معنى نبتغي، وأي جوهر إنسانيّة به نغتني! وكلّ تلك الآبارِ القاتمة و “زليار” يوسف يُرمى بهم في الهشيم العربي ! تلك قميص يوسف يا قيثارة السماء، لما هذا الرقص في النار، لما شمسك بخيلة عازمة على الفرار ! والكلّ محتارٌ يجول في وهم وخيال! لما كلّ هذا النزف في كتاب باسل وجميع الكتب الأخرى التى تولدُ من مرّ وعلقم وتكمل السبيل بالأمرّ والأقسى.
دَعَوْنا جميع الشعراء والأدباء والفنّانين والمأدبةُ هي من أشلاء يبكونها يتامى وثكالى، قدرهم حربٌ لا بل حروبُ وفي اليد سُبحةُ صلاة، فلم يأتِ سوى الحزانى الأرامل منهم ليخطّوا تاريخ عذاب أمّة مفجوعة بترابها، بفجرها ونجومها!
إلى أين بعد، نشدّ الرحال وفي اليمنى خيمة وكفن في اليسار!
وختمت الشاعرة شحاده بالقول : مبارك باسل عبد العال، هذه الأضمومة من صرخات روحك التي تقتلعُ الدفءَ من قلوبنا والنور من عيوننا ونحن نقرأ كلّ هذه التفاصيل، نشتمّ رائحة الدخان ونختنق بها في ذعر وارتجاف. تزفر العبارات معك وفي يراعتك طينُ البيوت المهدّمة وأسئلةٌ عن أمس تهاوى في خطاه ودميةٌ أضاعت طفلتها بين الركام. أبدعت في حياكة المواجع وارتجافات الخطى ورسم الظلال الباكية
ومنذ القافلة الأولى.. جراحٌ لا تريمْ.. أصبح الوطن الخيمة، خيمة في غابة.. لا سقفَ فيها غير الدعاءْ
كلما اشتدَّتْ رياحُ البُعدِ… ينبتُ في السماء ألف منطاد…ولا بد للطائرة الورقيّة أن تصفع مسيّرة الغرباء…لا بد أن نُطفئ غسق الأحزان ونغفوَ في أحضان النرجس بسلام فـ”سُنّي حديد السيف، قد أتت الخيول يا سنيّة”.
وإلى رؤيا وخطى جديدة والتماعات فكريّة إبداعيّة أخرى من لدنك يا صديقي الشاعر والأديب باسل عبد العال.
ولو أن كتابك هذا لم يولد من رحم منشورات المنتدى، إنّما أنت هو ابنه وراع من رعاته وفي قدسية الكلمة وجرن معموديتها، نحن أبناؤها ورسلها نلتقي باسمها ونرفع الصلوات.
كَلِمَة تَمْهِيدِيَّة لِلشَّاعِرَة مِيشْلِينْ مبَارَك:
ثم قدمت المهندسة صالحة الشاغرة ميشلين مبارك بكلمة قالت فيها : وَبَيْنَ الْكَلِمَة الْأُولَى الَّتِي سَكَنَتِ الرُّوح، نَمْضِي الْآن إِلَى الْكَلِمَةِ الثَّانِيَة، إِلى قَصِيدَةٍ تُزْهِرُ بَعْدَ الدَّمْعِ، وَتُشْرِقُ مِنَ النُّور.
مَعَنَا الشَّاعِرَة وَالْإِعْلَامِيَّة مِيشْلِينْ مبَارَك، ابْنَةُ الْحُرُوفِ الَّتِي خَبَزَتِ النُّورَ وَالْمَعْرِفَةَ مَعًا، وَالَّتِي لَمْ تُولَدْ مِنْ مَدْرَسَةٍ أَدَبِيَّةٍ فَحَسْب، بَلْ مِنْ بَيْتٍ كَانَتْ فِيهِ نُذُورُ الْأُمّ، صَلَوَاتٍ تُسْتَجَابُ، وَالْمَحَبَّةُ سِلَاحًا فِي وَجْهِ الطَّائِفِيَّةِ وَالْحَرْب.
تَكْتُبُ مِيشْلِينْ لَا كَمَنْ يُدَوِّن، بَلْ كَمَنْ يُصَلِّي بِالْكَلِمَة.
تَقُولُ فِي دِيوَانِهَا “أَنَا بَيْرُوت”
“أَنْتَمِي إِلَى الرُّوحِ الَّتِي تُشْرِقُ مِنَ النُّور، إِلَى الْقِيَامَةِ الَّتِي تُزْهِرُ بَعْدَ الدَّمْع، إِلَى الرِّيحِ الَّتِي تُسَافِرُ فِي الْحُبّ، أَنَا زَهْرَةٌ تَعَلَّمَتْ أَنْ تَنْبُتَ فِي كُلِّ الْفُصُول”
فَلْنُصْغِ الْآن إِلَى بَيْرُوتَ وَهِيَ تَتَكَلَّم، إِلَى الْقَصِيدَةِ وَهِيَ تَتَنَفَّس.
مداخلة الشاعرة ميشلين مبارك :
ثم قدمت الشاعرة والكاتبة ميشلين مبارك مداخلة حول الديوان قالت فيها :
الخيمة في الغابة للشاعر باسل عبد العال، وفي العنوان رموزٌ تغوص في المعنى:
هي الكلمة في غابة القصائد، وفي كلّ الأماكن
وهي الحماية في المنفى، وهي البيت المتنقل على امتداد خرائط الأوطان
هي الظلال تحت الأشجار الباسقة، وهي الشجرة الواقفة في وجه كل العواصف.
لطالما قلت: إن أردت أن أتعرف على شخص، عليّ قراءة نصه.
وأنا أعرف تمامًا نص باسل. فهو كالشجرة الراسخة جذورها في باطن الوطن وأغصانها الوارفة من روحه، من فلسطين إلى كل البلدان. في شخصيته الهادئة يعبّر عن الراحة ويفرش في ظلال نصوصه المحبة والعطاء حتى ليتكامل الفرع مع الأصل.
في ديوانه الصادر حديثاً عن “الآن ناشرون وموزعون” يُطالع القارئ بادئ ذي بدء الإهداء: إلى الشهيد الخال أبو غازي نضال (من أجل رؤيتنا المشتركة في حضرة المهمة النبيلة) فالظاهر أنّ الشاعر كما خاله يحملان الرؤية المشتركة لرؤى صادقة ترافقهما في الحياة. وفي الواقع هذه الرؤية يتشاركها الشاعر أيضًا مع آخرين، كالروائي الشهيد نضال عبد العال وله قصيدة مهداة في متن الديوان.
هذه الرؤية التي يستهلها الشاعر في البحث عن الذات في هذا العالم، هي بمثابة قصائد تغفو على خاصرة الجرح ومن الجرح تُنسج الحكايات، حكايات مهداة إلى الأصدقاء، ومن خيوط الهوية يُحيك ذكراهم، من فلسطين إلى الشام فبيروت إلى فلسطين، والإلهام يجري على امتداد الرؤى، من عبور مُريد إلى الحق مرتويًا من كأس حيفا وروح الشاعر ما برحت تصلي صلاة الخلود.
فغفوة الديك لم تعلن بزوغ الفجر لأن الحرب قائمة وأطفال الحجارة أضاعوا الربيع.
يصحو باسل ليكتب نصه، فيرسم كونًا يشبه نقاء الشاعر، يستعير من البحر زرقته ليلون ذبول هذا العالم، يُنزل الشمسَ على مسرح الحياة ليبعث الروح في روزنامتها المملة. لكنه لا يكتفي، هو الذي لا يعرف الانكسار، ألم أقل لكم إنه شجرة راسخة. فروعها تعانق الريح وتدنو من غيمة فوق الشرق، فوق حفاة حنين ينتظرون النور، فوق حبّ لن يذبل.
وهل يقوى الطوفان على هذا الحب؟
ننتقل مع باسل إلى الجزء الثاني من الديوان، الذي يستهله بقصيدة “مديح الطوفان” المختلفة في الأسلوب والمضمون عمّا سبقه، في هذه القصيدة ينادي النبي نوح ليضرب الظلم والفساد فيجمع شظايا الروح في شهداء فلسطين وما تحمله هذه القصيدة من رموز الثبات على الصبر والحق وصولاً إلى تطهير الأرض.
ولا بدّ هنا أن يكون لغزة مكانٌ في قلب الشاعر وقلب الخيمة ووسط غابة القصائد، فغزة وإن كانت هي الصباح الحزين، هي ماء الحياة الذي يروي العشاق، وهي جنة الفضائل، فيها البواسل تصرخ لباسل وهو يخلدها بالحبر والدمع.
الخيمة في الغابة وهي القصيدة التي يحمل الديوان عنوانها، مهداة إلى صفية، صفية غسان كنفاني وقد تكون صفية كلّ فتاة عربية، يبوح لها الشاعر بحقيقة القضية، بما آلت إليه جغرافيا الدم والدموع، وما يحمله المستقبل من عزم وخلود.
الحرب هنا والحرب هناك، تسجننا الذاكرة في عتمة نفق نظنه لا ينتهي، نربط المتخيل بالواقعي في سردياتنا، وبين فكرة الموت وفكرة الفردوس، وبين المنفى والعودة، تتعدد الرؤى وتكبر ظلال الشجرة الصغيرة التي ارتوت بدم الشهداء، لأنها عرفت المعنى فكسرت السجن، وفي ازدحام الطريق لامست أنفاس السماء وهي تغني:
“خذي مني الزنابق قبل أن تجف
وخذيني إليكِ قبل أن أجف
وأتساقط كالأوراق في هذا الخريف الطويل”.
كَلِمَة تَقديم الشَّاعِرِ أَنْوَر الْخَطِيب:
بعد ذلك قدمت المهندسة روان صالحة الشاعر أنور الخطيب بكلمة قالت فيها :
وَهَا نَحْنُ نَصِلُ الْآن إِلَى الْمُدَاخَلَةِ الثَّالِثَة، وَكَأَنَّنَا نَخْتِمُ الْأَفْكَارَ بِمَاءِ زَهْرِ الْكَلِمَةِ، وَنُتَوِّجُ أُمْسِيَتَنَا بِصَوْتٍ لَهُ وَقْعُ الْوَطَنِ وَصَدَى الْغُرْبَة.
نُقَدِّمُ لَكُمْ الْكَاتِب وَالشَّاعِر وَالْمُتَرْجِم وَالْإِعْلَامِيَّ الْفِلَسْطِينِيّ، الْأُسْتَاذ الْمُبْدِع أَنْوَرَ الْخَطِيب، الَّذِي تَصَاعَدَ مِنْ حُرُوفِهِ بَخُورُ الذَّاكِرَةِ وَالْمَنْفَى، وَأَغْنَى الرِّوَايَةَ وَالشِّعْرَ وَالصَّحَافَةَ بِآثَارٍ خَالِدَةٍ لَا تُمْحَى.
هُوَ الَّذِي قَال:
“خُذُوا كُلَّ الشِّعْرِ يَا سَادَتِي، وَامْنَحُونِي فَرَاشَةً فِي وَطَنِي أُطَارِدُهَا وَلَا أَلْتَقِطُهَا…”
مَعَهُ شَمَمْنَا رَائِحَةَ النَّار، وَعِشْنَا فُصُولَ الْأَلَمِ وَالْأَمَل، الَّتِي لَا تُجَسِّدُ الْوَاقِعَ فَقَطْ، بَلْ تَحْفِرُ فِي الْوَعْي، وَتَسْبِرُ أَعْمَاقَ التَّجْرِبَةِ الْفِلَسْطِينِيَّةِ بِصَوْتِ الطِّفْل، وَصَمْتِ النِّسَاء، وَحِيرَةِ الرِّجَال.
فَلْنُصْغِ بِالْقَلْب، وَنُرَحِّبْ بِالْأُسْتَاذ أَنْوَر الْخَطِيب.
تَفَضَّلْ.
مداخلة الشاعر أنور الخطيب :
حين أكون أمام إبداع شاعرٍ فلسطيني، يسكن في مخيم، لا أبحث عن معنى الوطن، لآنه ملتبس، بين الخيال والحلم والحقيقة، ما يشكّل عذاباً للشاعر، ولا أبحثُ عن معنى الغربة، لأنها مجسدة أمامه في جُزيئيات يومه، ولا عن طبعه، فهو إما حالم حتى الثمالة، وإما واقعي حد الفجيعة، ويجب أن أتقبّلَ الاثنين، ولا أبحث عن حبيبته، فهي تكبر لتصبحَ على مقاس الوطن، وتصغر لتصبح بحجم دمعة. ولكن، يجب أن أبحثَ عن طقوسِ هذا المبدع، كيف يخترقُ جدرانَ المخيمِ بصورةِ شعرية، وكيف يحوّل لُفافَةَ الزيتِ بالزعترِ، إلى طبقِ من الكافيار، كيف، كيف..؟ ولحظّي، عثرتٌ على طقس باسل عبدالعال الذي يشبه النصّ المفتوح، بنصه الشعري، وسرده الشعري، وسخريته الشعرية..وجدت باسل ويسأل ويسأل، حتى يتحولَ العالمُ أمامه إلى علامة استفهام، ويرفضُ أن يتحوّل الشاعرُ إلى علامةِ استفهام، لأنه الجوابُ، الأول والأخير..
لنبدأ بالتعرّفِ إلى طقوسِ باسل عبد العال، ثم ننتقلُ إلى الأسئلةِ، ثم إلى الأجوبة.. التي إما أن تكون قصيدة، وإما أن تكون لوحة، وأغلبُ الظن أن الريشةَ ستتغلّبُ على القلم..
الطقس: يجلس الشاعر ليلاً على الطاولة/ يكتب فوق الظلام/ ولأنه يصحو أخيراً، يكتب الآن انتصاراً للرؤى هذي القصيدة”، ويقول: (الليل ليس صديقاً للذين يعشقون الشمس في الصباح/ وليس صديقاً للذين يكرهون النوم على كنبة.. ويبدأ بالتساؤل: (هل الحوار متاح على درجات المسارح؟ عالم الشاعر غامض/ والنهار مصاب بداء القصيدة..ورغم ذلك، يدقّ الخشبة ويسأل: أدق على الباب: أين أنا في المكان؟
ثم يحضّرُ روح الشاعر الكبير الراحل مريد البرغوثي: (أكان عليك عبورَ المساءِ/ وأنت تريد المزيدَ من الانسجام؟ أكان عليك انتظارَ الحقيبة/ حتى تعيدَ القصيدةُ دورتها في البلاد التي أدمنتنا عرايا؟
وحين لا يجيب مريد/ يسترق الشاعر السّمْعَ لحديث الأرض:
سأَلَتْ أمي بائع الليمون: من أي أرضٍ هذا؟
قال: من الأرضِ البعيدةِ
قالت: كم بحراً عبرتَ لترى الأرضَ البعيدة؟
ولا تتوقف الأسئلة عند الشاعر، بل تبدأ: (أين أسئلتي كلّما رحتُ أنظر؟ أين أجوبتي في الرؤى..)/ ويسأل: في غابةٍ أقصى الرؤى، هل تمزحين مع الذئاب، يفوح منها عطرُ موتٍ يا صفية؟
ويسأل: (هل عرفتَِ حقيقةَ الصّبّار في الوطن القتيل؟ جغرافيا.. دمع ودم..هذا قليل..
كنتُ أقول له: كيف تكتب؟ أين، متى..
قال: عندي طقوسي في صنع مستقبلي..
ويستمر الشاعر في طرح الأسئلة، على نفسه، على الآخر، على الوطن، إلى أن يأتيه اتصال من الضاحية الجنوبية لبيروت:
– كيف حالكم في الشمال؟ هل يمكنك أن تأتي لكي تستلمَ بعض الأوراق التي تركتَها هنا؟
– إلى أين؟
– إلى بيروت نحن ثابتون وباقون، والحرب لم تقض على عزيمتنا…
يعود ليسال: (كيف يشعر الغريب بغربته في وطنه؟ وكيف يشعر اللاجئ بأنه المُضيفُ للضيف المواطن/ النازح..// وجميعُهم يسألُ: متى يأتي الغد؟
فيجيب الشاعر هذه المرة: (في كل ساعة يتغيّر المشهد، لا شيء على حاله في الحرب، لا المِزاجُ ولا الشهواتُ ولا القدرةُ على حريةِ الاختيار، فالعدو الإسرائيلي يخوض حربََ الإِبادةِِ ضد البشرِ والحجرِ، فكيف نعرفُ شكلَ هذا الغد؟)
وحين يرتبك في لذة السؤال أو جحيمه، يذهب الشاعر إلى الحب، ويرى: (أن تنتمي للحبِّ يعني: (أن تحبَّ الريحَ وهي تنام بينكما/ وتوقذ فيكُما سرّ العطور الغافية..).
وأخيراً، يطل الشاعرُ من جِراحِهِ ليسألَ السؤالَ الأخير: (تُرى، هل أنت منسيّ بذاتك؟)…وما بين الوعي واللاوعي، يصحو، ثم يسأل من جديد: هل أنت حيّ؟
فيجيب بفرشاته المناضلة، يبدأ بالرسم وهو يقول: ((سأرسم كوناً على عجل/ ليس فيه الذي فيه/ لا يحتوي عالما عارياً مثل هذا/ ولا زمناً عابساً مثل هذا/ ولا قمراً ناقصاً مثل هذا/ ولا يحتوي منزلاً شارداً مثل هذا، ولا شاعراً تائهاً مثل هذا ..)) وأنا أقول، بل يحتوي شاعراً رائعاً مثل باسل عبد العال
الشاعر أنور الخطيب خلال الندوة ، وتظهر الى جانبه الشاعرة ميراي شحاده
كَلِمَة تَقديم الشَّاعِر بَاسِل عَبْدِ الْعَال:
وفي ختام الحفل ، قدمت المهندسة صالحة الشاعر باسل عبد العال بكلمة قالت فيها :
وَكَانَ يَقُولُ: “إِنَّ الرِّوَايَةَ بِنْتُ الْحَقِيقَة، سَرْدُ الْهُوِيَّةِ فِي صُورَةِ الْجَدّ.”
كُنْتُ أَقُولُ لَهُ: “كَيْفَ تَكْتُبُ؟ أَيْنَ؟ مَتَى؟”
قَالَ: “عِنْدِي طُقُوسِي فِي صُنْعِ مُسْتَقْبَلِي، فِي الْخَنَادِق.”
قُلْتُ: “فَأَنْتَ الْوَحِيدُ، الصَّدِيقُ، الَّذِي يَلْتَقِي فِيهِ هٰذا الثُّنَائِيّ.”
كَانَ هُوَ الْعَسْكَرِيَّ الرِّوَائِيّ، يَسْرُدُ، ثُمَّ يُخَطِّطُ، ثُمَّ يُقَاوِمُ، ثُمَّ يُحَرِّرُ سَرْدَ الرِّوَايَة، ثُمَّ يَعُودُ إِلَى الْخَنْدَقِ الْعَسْكَرِيّ لِكَيْ يُصْدِرَ الْقَوْلَ بِالْفِعْل، دُونَ الشِّعَارَات.
كَانَ يُقَاوِمُ بِالسَّرْدِ سِرًّا، وَكَانَ يُقَاوِمُ بِالسَّيْفِ سِرًّا.
هٰذِهِ الْكَلِمَاتُ لَيْسَتْ مُجَرَّدَ تَذَكُّر، وَلَا مُحَاوَلَةً لِاسْتِحْضَارِ غَائِب، بَلْ هِيَ جُزْءٌ مِنْ حِوَارٍ دَامَ طَوِيلًا بَيْنَ الشَّاعِر بَاسِل عَبْدِ الْعَال وَخَالِهِ الشَّهِيد نِضَال عَبْدِ الْعَال،
حِوَارٌ لَمْ يَكُنْ فِي الْوَاقِعِ فَقَطْ، بَلْ فِي الْوُجْدَان، فِي الذَّاكِرَة، فِي الْخَيَال، وَفِي اللُّغَة.
فِي هٰذِهِ الْكَلِمَات نَجِدُ خَيْطًا خَفِيًّا بَيْنَ الدَّمِ وَالْحِبْر، بَيْنَ مَنْ قَاوَمَ بِالسَّيْف، وَمَنْ حَمَلَ الْكَلِمَةَ دِرْعًا، بَيْنَ مَنْ سَكَنَ فِي الْخَنْدَق، وَمَنْ أَقَامَ خَيْمَتَهُ فِي الْغَابَة.
“الْخَيْمَةُ فِي الْغَابَةِ “لَيْسَ عُنْوَانًا لِكِتَابٍ فَحَسْب، بَلِ اسْمٌ لِمَكَانٍ رَمْزِيّ، حَيْثُ يَسْكُنُ الْوَطَنُ فِي الشِّعْر، وَتَسْكُنُ الذَّاكِرَةُ فِي الْجَمَال، وَحَيْثُ تَتَقَاطَعُ الْحِكَايَةُ الشَّخْصِيَّةُ مَعَ السَّرْدِ الْجَمْعِيِّ لِلْأَلَمِ الْفِلَسْطِينِيّ، وَالْهُوِيَّة، وَالْإِنْسَان.
نَقِفُ الْيَوْمَ أَمَامَ شَاعِرٍ لَا يَكْتُبُ مِنْ تَرَف، وَلَا مِنْ مَسَافَة، بَلْ مِنْ قَلْبِ التَّجْرِبَة، مِنْ جُذُورِ الْأَرْض، وَمِنْ طِينِ الْحِكَايَة.
بَاسِل عَبْد الْعَال، شَاعِرٌ وَأَكَادِيمِيٌّ فِلَسْطِينِيّ، أُسْتَاذٌ جَامِعِيّ، وَبَاحِثٌ فِي قَضَايَا الْهُوِيَّةِ وَالسَّرْد، وَمِنَ الْأَصْوَاتِ الَّتِي تَجْمَعُ بَيْنَ الْعُمْقِ الْإِنْسَانِيّ، وَالطَّرْحِ الْعِلْمِيّ، وَاللُّغَةِ الشِّعْرِيَّة.
تَحْمِلُ كِتَابَاتُهُ مَا يَتَجَاوَزُ الْحَرْف، لِتُصْبِحَ وَثِيقَةً، وَحُضُورًا، وَوَعْيًا.
فَلْنُصْغِ جَيِّدًا لِهذَا الصَّوْتِ الَّذِي لَا يَعْلُو، بَلْ يَنْفُذ،
لِلشَّاعِر وَالْمُرَبِّي وَالْكَاتِب،
ابْنِ الْأَرْض، وَابْنِ الذَّاكِرَة،
بَاسِل عَبْدِ الْعَال.
فَلْيَتَفَضَّلْ
الشاعر باسل عبد العال
وختام الندوة مسكا مع الشاعر باسل عبد العال الذي شكر منتدى شاعر الكورة الخضراء ورئيسته الشاعرة ميراي شحاده ودار الآن في الأردن الذي نشر ديوانه ، كما وجه التحية للمشاركين في الندوة الشعراء شحاده ومبارك والخطيب ، كما شكر الحضور ثم ألقى قصائد من ديوانه الجديد ” الخيمة في الغابة ” كما ألقى نصوصا نثرية من الكتاب .
الشاعر باسل عبد العال
وقالت المهندسة روان صالحة في اختتام الندوة :
نَطْوِي الْآن صَفْحَةَ الْندَوَة، لَكِنَّنَا نُبْقِي أَبْوَابَ الْمَعْنَى مُشْرَعَة، وَالْكَلِمَةُ حَيَّةٌ فِينَا.
شُكْرًا لِحُضُورِكُمْ وَلِإِصْغَائِكُمْ، وَلِقُلُوبِكُم الَّتِي الِتَقَتْ مَعَنَا فِي الْخَيْمَة، وَسْطَ الْغَابَة حَيْثُ لَا يُنْسَى الْحَنِين، وَلَا يُطْفَأُ الْأَمَل.
(تغطية ندوة كتاب “الخيمة في الغابة”، منصة ميزان الزمان، 1/7/2025).