“جسر عبدون”: أكثر من رواية!

“جسر عبدون”: أكثر من رواية!


class="inline-block portfolio-desc">portfolio

text

    رشيد عبد الرحمن النجاب
    كاتب أردني

    يشكل جسر عبدون جزءا من الطريق الدائري الأوسط وفقا للتسمية الرسمية، ولست بصدد تحديد أبعاده وإحداثياته في هذه السطور، فليس هذا من أغراضها، وهو على أي حال معلم معماري بارز ينطوي على قدر من الجمال، ويشكل مدخلا إلى حي عبدون للقادم من جهة الدوار الرابع، ومن هنا جاءت تسميته.
    ولكن، ما الذي جعل الروائي قاسم توفيق يتخذ من هذا الجسر عنوانا لروايته؟ وما الأخبار والأفكار والمعاني التي أراد الكاتب توصيلها للقارئ عبر هذا الجسر؟!
    وقد حمل الغلاف عبارة بخط صغير تحت العنوان تقول: “أكثر من رواية”، فما الذي يعنيه الكاتب؛ هل هي إشارة إلى عدد الروايات التي يتضمنها هذا العمل، ربما اثنتان، أو ثلاث أو أكثر؟! وبالرغم من وجود ما قد يرجح هذا التفسير في متن الكتاب إلا أن ثمة احتمالا آخر لهذه التسمية، فلعل قاسم توفيق أراد أن يصنف هذا العمل بقوله إنه يتعدى من حيث النوع الأدبي كونه “مجرد رواية”، بل هو نوع آخر لم يحدده، فاكتفى بالقول “أكثر من رواية”.
    حفلت الرواية الصادرة عن “الآن ناشرون وموزعون” بالعديد من المشاهد المتداخلة، وإن كانت عمّان هي العامل المشترك بين هذه المشاهد فذلك لأنها شكلت نقطة البداية أو النهاية لكثير من الشخوص، سواء الذين غادروها وعادوا إليها، أو الذين راوحت حياتهم بين ظرف وآخر داخل هذه المدينة، إلا أن مشهدية الأحداث امتدت من “الدفة” (المدينة الخليجية المتخيلة) إلى الولايات المتحدة، مرورا بمصر ولبنان وإيطاليا، إضافة إلى عمان، وكانت عمان بسيميائها وظروفها وأجوائها ومركباتها هي ما ترك معظم الأثر في نفسيات الناس وضمائرهم ومصائرهم.
    مؤلف مغمور يدفع صاحب دار نشر مرموقة إلى قراءة مخطط الرواية التي كتبها، ويتجاوز بروتوكولات العمل في هذه الدار، وقد ترك صاحب الدار “نوح” هذه المهمة لمديرتها، إلا أنه يفاجأ بمضمون الرواية المقدمة ويعقد مقارنة بين بطل الرواية التي بين يديه ومشاهد من سيرته الذاتية تطوف بمخيلته وقد أنهى قراءة هذا العمل، فكان أن فاز الكاتب المغمور بلقب “صعلوك”، وعاد يحاول فك عزلة فرضها على نفسه لإنجاز ها العمل، دون أن يحصل القارئ على أسباب تفسر هذه العزلة، فإلى أي شيء قادته محاولاته؟ يتناقض موقف الدار من هذا “الصعلوك” مع موقفها من كاتبة مترفة، وفي تفاصيل هذا التناقض يمر مؤلف “جسر عبدون ” بتفاصيل علاقات الكُتّاب بدور النشر وآمالهم وآلامهم، وما بين الجانب الثقافي والجانب التجاري لدور النشر تتحدد مصائر كثيرين من الطامحين لرؤية أسمائهم مطبوعة على كتاب على رف مكتبة أو حتى على ناصية الطريق.
    ثمة سوال يتماثل للقارئ هنا: “هل استعان الكاتب بشخص آخر ليكتب تفاصيل الرواية المتخيلة التي حملت عنوان “الانحدار”؟ حاولتُ رصد أي تباين أو اختلاف في الأسلوب بين الروايتين ولم أنجح، كيف إذن صدر الحكم على الرواية المتخيلة والكاتب واحد؟ هل يحكم الكاتب على نفسه بهذه السهولة؟
    يتناول السرد شخوص الرواية في فصول متتالية، بمن فيهم الكاتب المغمور، وأهله وصديقته، وصديقة صديقته، وصاحب دار النشر وزوجته، حتى مديرة دار النشر، إضافة إلى الشخص الرئيس في الرواية المتخيلة، وفي خلفية المشاهد أحداث عالمية متعددة، وظروف تعكس أثر العولمة على امتداد جغرافيا العالم. وكان للبنان والمدينة المتخيلة “الدفة” إضافة إلى الأردن، الجزء الأكبر من مشاهد الرواية التي عكست الظرف العالمي بجوانبه الاقتصادية والاجتماعية، وما يرتبط به من آثار على النفس البشرية التي تجلت في أنماط متضاربة من السلوك، وقد ضجت الرواية بالمتناقضات والمصادفات والتساؤلات في محاكمة لسياق الأحداث، ليس بالضرورة للخروج بإدانة لشخص أو لجهة بعينها، بل هي ببساطة محاولة لفهم ما يجري.
    لقد عكسَ الكاتب المغمور في الفصل الأول من روايته “الانحدار”، مشاعر القسوة والحب والكراهية في الخطاب المتسم بالقسوة لبطله وهو يحاور والدته محتجّاً على عقوبة الطرد التي قررها والده. يقول: “بعض الآباء لا يعرفون كيف يعبّرون عن حبهم، قد يكون أبي واحداً منهم، لكن من أين جاء بكل هذه القوة وكل هذه القسوة ليعبّر عن كراهيته؟”.
    هذا “الحب” الذي زرعه الأب في ابنه وعبّر عنه بقرار الطرد، أنبت بذوراً شكّلت جلّ سياق السرد ودوافعه في رواية “الانحدار”، فمن أين أتى هذا الروائي حديث العهد بالرواية بكل هذه الكراهية؟
    وفي صورة أخرى من صور الحب، يسرد المؤلف على لسان صاحب دار النشر “نوح” المشاعر التي تدفقت عليه مع بدايات تشكل صحوته تجاه جماليات الحديقة في بيته: “يوشك أن يسقط على الأرض من دفق الأحاسيس التي تنهمر، أحلام حلوة وذكريات قديمة، طفولة ومراجيح وبيوت جيران، وبنات يتباهين ببروز صدورهن، وفلك التي خانته بموتها المفاجئ”.
    ولو كان موت “فلك” انتحاراً، ربما شارك القارئُ المؤلِّفَ أن ثمة خيانة تمثلت في الانسحاب المفاجئ من الصحبة، لكن تفاصيل الأحداث التي أدت إلى الموت تشير إلى أن استخدام تعبير “الخيانة” ينطوي على قدر من القسوة التي حاكم بها المؤلف أحد شخوص الرواية.
    ويشير الكاتب في إحدى الفقرات إلى “نوح” و”فلك” هكذا: “نوح وفلكه”. فهل يعني ذلك التلميح بدلالات غير مباشرة إلى النبي نوح وفلكه والطوفان؟ هل يشير إلى فكرة الإنقاذ والتغيير بطريقة ما؟
    تطرق الكاتب على نحو محدود إلى بعض سلوكيات سارة وصديقتها “أودري” أردنية الأصل أمريكية المولد، وبطريقة أقرب إلى العفوية، كأنه أراد التنبيه إلى المخاطر المحتملة لنشوء هذه الأنماط من السلوك في المجتمع بتأثير العولمة.
    أخيراً، ما دور “جسر عبدون” في الرواية؟ هذا سؤال ستظهر المعالم الأولى للإجابة عنه في رسالة أرسلها الكاتب المغمور إلى صديقته سارة، لكن الإجابة لا تكمن في الصفحات التي تلي تلك الرسالة، بل في فصول الرواية كاملة، وعلى أيّ حال لن يحتاج القارئ إلى القفز بين الفصول، فثمة تشويق فيها يغنيه عن هذا القفز.