“العربي الجديد”
هذا كتاب عِلمٍ واعترافٍ، أعدّ مقدّمتَهُ وترْجَم فصولَه الكاتب والمؤرخ الكوسوفي السوري محمد م. الأرناؤوط، الذي كان من طلَبَة الأستاذ حَسن كلشي (1922 – 1976) وضمّنه دراساتٍ معمّقةً في الإسلاميّات واللغة والسياسة والثقافة كان قد كتَبها هذا الأخير، وهو من أهمّ وجوه الاستشراق بالمدرسة اليوغسلافيّة، وذلك احتفاءً بِمئويّة ولادته. ينقسم كتاب “حسن كلشي: الإسلام والثقافة والسياسة في البلقان”، الصادر حديثاً عن “دار الآن ناشرون وموزّعون”، إلى قسميْن: في الأول منهما تعريفٌ مُفصّل بسيرة هذا الباحث الألبانيّ الذي عايش، رغم قصر عُمْره نسبيًّا (54 سنة) أبرزَ التحوّلات التي شَهدتها منطقة البلقان منذ تفكّك الحُكم العثماني وتشظّيها إلى دُوَيْلاتٍ، وما تَبع ذلك من تأثيرات أيديولوجيّة بسبب تصارع الهويّات واحتدام الفكر القوميّ، وجسّدت أعمالُه العلميّة تحوّلات الخطاب الاستشراقي الذي لم يُعد، في هذه المدرسة اليوغسلافيّة، منصبًّا على دِراسة “الآخر المختلِف” بل “الأنا” المتجذّر في التاريخ والممتدّ إلى الرّاهن. وهكذا، لم يستعرض الأرناؤوط، في هذه المقدمة، سيرَة أستاذِه وقائمة أعماله في مجال الإنسانيّات والإسلاميات التطبيقية فحسب، وإنّما أشار إلى مظاهر التحوّل الذي طرأت على حقول الاستشراق، حيث أتقن علماءٌ مسلمون، عربٌ وغير عربٍ، المناهج النقدية والفيلولوجية الصّارمة التي طالما تباهى بها الغربيون، ثم طبّقوها على هذا الكمّ الهائل من الوثائق والأحداث التاريخيّة التي لم تعد تراثًا ميّتًا لحضارة بائدة، غالبًا ما يُنظَر إليه نظرة تعالٍ. ولذلك درسوها بمنهجية علميّة تتسلح بنفس أسلحة الاستشراق التقليديّ، كالتحقيق والتثبت واعتِماد المصادر الموثوقة والانفتاح على المكتوب باللغات الأجنبية من أجل معرفة جذور ذلك التراث وفحص امتداداته الرّاهنة، من دون الإحساس بأي تفوّقٍ. وأمّا القِسم الثاني فيتضمّن ترجمة سبع مقالاتٍ، توزّعت محاورُها حسب أهمّ المجالات التي خاض غمارها حسن كلشي، فتراوحَت بين السّياسَة والمَعاجم والأدب والفنون، التي تشمل ثلاث لغاتٍ/ ثقافاتٍ كاملة هي العربيّة والعثمانية والبلقانية، طبعًا مع إيراد كلّ هوامش المقالات، ممّا يقدّم صورة أمينة عن المصادر المعتمَدَة، والتي يجهلها حتى القارئ العربي المتخصّص. وبالفعل، سيكتشف هذا القارئ مقاربةً تمزج بين التناول التاريخي الصارم للظواهر والانفتاح على أبعادها الأنثروبولوجيّة، مثل إعادة بناء الشخصيّات التي ينتجها المخيال الشعبي، كشخصية صاري صالتق، التي اجتهد كلشي في جمع كلّ ما يتعلق بها من حكايات شفويّة ذات طابع أسطوريّ، وأُخرى مكتوبة، منقولة في المخطوطات التي تناثَرت في ديار البلقان. ومن جهة ثانية، ركّز كلشي، مثل ما هو الحال في مقال “المؤثرات الشرقية في القصص الشعبية”، على تأثير هذا المخيال الشعبي في تحريك عجلة التاريخ، مع إجراء تحقيقات مصطلحيّة مهمّة، مثل تدقيقه معنى مفردة “حكاية”، في تلك الديار، حيث تتقاطع ثلاث لغاتٍ: العربية والألبانية والتركيّة، ضمن حقبةٍ تاريخيّة مِفصليّة في تطور الضاد واكتساب مفرداتها دلالاتٍ حادثة، وهو ما أجاد كشلي في إظهاره بتحليل ما يطرأ على الكلمات من تحولاتٍ عندما تنتقل من لسان إلى آخر عبر الاقتراض والاسترجاع ضمن حيويّة ثقافية تُتبادل فيها التأثيرات فَتنضاف إلى المفردات معان لم تكن تحملها. كما أزاحت هذه الأبحاث الستارَ عن حقلٍ معرفيّ هام: “الوقفيّات”، الذي كان قد اجترَحه كلشي وواصلَ استثمارَه طلبته مثل محمد م. الأرناؤوط، الذي سبق أن أصدر في الموضوع واحدة من أوفى الدراسات، وهو ما يوفّر أدواتٍ نَفيسة لفهم التاريخ الاجتماعي للإسلام في العصر الوسيط، ولا سيما في الولايات العثمانية، وكيفيّات انتقال المِلكية وتمويل الأنشطة العلميّة والصوفيّة حَيث كان للتكايا نظام داخليّ يسمح بالإنفاق على المُريدين والطلبة إلى جانب المعوزين.
ونستمتع، بشكل خاصٍّ، بأعمال كلشي المعجميّة، النّظري منها والعَمليّ، حيث أنجز أبحاثًا مهمة حول الأعمال اللغويّة لسامي فراشري. كما صنَع، هو ذاته، معجمًا مزدوجًا: صربو-كرواتي/ عربيّ، أدرج طيَّه ما يزيد على خمسين ألف كلمة، مع ذكر مقابلاتِها ومبانيها وأهمّ التحولات التي شهدتها معانيها من خلال مسارات الاقتراض والتداول. ورغم أنّ كلشي قد أتمّ عَمَلَه هذا عام 1967، إلا أنّه لم يَر النّور إلا بعد عَقديْن من ذلك بعد رحيله، بالرغم من مَسيس الحاجة إليه. ولم تغفل هذه المختارات مجال السّياسة المعاصرة، إذ خُصّص مقالٌ منها لإبراهيم تيمو، مؤسّس جمعية “الاتحاد والترقّي” وتطرّق إلى دَوْره في النّهضة السياسيّة والفكريّة، التي طالما تأثّر بها مفكرونا العَرب. ومن الجليّ أنّ هذه الدراسات، وسائر الأعمال الأخرى التي نأمل قراءَتها مترجمةً إلى العربيّة، تنصبُّ على الإسلام الشّعبيّ وعلى تعبيراته الأسطوريّة والشفوية التي تَتشكل ضمن حكايات تتوارثها الأجيال، وتَدور عمومًا حول الكرامات وخرق العادات، مع تسرّب لمؤثراتٍ ثقافيّة من مناطق آسيا الوسطى، مما ينتج “الإسلام المَعيش”، بما هو حقل استكشاف أنثروبولوجي يَختلف عن الإسلام العالِم الذي تَعوّد الاستشراق الغربيّ تقديم نصوصِهِ التمثيليّة في علم الكلام والفقه والتفسير والفلسفة، وهو ما يشكّل تحوّلًا ثانيًا في ممارسة فنّ الاستشراق ونقلاً لموضوعِه ومجالات البحث فيه. وهكذا، لا تخلو المقالات السبع، المنقولة هنا إلى العربية، من تحليل لقضايا اللغة والآداب والفنون والتصوّف والشعائر ضمن نسيج أنثروبولوجي معقد، أجاد كلشي في تفكيك مكوّناته. ولم يقتصر عمل الأرناؤوط على تخيّر الأعمال التي تمثل تراثَ حَسن كلشي وترجمتها إلى العربية، رغم ما في ذلك من مجهودٍ جبّار، وإنما في تعريف القارئ العربي – عبر هذه الباقة المختارة – بِأركان ما سمّاه: “المدرسة الكلشية”، وما تميزت به من دقة وتحقيق وشمول. كما يُظهر عملهُ إسهام هذا المؤلف في تنسيب هيمنة الاستشراق الألماني- الفرنسي ووجوهه التي عاصرته، مثل ريجيس بلاشير وجوزيف شاخت، تأكيدًا أنّ حقل الإسلاميّات سبق أن أجادت فيه أقلام الكثيرين من العلماء العرب والمسلمين، مع أنهم ظلّوا مغمورين. وأنّ هذا الحقل شهد ضربًا من التحوّل وحتى القطيعة فيه، حيث انتقل موضوعُه من دائرة الدراسة المُتعالية للـ”آخر المختلف”، إلى كونه فحصًا لمكوّنات “الأنا” وتراثها الثقافي المتراكم عبر القرون في النّصّوص المكتوبة والإرث الشّفوي. ويكمن التحول أيضًا في إعطاء الكلمة للباحثين المسلمين، أكانوا عربًا أم لا، حتّى يَصفوا الظواهر من الدّاخل ولا يُسقطوا عليها مقولاتٍ معرفيّة خارجيّة، مثل ما دَرج عليه بعض المستشرقين الذين قرأوا التراث الإسلامي من خلال شبكة تأويلية مسيحيّة أو يهوديّة، ما أسفر عن مغالطاتٍ تاريخيّة ومعرفية خطيرَة، لا تزال بعض أثارها إلى الآن، ثم في تركيزهم على الممارسات الثقافية اليوميّة المهمشة، كشُرب القهوة، دون الاقتصار على النصوص العالِمة.
لا شكّ أنّ هذه “المدرسة الكلشية” لا تزال في أوج نضجها، وأنّ استكشاف الكمّ الهائل من المخطوطات والنصوص والشخصيات والموروثات الشعبيّة وتحليله لا يزالان في خطواته الأولى ويتطلبان مزيدًا من الجهود المضنية، مثل هذه التي ينهض بها محمد م. الأرناؤوط وزملاؤه وطلابه، فيُمتعون قرّاءَ العربيّة بما جرى في القرون الماضية وراء الضفّة الأُخرى.