“انتصار بو راوي”
تبدأ رواية “قصر الصبار” للقاص والروائى العراقى زهير كريم بصوت الراوى وهو شخصية الصحافي بمؤسسة الصحافة العراقية ،الذى يتحدث عن مهمته الصحافية التي أوكلت اليه بإعداد تقرير صحفي، عن “المباني التراثية ” في بغداد فيقع اختياره على مبنى قصر قديم يطلق عليه، اسم “قصر الصبار” ، بمدينة بغداد وحين يذهب للتقصي الصحفي عن القصر يمنعه ،الجنود الأمريكيين الذين اتخذوه مقرا لهم بعد احتلال العراق في عام 2003 ” وبينما هو يتحدث معهم يخرج أحد جيران القصر ليروي له قصة القصر والسكان الذين تواردو عليه منذ بناؤه فى عام1915 وفى معرض حديثه عنه يخبره بأنه عثر على مجموعة، كتب بها يوميات كتبتها امرأة اسمها “نرجس” وهى أخر من سكنت بالقصر ،الذى توالى على شرائه والسكن فيه عدة شخصيات منذ بناؤه على يد ضابط بريطاني في عشرينيات القرن العشرين ومن خلال ثيمة “اليوميات” يبنى الصحفى الكاتب البنية السردية لروايته التي يرويها عن شخصيات وأحداث القصر.
زمن الرواية بين الاسترجاع والاستباق
يبدأ زمن الرواية عند مجيء الصحفي للقصر ، في عام 2004م
ثم يعود زمن الرواية للخلف لما قبل احتلال بغداد،في عام 2003 من خلال استرجاع أحداث الماضي عبر صوت، بطلة الرواية التي كتبت أحداث حياتها في دفتر لليوميات الذى ينسج منه الصحفي بطل الرواية روايته التي يرويها للقارئ .
اعتمد الروائي على تقنية الحبكة السردية الحديثة، في كتابة الرواية من حيث تمازج الأزمان بين الحاضر والماضى والمستقبل، كما ذكرت الكاتبة نتالى ساروت في فصل من كتاب ” الرواية الجديدة والواقع ”
الزمن الحكائى فى الرواية الجديدة، تخلص من تعاقبيته الكرونولجية القياسية فى الرواية الواقعية ليتحول الى سيرورة تزامنية تتحابك فيها ازمنة الاستذكار (الماضى) والاستشراف(المستقبل) والكتابة الحاضر فلم يعد الزمن ذلك التيار السريعى الذى يدفع الحبكة الروائية الى الامام ، بل أصبح مثل ماء راكد تحدث تحت سطحه تقلبات وتحللات بطيئة”1″
وهذا مانجده في رواية “قصر الصبار ” ،التي تنتقل فيها الأزمنة بشكل غير متوقع للقارئ بين الماضي والحاضر والمستقبل، بصورة تحتاج من القارىء للتفاعل كى يربط الأحداث الزمنية للرواية
ويظهر الاستباق فى الرواية فى التلميح لأكثر من مرة عبر صوت الراوى وهو الصحفى الكاتب بالرواية إلى حدوث حدث مأساوى كبير باليوم الأخير لشخصية “نرجس ” بالقصر ورغم ان كاتب الرواية أشار إليه إلا أنه لم يفصح عنه خلال السرد الروائى كما يقول الدكتور سعيد يقطين فى كتابه” تحليل الخطاب الروائى ” ان الاستباق كما يذكر جينيت بكونه” يحيل مسبقا على حدث سيحكى فى حينه بتطويل” لذلك يلعب الاستباق التكرارى دور الاعلان وان هذا الاعلان او الافتتاحية كمايبدو من خلال هذا النوع من الاستباق هو مؤطر الترتيب التتابعى إننا نبدأ به لنصل إليه” 2″
وذلك نجده في خطاب السرد الروائي، الذى يتتابع في سرده إلى أن يصل للمحطة الأخيرة بمقتل بطلة الرواية ” نرجس”
نموذج بطلة الرواية
كتب كثير من الأدباء، عن المرأة التي تعمل بالدعارة في رواياتهم ولعل أشهرهم الكسندر دوما الابن في روايته “غادة الكاميليا، ودستوفيسكى في روايته ” الجريمة والعقاب” وتولستوي في روايته ” البعث ” ، والروائي الكبير غابريل غارسيا ماركيز في روايته “ذاكرة غانياتي الحزينات ، و باولو كويلهو في رواية “إحدى عشر دقيقة ” وغيرهم من الأدباء العالميين.
أيضا كتب الروائيين العرب عن نموذجها في تفاصيل رواياتهم منهم ونجيب محفوظ يوسف ادريس وحنا مينه ، ادوارد الخياط ومحمود المسعدي ورشيد بوجدرة ولكن شخصيات النساء اللواتي، يعملن بالدعارة في أغلب روايات الأدباء العرب لم يكن بطلات روائيات وإنما شخصيات عابرة ،يدخل أبطال الروايات لعوالمهن بشكل عابر ولكن في في رواية ” قصر الصبار” للروائى زهير كريم ، نجد إن شخصية المرأة التي تبيع جسدها هي بطلة الرواية كاملة، و تدور الرواية حول حكايتها وقصتها فتتحدث عن نفسها وعن مشاعرها ،واحساسها بنفسها وجسدها من خلال صوت الشخصية الروائية الرئيسية ” نرجس” ،التى يغوص الروائي في أعماق شخصيتها من خلال دفتر يومياتها ،الذى تروى فيه تفاصيل كثيرة عن الفتاة الجامعية البسيطة التي كانت عليها، قبل إن تتحول إلى “بائعة هوى” كما تقول في أحد مقاطع دفتر يومياتها تقول ” لو عرفت ما سيحدث لي لبحثت عن طريقة ما كي أبقى طفلة ولا اكبر”ص30
ومن خلال استرجاع ماضى حكاية “نرجس”، يمتد السرد الروائي ليكشف العوالم المعتمة التي قادتها للطريق السيء الذى سارت فيه ، والذى كانت بدايته بعلاقة الحب القصيرة مع شاب التقته، وهى فى سنواتها الاخيرة بالجامعة فاقنعها بكلامه المعسول كي تلتقيه في شقة صديقه، و سلمت له جسدها بعد ذلك تركها وسافر من مدينتها البصرة وعندما أخبرت أمها، بماحدث معها لم تقف بجانبها وتساندها وتبحث عن الشاب الذى قام بفعلته وهرب ، بل هددتها بإبلاغ اخيها كى يغسل عاره ويقتلها ولكى تستبق “نرجس” أمها في كشف سرها الدامي، سارعت إلى أخيها وأخبرته بأن الحى يتحدث عن سمعة والدتهما السيئة وعليه أن يغسل عاره ويتخلص من والدتهما وفى حمى غضبه، يذهب ويقوم بقتل والدته ويلقى في السجن فيما تهرب هي من مدينتها للبحث عن الشاب ، ولكنها لا تجده لتقع بين يد رجل يأخذها إلى بيت للدعارة ،فتعمل فترة في ذلك البيت إلى أن تلتقى بشخصية “سالم ” الذى يلتقطها من بيت الدعارة الذى كانت ،تعمل به ويتزوجها وكان يرغب فى ارتدائها الحجاب ولكنها رفضت ،فحدثت مشاكل وعدم اتفاق بينهما ثم يقتل زوجها على يد ضابط استفز زوجها بالكلام عنها ورغبته فيها.
بعد حادثة مقتل زوجها على يد الضابط ،تهرب ” نرجس” للعيش مع الضابط الذى قتل زوجها ويقضى أخ زوجها المغدور سنوات، في البحث عنها ولكنها تهرب مع الضابط من البصرة إلى بغداد ،ويتم اعتقال اخ زوجها بعد الانتفاضة التى حدثت بالبصرة بعد غزو العراق للكويت ،ولبث فى السجن لمدة عامين وعندما خرج من السجن استمر فى البحث ولكنه لم يعثر عليها.
تكتب نرجس فى يومياتها عن الرجال، الذبن يترددون على بيتها بعد أن تركها الضابط “هؤلاء الرجال الذى يجيئون الى هنا يبحثون عن المتعة ،الحياة التى يتمنونها ولا يستطيعون عيشها في العلن انهم يبحثون عن الزوايا السرية، التى تحيطها الأسوار العالية والستائر المنسدلة الحياة الاخرى المفضلة مع الاحتفاظ بالصورة المزيفة التي يواجهون بها الناس كلهم جوعى ومتصدعون خاصة من كان له علاقة بالسلطة يأكل الخوف قلوبهم المؤامرات والمكائد أقدم لهم ما يرضى رغباتهم المنحرفة انا اريدهم لأجل المال والامان زبائن بيننا مصلحة متبادلة، أوفر لهم بنات بحجم بناتهم بل حفيداتهم ويوفرون لى المال وقضاء حوائجي ” ص 112
يتحدث صوت الشخصية ” نرجس “هنا في مونولوج سردى، معبرة عن رؤيتها للرجال الذين يتواردون على البيت، وتكشف كتابة يومياتها بأسلوب المونولوج الداخلي عن شخصية تكره العالم والوجود، وكل الرجال الذين كانوا يتواردون على جسدها أو على بيت الدعارة للحصول على فتيات صغيرات ، مطلقة عليهم صفة الحشرات وتوجه غضبها للظروف والأيام، التى قادتها للعمل بالمهنة القذرة التي شوهت روحها .
شخصية ” نرجس” في رواية قصر الصبار انتقلت من فتاة عادية تطمح للحب والزواج إلى امرأة حاقدة قاسية القلب، لا تبحث إلا عن المال ومن خلال علاقتها برجال السلطة والقيادات الأمنية ، تتكشف حماية رجال السلطة، بعصابات الدعارة المتكونة من شخصيات لديها مناصب عليا بالدولة ،والتي تتكاثر في البلدان التي تتعرض للضيق الاقتصادي والحروب ،والقمع وعدم وجود حرية للتعبير للكشف عن تلك الشخصيات القيادية بالدولة ،التي تستغل الأوضاع الاقتصادية للفتيات الصغيرات الفقيرات كى تقودهن لبيع أجسادهن ،من أجل الحصول على المال
أصوات الرواية
في بداية الرواية يهيمن صوت الصحفي ،حيث نعرف من خلال سرده حيثيات رغبته في كتابة الرواية التي كتبها، عن القصر وسكانه ثم يخرج صوت الراوي الصحفي ليسرد تفاصيل بعض شخصيات الرواية ،وخيوط علاقة التي تكونت بينهم وبين بطلة الرواية “نرجس ، وتتوزع أصوات شخصيات الرواية بصيغة ضمير المتكلم ، السائق سعيد ،الحارس جبار ،الطباخة سونا مدبرة المنزل خلود وسردها قصة زواجها، من وطبيعة علاقة زواجهما التي غزاها البرودة والملل ، صوت أم السائق سعيد وصوت زوجة الحارس جبار التي تتحدث عن تفاصيل علاقتها بزوجها.
و صوت أخ سالم زوج “نرجس” الأول، كل شخصية منهم تروى علاقتها بها ورؤيته لها وتكشف جانب من حياة نرجس، وحياة من يروى عنها وعن نفسه من خلال استدعاء كل شخصية لقصة حياتها، والكثير عن ماضي عائلتها التي تبدو متماسة مع الواقع السياسي الذى مر في العراق، خلال حكم صدام حسين من اعتقالات واغتيالات واعدامات وانتفاضات، وحروب مع دول الجوار فتموج الرواية بتفاصيل الشخصيات الدامية التى تتشابك احداث حياتها مع واقع البلاد السياسي بدمويته ورعبه وخوفه.
من بين أصوات الرواية التي تروى قصة حياتها ،يبرز صوت شخصية حارس القصر “جبار ” الذى يتحدث عن طبيعة عمله ،بالقصر وعشقه للعزف على الآت الموسيقية ويصف محبته للموسيقى بقوله: “المحيط الذى عشت داخله ينظر إلى الفن على انه شيء فارغ ليس الموسيقى فقط بل الرسم و المسرح والنحت والغناء هذه الأشياء كلها فارغة فى نظرهم ولقد اكتشفت ان بينى وبين الموسيقى حديثا بالضبط مثلمة لو كنت تحكى اسرارك لصديق تيقنت ان الانسان دون موسيقى ينقصه شىء مهم فى حياته الناقصة اصلا او ربما يكون اكثر استعداد ليكون شريرا قاسيا يستطيع العازف ان يحكى كل شيء الموسيقى لو عظيمة بالنسبة لك لو وجدت إنسانا يحبك وآلة موسيقية تعزف عليها ستكون سعيدا ،هما السعادة ، تحتمى بهما من الخوف ” ص44
ويلمح الحارس في بداية الرواية، إلى الحادث الذي وقع باليوم الأخير له في القصر والذى لا تتضح تفاصيله إلا في الفصل الأخير من الرواية في حركة سردية استباقية للأحداث التي يسردها الروائى في الفصول التالية.
فى الفصل الاخير من الرواية بعنوان ” الراوى العليم يجمع خيوط الواقعة” يخرج صوت بطل الرواية “الصحفى والكاتب” الذى اختفى بعد الفصل الأول من الرواية ليتحدث عن البناء المعماري لروايته التى استقاها، من تدوينات نرجس والخادمة بالقصر “سونا ” إضافة إلى حديثه مع حارس القصر “جبار” ،ووالدة سائق القصر “سعيد”
ثم يشرح بانه أضاف خيط من الخيال إلى الحكاية ، استقاه من التدوينات واليوميات التي اعطاها له أحد جيران القصر، ويصف “الكاتب” يوم الحادثة المأساوي الذى تمت فيه جريمة قتل “نرجس” صاحبة القصر على يد “عباس” أخ زوجها الاول الذى قضى سنوات وهو يبحث عنها إلى ان عثر عليها ودخل بحيلة للقصر واطلق عليها رصاصات الموت، وتنتهى حياة نرجس بالقتل على يديه .
الجسد المرغوب والمقتول
رواية” قصر الصبار” تعمل على كشف البؤس، الاجتماعي والاقتصادي والسياسي في العراق في عهد صدام وتكشف الزوايا المعتمة للبلاد ،التي هي صورة من صور كل بلد عربي عاش تحت حكم ديكتاتور ومستبد ،لا يعترف بالفساد الموجود ولايعالجه بل يحميه ويعمل على توطينه وتجذره في البلاد ،الفساد الاجتماعى والسياسى الذى تكون المرأة الفقيرة هي أول ضحاياه بالموت المعنوي، حين تستولى عليها عصابات الدعارة حين تقع في خطأ جسيم مع الرجل ، ـ أو بالموت المادى حين يتلقى جسدها بعد أن فقد بكارته الرصاصات القاتلة.
نموذج “نرجس” في الرواية معبر عن رؤية الرجل للجسد الأنثوي ، الذى يكون مرغوب ومشتهى وهو في عفته وطهارته، وما أن يتم الوصول إليه تحت ستار الحب يصبح جسد مؤبوء ،خاطئ يهرب منه من اشتهاه ورغب به ، و يتحول جسدها إلى بضاعة تجارىة للبيع مقابل حفنة من النقود ، أو تتحول إلى جسد مقتول غارق في الدماء محوا للفضيحة والعار الذى ارتكبه الجسد بخروجه من الإطار الشرعى للعلاقة بين الرجل والمرأة في المجتمعات العربية ، ومن خلال قصة “نرجس” تقدم الرواية تشريح اجتماعي لواقع جسد المرأة في المجتمعات العربية ، المحكوم عليه بالموت المعنوى والمادي إذا خرج من الإطار المرسوم له ، فيما ينجو الرجل المشارك في عملية قتله معنويا من فعلته ويعيش حياته وكأنه لم يرتكب أي جرم ، فيما يكون قد عمل على ضياع مستقبل الفتاة التي سلمت له جسدها ، وكان سبب في تحول جسدها إلى بضاعة للبيع ولعبة في أيدى عصابات تجارة الجنس ، أو يكون مصيرها القتل على يد أهلها أوأقاربها ، غسلا لشرف العائلة فيما يعرف بقضايا “الشرف” في البلدان العربية وهو الخطاب السردى الروائى الذى كان فحوى رواية “قصر الصبار” بتفاصيلها النفسية والاجتماعية والسياسية التي كشفت الكثير من المسكوت عنه بقاع العالم المظلم بالبلدان العربية .