زوايا؛ قائمة وحادّة ومنفرجة في رواية سوزان خلقي

زوايا؛ قائمة وحادّة ومنفرجة في رواية سوزان خلقي


class="inline-block portfolio-desc">portfolio

text

    باسم سليمان 

    يقال بأنّ الأقدار مكتوب خام، أمّا المصير، فهو تفسير هذا المكتوب وتأويل المسكوت فيه. وإذا أردنا أن نعيد ذات الكلام السابق بشكل فنّيّ، فسوف نستعين بالباحث الروسي فلاديمير بروب، الذي صنّف وقسّم الحكايا الشعبية إلى عدّة أنماط مؤسسة، تتكرّر في كل السرديات، وكأنّها أقدار. ومع ذلك، استطاعت هذه الأنماط أن تستوعب حكايات البشرية التي لا تنتهي! لا أحد يستطيع أن يهرب من قدره، أسواء كان تراجيديًا أو كوميديًا كما علّمنا المسرح اليوناني. لكن أدب الرواية الذي ظهرت إرهاصاته في القرن السابع عشر إبّان النهضة الأوروبية، اعتبر أنّ ظروف الكائن البشري أشبه بالمواد الخام التي من الممكن للفرد إدارة حيثيات وجوده / قدره فيها، ومن ثم عيش نسخته الخاصة منها بأسلوبه، وإن كانت لا تتجاوز الأنماط التي تكلم عنها بروب. هذا الأدب الجديد طرح فكرة أنّ المصير، هو من صناعة الفرد ذاته. ومن هنا كانت الفلسفة الوجودية التي نظّر لها سارتر في القرن العشرين، الذي ينصّ مضمونها على أنّ حياة الكائن البشري تُبنى لحظة بلحظة، لا شيء فيها سابق على وجوده.
    تأتي رواية: (رَوَت لي حكايتها) للكاتبة الأردنية سوزان خلقي الصادرة عن دار الآن ناشرون لعام 2021. لتناقش ما تفعل الأقدار بحياة عائلة كانت كلّ المقدمات ترشّحها لأن تعيش حياة هانئة، لكن هناك مَن تلعثم بقراءة المكتوب لها، فآلت حيوات شخصياتها إلى كوارث متتالية.
    ورث حسين قطعة الأرض عن أبيه وبنى عليها بيته الذي سيجمعه مع حبيبته خديجة، وأنجبا فيه أولادهم الثلاثة: أسعد وهو حسن الهيئة ويشبه أباه والذي من المفترض أن يرث منه الصبر والمثابرة. و سالم الأوسط الذي سمًي بهذا الاسم لربما يحميه من لدغة أفعى جسمه الضعيف. ومنال شبيهة أمها في الجمال والتضحية.
    توطئة تشي بالأمل والسعادة، لكن للأقدار كلمتها المسموعة. كانت حورية في زواجها الأول كالغريق الذي يتعلّق بحبل المشنقة، فقد أضناها التنقّل بين بيوت أقربائها بعد موت والديها، لذلك قبلت الزواج من جارها الأرمل. لم يمنحها مصيرها الجديد إلّا مصيبة جديدة، فقد مات زوجها بحادث سيارة، لكنّ لعبة الاشتقاقات اللغوية في أقدار الكلمات لم تغلق نوافذ الأمل، فقد أُعجب بها أسعد الابن البكر لحسين وخديجة وتزوّجها. هكذا تشي المصيبة بالصواب، لكن لحورية فأل سيئ، فقد مات والداها عند ولادتها، ومات زوجها الأرمل. ولم تمض فترة على زواجها من أسعد حتى مات والداه، لكنّ حورية أنجبت له طفلين اسماهما: حسين وخديجة على اسم أبيه وأمه ولم يشفعا لها عنده. تطيّر أسعد من حورية ورأى فيها لعنة الموت، فهجرها بسبب ما اعتقده، بأنّها فأل سيئ، حيث تكون يحلّ الموت. أمام هذا الجفاء والبرود الذي قابل به أسعد حورية، أيقنت بأنّها فأل سيئ، فاختفت من حياته، تاركة له طفلين، أصبحا من مسؤولية منال وسالم، فأسعد وإن ورث عن أبيه حسن الهيئة، لكن فاته أن يكون أبًا مسؤولًا. الزاوية القائمة:
    ورثت منال هموم العائلة والبيت الذي كان قد بُني في زواية تقاطع شارعين مستقيمين، فأطلق عليه تسمية بيت الزاوية، مع أنّ حياة العائلة أشبه بالخطوط المتعرّجة. تحوّلت منال إلى غولة تخيف أطفال الحارة عندما يقومون بغزوات لسرقة فواكه الحديقة التي تحيط بالبيت، لكنّها كانت في منتهى الحنان مع الطفلين. رضيت منال بقدرها الخام، على الرغم من أنّ محمود صديق أخيها، أعجب بها وبادلته الإعجاب. ولم يكن يعارض أن يتحمّل معها مسؤولية تربية أطفال أسعد، إلّا أنّها حسمت أمرها، وسلّمت وجودها لقدرها الخام، ولم تحاول تصنيعه، فرفضت الارتباط بمحمود.
    تدور عجلة الأقدار ويحاول أسعد أن يسترد أبوته تجاه الطفلين عبر تأديبهما، فتقف منال وسالم بوجه عنفه غير المبرّر. وفي لحظة مصارحة تأجلّت كثيرًا، يجابهه سالم الذي كان أقرب للصمت من الكلام طوال حياته، بحقيقته، وأنه لم يمارس دور الأب مع ولديه، فلماذا الآن، ولماذا عن طريق العنف لا الحنيّة! يصفعه أسعد، فيرد سالم مغمض العينين وبيده زجاجة، فتصيب رأس أسعد في رأسه ويموت. أمام ذلك لم يكن أمام منال، إلّا تنسج سيناريو سقوط أسعد عن السلم أمام السلطات، فلم يكن سالم يقصد أذيّة أخيه، ولم تعد العائلة تحتمل المزيد من المصائب.
    الزاوية الحادّة:
    يكبر الطفلان: حسين وخديجة ملّوثين بذكريات غامضة عن يوم مقتل أبيهما، لكن حنان منال وسالم يمحو آثار الجريمة غير المقصودة، ولأن الحياة لا تعترف إلّا بالذين يستمرون بالمجاهدة، يضاف طابق ثان إلى بيت الزاوية القائمة ويستأجره طالبٌ كان يومًا أحد الأطفال الذين أغاروا على أشجار حديقة منال، وتسبب بموت شجرة السفرجل الوحيدة من نوعها في الحديقة. ظلّت ذكريات موت شجرة السفرجل تعاود خالد، ولربما بشكل لا شعوري قادته خطواته إلى بيت الزاوية القائمة. يصادق خالد حسينًا ويقع في غرام خديجة. وعندما رأتهما منال في لحظة تودّد، رأت القدر يكرّر ذاته، فخديجة أكبر من خالد، كما كانت حورية أكبر من أسعد. ولأنّ خديجة ابنة حورية، رأت القدر يعيد سيرته السابقة، فحاولت منع تلك العلاقة كي لا تتحوّل خديجة إلى حورية وخالد إلى أسعد آخر، لكن إصابتها بالسرطان ومساعدة خالد لها، جعلها تستكين لعلاقته بخديجة، لربما هناك مصائر أخرى لا تشبه شجرة السفرجل التي تسبب خالد بموتها.
    كان الطبيب المسؤول عن حالة منال الصحية صديقًا لمحمود، الحبيب القديم لها، فيخبره بحالتها. وهكذا بعد تباعد خطوهما يعودان للالتقاء، كي تغفو/ تموت خديجة بين أحضانه، لكن قبل ذلك عليها أن تروي حكايتها، فقراءة المكتوب تسمح بتأويله وتفسيره بمناح عديدة وجديدة.
    الزاوية المنفرجة:
    هذه الرواية كتبها خالد، نقلًا عن لسان منال، فقد أصبح حامل السرّ. ولذلك وعدها ألّا تتكرّر قصة حورية وأسعد، فهو سيحفظ خديجة كروحه. وكانت منال تأمل ذلك بعدما صالحتها الأقدار بعودة محمود إليها، وإن كانت كتلويحة الوداع، فيوم قرّرت إنهاء العلاقة في الماضي، لم يكن من وداع بينهما، وأخيرًا حان وقته.
    إنّ مصائر كل من حسين وخديجة وخالد، وإن كانت محكومة بإرث أقدار بيت الزاوية، لكنّهم يملكون ناصية أقدارهم، فالتاريخ إن قرئ بعناية لن يتكرّر، لا بشكل مأساة ولا بصيغة هازلة، سيكون تاريخًا جديدًا ومختلفًا.
    لقد تغيّرت الزاوية القائمة التي شنقت عليها حورية بسبب عادات المجتمع، وكان لا بدّ أن تمرّ تلك الزاوية بمرحلة الزاوية الحادّة لتصبح كالمقص، فخيط القدر كان لا بدّ أن يُقص كما يُقطع الحبل السري للطفل المولود حديثًا كي يعيش وينطلق في حياته، ويقرأ أقداره مهما كانت.
    أخيرًا أصبحت الزاوية منفرجة، بما تحمله كلمة الانفراج من رغبات وآمال، لكن من قال بأنّ الزاوية القائمة تصلح فقط لحبل مشنقة، فكل زوايا البيوت قائمة. ومن قال بأنّ الزاوية الحادّة يضيرها أن تكون مقصًا، فالكثير من الأغصان اليابسة في شجرة الحياة يقلّمها المقص. الخطّ المستقيم زاوية أيضًا:
    جاء سرد الروائية سوزان رشيقًا وسريعًا، يناسب طبيعة مقولات القدر، فكثيرًا ما يختصر بالأمثال، لكن في الوقت نفسه كان يقظًا ومتقصدًا الإبطاء حتى يسمح للقارئ بتأمّل المكتوب على جبين الرواية. وكما قلنا في البداية عن أنماط الحكاية عند فلاديمير بروب، سنجد أن قصة عائلة حسين وخديجة كأنّها قد حدثت قريبًا منّا، لكنّنا أمام رواية لا حكاية! وأمام جيلين: عائلة حسين وخديجة وأولادهما؛ الأقرب بحياتهما لطبيعة الحكاية والخضوع للأقدار. أمّا الجيل الآخر: الأحفاد؛ حسين وخديجة وصديقهما خالد، فهم من زمن الرواية وأقدارهم صناعة أيديهم. إنّ التكرار الذي تقصّدته الروائية كان لازمًا من أجل إحداث الفرق وإقامة المقارنة، فلم يكن هدف الرواية أن تختم بنهاية فيها من الأمل الكثير، بل لإظهار كيف من الممكن تصنيع الأقدار واختيار المصائر بالإرادة.

    في مجلة (صوت الجيل الأردنية)
    العدد 13 – 2023