شفاء أحمد مستريحي
إنّ التعامل مع الخطاب النقدي، والوصول لهذه المرحلة اللاحقة بعد عمليتي الإبداع، والنقد الأول، يقتضي الإحاطة والقدرة على البدء، من خلال تشكيل خاص لا ينظر إلى العمل الأدبي بل إلى النشاط النقدي الذي أحيط به، بما يسمى نقد النقد، فهو يتحرك في بوتقة الفهم والتحقيق ضمن إجراءات وأدوات خاصة.
وفيما يتعلق بكتاب (بين أروقة النقد، دراسات تطبيقية في الرواية والقصة والشّعر)؛ الصادر 2021م، للناقدة والباحثة دلال عنبتاوي، فإن الخطوة الأولى لدراسة الكتاب وتناوله بالنقد تنطلق من الأهداف، فهو كتاب يهدف إلى دراسة الأعمال الأدبية من رواية وقصة وشعر، محددة التقنيات سواء كانت بنية سردية في إطار الرواية والقصة، أو موضوعات ورمزيات في إطار الشعر، إضافة إلى بيان الخصائص التي يتميز بها كل عمل قد ورد في الكتاب بكل موضوعية، ليفضي في نهاية المقام إلى الولوج في الاجناس الأدبية والوصول إلى كوامن المعاني في النصوص والأعمال.
ووقفة على الغلاف الخاص بأروقة النقد تشد المتلقي نحو انسجام بين الصورة والمتن، والأهداف الخاصة بالكتاب، فكل رواق قد تدخله تجد معنى، أو قيمة، أوإشارة، وهي كثيرة متعددة كما في قلب الكتاب.
يقتصر الحديث في هذا المقام على الراوية، وكيفية تناولها بين طيات الكتاب، للوصول إلى الغايات ومدى تحقيقها، وطريقة التطبيق.
أما متن الكتاب فلا شك أنه يدور حول سلسلة من المعطيات اعتمادا على السياق العلمي الذي بدا من خلال نسق التحليل الذي اتبعته الناقدة د. دلال عنبتاوي، فهو يبدأ بالرواية باختيار مجموعة من الروايات – علما أن هذا التسليط يعتبر من النقاط التي تحسب للناقدة- حيث بدأ النقد ضمن رواق الرواية برواية (فرودمال) ، وختاما برواية ( العربة الرمادية)، تركيزا على عتبات النص وهو منهج يلاصق الناقدة تتبع فيه رولان بارت وباختين، فقد تناولت المعنى المحكي وما وراءه لتصل بالمتلقي إلى المعنى العميق ضمن بناء الجملة الواحدة والنص بعد ذلك، في ضوء منهج تحليلي لا يقوم ولا يحكم ولا يهتم بنوع الأدب رفيعا اوفي مستوى أقل ، بل هو إعادة بناء قواعد انتظام المعنى لينتهي بخلاصة أن العمل الأدبي لا يخلو من المعنى تماما ولا واضح كل الوضوح بل هو إشارات وسيميائيات تحتاج إلى تفكيك.
وقد عمد النقد في (بين أروقة النقد) إلى إعادة إنتاج المعنى من خلال الرموز والدلالات في النص لإعادة تجزئته: إلى وحدات صغيرة. في عناوين لاحقة مثلت التشكيل المكاني، وعلاقة الشخصيات بالمكان، وتقنيات بناء الزمن في الرواية).
وفي ممارستها النقدية، عمدت د. دلال عنبتاوي إلى خطوات من التحليل ضمن ما يتناسب مع عنوان كتابها النقدي، مركزة في الدرجة الأولى على نقاط الإضاءة لكل عمل ودورها في تشكيل الرؤية الكلية ، فعند الحديث عن أنماط المكان بانفتاحها وانغلاقها بررت ما ينسجم والمعنى المنشود، مدعمة التحليل بالأسس العلمية الرئيسة مثل كتاب (باشلار، جماليات المكان)، وفي دراسة المكان من ناحية نفسية عبرت طريق الألفة والوحشة في تحديد العوالم التي تفضح الأزمة المجتمعية والفساد العام، فقد ارتبط المكان بالمعنى، في ضوء التجزئة النقدية، وتفكيك النص.
وعنيت بما برز بشكل فاعل في الرواية، فعندما تناولت رواية (غريب النهر) لجمال ناجي، استقرت في ذهن المتلقي نتيجة تحليل الناقدة، أن لفظة الموت قد برزت بوضوح في الرواية حتى تحتم عليها دراستها، وبيان سبب الإشارات المكثفة للموت، لتطرق باب العقل مؤكدة أن الروائي لا يبتعد عن الحياة بحق، هو جزء أصيل قد يكتب التجربة التي يعيشها أو يشاهدها أو يشعر بها، وعندما تناولت رواية (مطارح) ركزت على العنصر الاكثر فاعلية وحضورا وما يحيط بع من الحكاء والأغنية الشعبية والاستهلال التي قاد زمامها (الحكاء)، وفي رواية (شجرة الفهود) عنيت بأهمية المكان في المشاركة بالحدث، والكشف عما يختلج في دواخل الشخصيات، إلى آخره من الروايات التي كانت محور هذا الجزء.
ونقف هنا عند مصطلح الزمكان (عند باختين) الذي يدل على العلاقات الجوهرية المتبادلة بين الزمان والمكان المستوعب في الأدب استيعابا فنيا ويرى باختين أن ما يحدث في الزمكان الفني هو اتحاد وانصهار علامات الزمان والمكان في كل مدرك فينا يجعل للزمان والمكان أهمية جنسية جوهرية إذ يوضح أن الجنس الأدبي وأنواعه يتم تحديدها من خلال الزمكان بالذات، ويبدو واضحا أن الناقدة د. دلال عنبتاوي أحكمت زمام العلاقة بين عناصر البنية السردية في ما يتعلق بالرواية.
فقد أوجدت الناقدة من خلال نقدها ما يجعل النصوص ذات وظيفية من خلال السرديات، معتمدة على التفتيت الذي أقصى الأمكنة والازمنة والرواة والاستهلال وغير ذلك من التقنيات، لتضعه في دائرة التفتيت وتؤدي دورها النقدي في استرجاع معنى النص، ومحاورة النص بترجمته اعتمادا على اللغة، فاللغة هي محور المعنى، والنص هو ناقل التفاسير، ومتشعب الدلالات، لينتهي في نهاية الامر إلى تناغم وانسجام.
وإن أردنا وصف عملية النقد في (بين أروقة النقد)، فإن العملية قد اعتمدت فرضية واضحة محملة بدور اللغة في إبراز جماليات التقنيات، أوصلت القارئ إلى التسليم بأن البنية الكلية تستلهم وجودها من الجزئيات، التي تدرس كل على حدة ثم تجمع ضمن سياق الكلية، سواء كانت الأزمنة أو الأمكنة او الشخصيات.. إلخ، وبهذا تكون عملية النقد المتبعة قد أدت الرسالة المرجوة، إضافة إلى استخدام الأدوات النقدية المتناسبة مع العمل النقدي، دون أن تعمد إلى تقليد عمل سابق، سواء في الأسلوب الخاص، أو اللغة الواضحة، أو اختيار النماذج، ويتجلى هذا البناء على عملية التنظيم في الكتاب الذي يتسع تارة ويضيق تارة في تحليل النصوص، وهذا حسب ما تقتضيه النصوص أو الأعمال المختارة، ليحقق الجودة الأدبية والنقدية، وحسب المدروس فإن هذا العمل ناجح يستحق تسليط الضوء عليه وعرضه بشكل أوسع.
أما التنظيم الخاص بالكتاب فقد بدأ بالرواية فالشعر فالقصة، والرواية هي ديوان العصر الحديث، لذلك قد ركزت الحمولة الأولى عليها لتنتقل من بعد إلى ما يقاربها من القصة ويقابلها من الشعر، بشكل منظم اعتمادا على التصنيف النثري الذي تتوسطه فسحة من الشعر.
إن عملية النقد التي تجلت في (بين أروقة النقد) لا تنأى عن الوصف والتحليل، فقد عاينت العمل الإبداعي الروائي، بتحريك أدواتها في اتجاه الجماليات، ضمن منظومة متناسقة، جعلت من العمل الإبداعي علامة فارقة، ربما لم يتنبه لها صانع النص نفسه، ومع تطور المفاهيم النقدية وتطور الواقع الأدبي لا بد من تطوير النظر إلى محاكمة النص بما يتناسب مع إمكاناته، ووفق المعايير الخاصة بالزمن، ومدى تأثيرها في المتلقي، لتحقيق أفق التوقع أو عدمه.
لعل المقام يقتضي أن ننوه لمقولة الناقدة (الجرماني): «تبدو الحاجة ملحة لأن يسائل النقد العربي الحديث مرجعيته ومكوناته بين حقبة وأخرى، لعله يعزز ما أفاد وأثمر، يعرض عما لم يتمكن من الإفادة منه، نتيجة إشكال في هذا الاتجاه أو ذاك، أو لعدم التمكن من الإفادة كما يجب»، ولنصل من هنا إلى أنّ عمل الناقد يشكل علامة فارقة في توصيل المعنى للقراء، ومع هذا العدد من النقاد أو من هم تحت بطانة النقد لا بد من معاينة صريحة للأدوات والتقنيات، إلى أن نصل إلى عملية متكاملة وناجحة.
بين أروقة النقد كتاب زاخر بالدلالات، أحكم وثاق التحليل ليصل بنا قراء أو نقادا إلى كوامن الإبداع التي قد لا يتنبه لها صانع النص نفسه، للحديث بقية..
نشر في (الدستور الأردنية)
يناير 2023