الريح قبل هبوبها .. رواية القمح المر في بلاد الآخرين

الريح قبل هبوبها .. رواية القمح المر في بلاد الآخرين


class="inline-block portfolio-desc">portfolio

text

    جمال القيسي

    بتصاعد دراماتيكي متين أقصت الرواية الشعر عن مكانته، وصرنا إلى زمن الرواية أو في زمن الرواية؛ حيث تراجع سحر الشعر ليتوهج في فن جديد فتي وغر إزاء عمر الشعر الذي بات يعاني شيخوخة تحيط بها هلوسات الزهايمر، وأمجاد عصور غابرة من إرسال الكلام على سجيته.
    حدث هذا كله؛ بسبب توافر الفضاءات الشاسعة في الرواية التي مكنتها من “شعرنة النص” ذاته، واقتباس الدهشة من أعماق الحدث العادي، وترك الأثر من النسمة العابرة، يقود ذلك كله الأفكار الكبيرة والمعقدة التي يحملها العمل الروائي ذاته. في هذا المعنى تقول سيمون دي بوفوار في كتاب “الوجودية وحكمة الأمم”: ” إذا كان وصف الماهية هو الفلسفة بمعناها العميق؛ فالرواية وحدها هي القادرة على التعبير عن دفق الوجود الأصيل الكامل والزمني”.
    هل هذا الرأي هو الأرجح أو حتى الراجح تجاه مقومات الرواية كي تتم مهمتها في الوجود كأدب يبتغي التغيير بالتنوير؟ أو هل الرواية لا تتمكن من وجودها إلا خلال نقل التجربة الإنسانية باجت  راح إبداعي عبقري من إمضاء الدهاء في الروائي وهبة الإبداع في روحه؟
    أغلب الاعتقاد أن قيم الحق والخير والجمال ظلت القيم الفلسفية الكبرى التي ينشدها في الغالب الأدب والفن والإبداع عموما بكافة منجزه البشري والإنساني، لتصير علامة ملازمة لكل ما يكون فارقا ولافتا ومؤثرا وإنسانيا.
    رواية “الريح قبل هبوبها” لعبة الأقدار في الذكاء والحظ
    لن تستطيع تلخيص الرواية بحكاية صحافي عربي شاب غادر بلاده إلى الإمارات العربية، في بدايات تشكل الدولة هناك، وفي بدايات العمل الصحافي، لتجمعه عدة مصادفات هناك، تتطور وتتشابك وتتصاعد وتدفع بصاحبها الصحافي إلى أن يتبوأ مكانه النفيس في الدوائر الضيقة للقرار حتى إنه صار يتنبأ بريح القرارات الحاسمة ويدركها وتصله بل وأصبح يحس بـ “الريح قبل هبوبها”!
    لقد لازمت البطل “إبراهيم” في أغلب فصول الرواية ميزتا/صفتا الذكاء وهبة الحظ، وهما الصفتان/الميزتان اللتان أبقتا على توهج حضوره فاعلا ومؤثرا، حتى أن الأفكار بترك الغربة والاستسلام الذي راود البطل تراجع بعد الصفحات الأولى بمحض صدف وهبها له الحظ ما كانت تعني شيئا لولا ذكاء إبراهيم الذي كان يسير مع النسمة وينحني كي تمر الريح العاصفة كي لا تكسر قاربه الوحيد، وكان القارب في تلك الرحلة هو الوظيفة أي حبة القمح في بلاد الآخرين.
    البناء الروائي في “الريح قبل هبوبها”
    اعتمد تاج الدين عبد الحق في الرواية البناء الهرمي التقليدي/ الكلاسيكي من حيث انطلاق الرواية من الأحداث الأقدم إلى الأحدث وصولا إلى النهاية، وقد جاءت أيضا نهاية مغلقة لا مفتوحة على التأويل والتأمل.
    استخدم المؤلف تقنية “السارد العليم” المحيط بكافة مقتضيات السرد الروائي لأحداث تمتد لقرابة خمسين عاما بسطها على ما يقارب مائتين وأربعين تضمنت الأحوال النفسية والسياسية والاجتماعية، وواقع عالم الصحافة تحديدا في دولة الأمارات، وهذا في حدود ما أعلم هو أول عمل روائي يتناول عالم الصحافة التقليدية في دولة الإمارات.
    وهنا نسأل هل كانت “الريح قبل هبوبها” وهي في حلة هذا العنوان اللافت الجاذب كعتبة  ذكية تثير الفضول، هل كانت رواية تسجيلية؟ذ
    برأيي أنها ليست كذلك؛ لأن الكاتب خلق مساحات جديدة، وعوالم موازية مختلفة عن الواقع الجامد، وإن كانت تتقاطع مع وقائع وأحداث حقيقية جرت في (مكان الرواية) وفي (الزمن العام) لها، ولكن المؤلف في بعض الفصول التي ألحت الأحداث فيها على مجرى تحرك الأبطال والخط العام للسرد، كان يقترب من خانة تصنيف العمل بالرواية التسجيلية؛ وبالعموم فإن وصف أية رواية بالتسجيلية لا ينتقص من قيمتها؛ فالمعروفف أن الرواية التسجيلية لها مكانتها ومرحلتها وقد كتبها روائيون عالميون، وفي مقدمتهم ماركيز وفوكنر ومالرو.
    وحول البناء والأدوات التقنية نلفت أيضا إلى أنه إضافة إلى اعتماد الروائي تقنية السارد العليم في هذه الرواية إلا أنه زاوج معها تقنية السيرة الذاتية، وهذه الأخيرة تسهل الكثير من عمل الروائي، حيث يستفيد الكاتب من تجربته الذاتية، وسيرة حياته، لكن الروائي البارع لا يعيش حياة واحدة يكتبها وينتهي، بل يكتب مئات الحيوات بكل ما فيها من صراع على القيم الكبرى المتمثلة بالحق والخير والجمال وأسئلة الوجود.
    حين تقرأ رواية الريح قبل هبوبها تلمس النفس السردي القصير المتواصل، وذاك الإصرار اللحوح من الكاتب على استمرار تدفق الأحداث وراء بعضها البعض في تسارع وتصاعد، وهذا كله، أي السرد، على هذا النحو السريع قطع على القارئ الكثير من مساحات التأمل، وهو الأمر الذي تنبه له الروائي في الفصل الأخير؛ حيث أثبت قدرته العالية على إفساح المجال للتفكير والشرود مع فكرة الغربة والأمان والعمر والأحلام والوحشة، وأخذك إلى ذكرى قاربه الذي ظل يدافع عنه خمسين عاما وهو الوظيفة و/أو حبة القمح في بلاد الأخرين ليكون عليك أن تتذكر قول محمود درويش:
    “القمح مر في حقول الآخرين
    والماء مالح
    والغيم فولاذ وهذا النجم جارح”!
    وأنت تقرأ الفصل الأخير والصفحات الأخيرة تحديدا تحار في السبب الذي تم من أجله تأخير  هذه الفضاءات السردية الموغلة في المعنى والغربة والتعب والسفر إلى الداخل القصي في الذات؟ لماذا لم تكن منذ البداية دفقا حاضرا يشي بملوحة الماء وفولاذية الغيم؟
    هل يدخر الروائي تاج الدين عبد الحق ذلك لرواية ثانية؟ أنا على يقين من ذلك