رشيد عبد الرحمن النجاب
من أين أبدأ ؟ ….سؤال راودني كثيرا وأنا أهم بكتابة هذه السطور عن رواية “أنا يوسف يا أبي” للكاتب د.باسم الزعبي وهي روايته الأخيرة الصادرة عام 2024 عن دار “الآن ناشرون وموزعون” والحقيقة أن الإجابة عن هذا السؤال لم تكن من السهولة بمكان، حتى قبل الوصول للسرد والشروع باستطلاع تفاصيل هذه الرواية.لذلك فقد كتبت، و مسحت، ثم أعدت الكتابة مرارا وتكرارا قبل أن تبدأ معالم هذا المقال بالظهور.
ذلك أن “النصوص الموازية” ، تتميز بالنسبة لهذا العمل بالفرادة في ترابطها في ما بينها من ناحية، وصلتها مجتمعة ومنفردة بالسياق العام للسرد من ناحية أخرى، وللتوضيح؛ فلا بد من الإشارة إلى علاقة هذا العمل بقصيدة الشاعر الفلسطيني الراحل محمود درويش بعنوان “أحد عشر كوكبا” والتي يتردد فيها قول “أنا يوسف يا أبي” أكثر من مرة. وسبق أن أثار هذا النص جدلا واسعا لعلاقته بالقرآن الكريم.
هذه الصلات والمعاني إذن مرتبطة ارتباطا وثيقا بعنوان الرواية “أنا يوسف يا أبي” ، بينما يشير اللون الأبيض الذي اختاره الكاتب للغلاف إلى البراءة ونقاء السريرة وهي الصفات التي ارتبطت بالنبي يوسف عليه السلام. ثم الصورة للرجل بالقميص الذي يشكل اللون الأحمر جزءا أساسيا من مكوناته وما لهذا اللون من قصة معروفة تتضمن تهمة ألصقها إخوان يوسف بالذئب. أما علاقة الرجل بالطفل في صلة الأب بابنه وسوف تتكشف تفاصيلها للقارىء في نهايات الرواية.
ثم الإهداء إلى ” كل ضحايا الحروب الأبرياء” والتي أرى أن الكاتب تجاوز النص في معناه ليقصد الضحايا الأبرياء للحروب وغيرها. ثم هذا التصدير بأبيات من قصيدة محمود درويش وما تتضمنه من معان وثيقة الصلة بمجريات أحداث الرواية كما سيتضح للقارىء.
جاء في مضمون الرواية أن أحد خريجي الجامعات السوفياتية “عون” والمتزوج من سيدة روسية “غالينا”، يضطر عون للعودة إلى روسيا بعد انهيار الاتحاد السوفياتي، وبعد أن ترك عمله في الأردن مكرها، يعود مع الزوجة بعد ضغوط متكررة منها ومعهما ابنهما “محمد” الموشك على الالتحاق بالتعليم الجامعي، اما ابنتهما “ريمة” التي تحجبت والتحقت بزوجها في إحدى دول الخليج بعد خلاف أفقدها الصلة بوالدتها وتسبب ذلك بفتور الصلة مع الوالد. فأي مآلات ومصائر واجهت العائلة؟ وما علاقة هذا بمجمل الأحداث والظروف المتغيرة في المنطقة وفي أرجاء العالم؟
في نحو 250 صفحة من القطع المتوسط يتناول الكاتب من خلال حديثه عن أفراد العائلة والتغيرات التي طرأت على سلوكهم وحيواتهم وأمزجتهم، وما أدت إليه هذه التغيرات لمزيد من التطورات ربما غير المتوقعة، ففي أي اتجاه مضت مجريات الأحداث؟ وأي مصير للأشخاص افضى إليه السرد؟ أترك للقارىء استكشاف أمر هذه التفاصيل.
ولكن لابد من الإشارة أن الوصف اتخذ نمطا مشهديا شاملا تناول الأحداث في منطقة الشرق الأوسط بما فيها سوريا، والعراق، وأفغانستان، وتركيا، وحتى الحرب في أكرانيا. فهي رواية وثيقة الصلة بالواقع، وهي تتجاوز الحداثة من حيث تناول السرد لمسألة التواصل من خلال وسائل التواصل الاجتماعي في أكثر من مناسبة، وبعيدا عن الخوض في تفاصيل الأحداث عبر السرد رأيت أن أصاحب القارىء في ماتضمنته الرواية من أفكار وإشارات بشكل عام:
- تولى المؤلف من خلال ما يتبنى من عقيدة إيمانية إبراز الأثر الإيجابي للمسلك المرتبط بهذا التوجه مثل الإشارة إلى ما تمتع به عون من سكينة إثر الصلاة بعد وفاة والده، وإبراز ما كان للمشروبات من صورة أمعن في تصوير سلبياتها، في حين تناول مساعدة الآخرين على ترك المشروب بكثير من الإطراء، وكذلك ارتداء “ريمة” للحجاب وقرارها الارتباط بيحيى رغم عدم موافقة والدتها الأمر الذي أفضى إلى القطيعة بينهما.
- ولكنه في المقابل أدان الحرب القذرة التي تخوضها التنظيمات الإسلامية المتطرفة، كما أدان من خلال يوسف التصرفات الوحشية التي يقترفها منتسبوا هذه التنظيمات، مثل إعدام الرجل الأصم الذي نفذه أبو عكرمة، كما أدان نتائج هذه الحرب وأثرها على الأبرياء هو ذا يتسائل: ” حرب من هذه؟ ما ذنب الذين قتلوا، وربما كانوا جالسين يتناولون عشاءهم، ترى هل تمكن ذاك الطفل الصغير من ابتلاع اللقمة التي وضعها للتو في فمه؟الأن مسلحين غرباء احتلوا القرية؟ سيأتي مسلحون آخرون ويطردون مسلحي الأمس، فتأتي طائرات أخرى لتقصف القرية ويموت الأبرياء، ما هذه القسوة ؟ من لهؤلاء الناس الأبرياء؟”(صفحة 203)
والمؤلف إذ يدين هذه الموقف ليعبر في الوقت نفسه عن حيرة وضياع محمد”يوسف” وكثيرون غيره وإخفاقهم في اختيار البوصلة المناسبة هروبا من مآزق تعددت أسبابها ليكتشفوا زيف ما سعوا إليه ويقعوا في خيبة أعمق وأشد أثرا .
رصد المؤلف التغييرات الثقافية والاجتماعية التي جرت حول العالم بعد انتهاء التجربة السوفياتية بما في ذلك تغير أنماط العيش سيما في البلدان التي كانت تتبع للإتحاد السوفياتي جريا وراء الأعمال الحرة التي خطف بريقها عيني “غالينا” زوجة عون فدفعت بالعائلة في أتون هذه التجربة العمياء غير أبهة بأي شيء سوى طموحات شرهة للكسب ليس لها حدود ، وما طاب لها من الملذات بغض النظر عن ما تشكله من مخالفات أخلاقية.
ملاحظة أخرى تمثلت في تغيير التسميات مع عدم الاكتفاء بالإسم الجديد أو استعادة الأسماء القديمة بل بالإمعان في الإشارة إلى الأسماء المستخدمة في العهد السوفياتي كأن يقال شارع سادوفايا “إنجلز سابقا” صفحة 126.
ولعل في الموقف التالي ما يلفت الإنتباه: ففي الصفحة 127 دار الحوار التالي بين “عون” وصديقه الروسي الجديد “فاديم”:
- قال عون:أنا لا أفهمك اعتقدت أنك شيوعي.
- الشيوعية لم تعد فكرة مقبولة عند أكثر الناس في بلدنا، وفي الوقت ذاته نحن ليس مع الرأسمالية المنفلتة أو التابعة نحن نريد نظاما خاصا يؤمن لنا الاستقلال والازدهار.غورباتشوف ويليتسين باعا البلاد لأمريكا، أمريكا تعتقد أن بإمكانها تسخير موارد العالم أجمع لصالحها، ألم تعلن أنها قائدة العالم وشرطيه؟ نحن الروس لا يمكننا أن نقبل بذلك مهما كلف الأمر”.
عودة إلى يوسف وعلاقته بمهرة زوجة أبي عكرمة ، والتي تشبه في بدايتها قصة زوجة العزيز مع يوسف ، والقميص الذي قد من قبل أو من دبر إلا إن مجرياتها مضت في اتجاه آخر ، فالقميص قُدّ بقصد تضميد الجرح والعلاقة انتهت بالزواج وإن كان ضمن ظروف ملتبسة، ولكن يبدو أن يوسف وقع في شرك استخدام اسم ابي عكرمة حتى يتمم زواجه بمهره ولجوئه إلى تركيا فبات ضائعا عاجزا عن العودة إلى اسمه “محمد” فرضي باسم يوسف.
فهل عاد محمد؟ وهل قبل عون بعودة محمد وقد اصبح اسمه يوسف؟!!
عمان 25/08/2024