“اللّون العاشق” لأحمد شبلول.. ثنائيّة الفنّ والحياة
محمد عطية محمود
(كاتب وناقد مصري)
في رواية “اللون العاشق” لأحمد فضل شبلول، يعكسُ السَّرد الحالة الاجتماعيّة والفكريّة المُتناقضة والمُغايرة للحالة الفنيّة الدالّة على ثراء اجتماعي ورفاهيّة تبدو للعين لتجسِّد طبقة أمام طبقة، كما يعكس حركة الزَّمن وأثره في العادات والتقاليد المتمثلة في زِيّ امرأة هذا الزَّمن، وما تخفيه زينتها من مسكوت عنه في وعي الشخصيّة الشعبيّة التي تتلاقى مع شخصيّة صانع الفن في مناخ غير مناخها، وهو من عبقريّة اللوحة الفنيّة ذاتها التي تجمع بين سموّ الفنّ، وتواضُع الطبقة الاجتماعيّة، ومدى إبراز الجمال فيها، وهي الحيلة التي تتلمَّسها الرِّواية كي تصنع المُفارقة الحياتيّة من خلال تلك الشبكة من العلاقات المتوالية أو المتوالدة، التي تدخل في حيِّز التخييل والواقع معًا ليصنعا سبيلًا للسَّرد.
“أريدُ أنْ أجمع في تلك اللّوحة كل مدارس الفن المصري من فرعوني وقبطي وإسلامي وحديث، أريد أن تكون الخطوط والألوان ليّنة وراقصة ووامضة مثل جسد بنت بحري، وأن يصبح رداؤها جزءًا من شخصيّتها، وكاشفًا لجمالها المختلف عن الجمال الأوروبي التقليدي”.
ربَّما كانت تلك فلسفة اللوحة الفنية التي تشبَّع بها وجدان الفنان محمود سعيد وهو يرسم في مخيّلته مشروع هذه القطعة الفنيّة المنشودة، بما لها من عمق ثقافي وميثولوجي ضارب في عمق الفن والتاريخ معًا، على أمل تحقيق هاجس التجاوز الفني الذي ربّما راود كل فنان ملهم، وربما كانت تلك التفصيلات الحيّة لهي من صميم عمل روائي يتحرّى الدقة في الوصف والتفاصيل، بالموازاة مع أنَّ فكرة العمل الروائي تتلخص وتتركز فيما يقدمه من رؤية مغايرة أو كاشفة، أو محاولة للربط بين ظواهر الحياة وتأملاتها أو ما يدور في باطنها المشبع بالكثير من تفاصيل يتنازعها الواقع مع الخيال لتقديم رؤية بانورامية، قد تعبِّر إلى حدّ بعيد عن ما وراء هذا التخييل أو المكونات التي عملت على تجسيد واقع مواز، لا فيما يعرضه فقط من أحداث وحكايات، فعندما يتدخل الفن بصفةٍ عامة في هذا المضمار؛ فإنه يُلقي بظلال أخرى مغايرة، أو ليكون خلفية عريضة لتلك النزعة الحكائية الروائية، أو لتضفيره بها، فإنَّ ذلك يدخل في نطاق التأويل.. تأويل الفنّ بالفنّ..
ربَّما كان هذا هو المدخل لرؤية رواية “اللون العاشق” لأحمد فضل شبلول -الصادرة 2018 عن دار “الآن” ناشرون بالمملكة الأردنية الهاشمية- تلك الرواية التي يمزج فيها بين السيرة الذاتية المتخيّلة، والقائمة على أساس الفن التشكيلي وعناصره الفاعلة في حياة المَثّال “محمود سعيد”، وأساس آخر تخييلي هو السيرة الذاتية للفنان التي تتحوَّل إلى نمط أحداث روائية واقعية محايثة للعملية الفنية، ما قد يعبِّر إلى حدّ بعيد عن تلك الثنائية/ المتلازمة بين الفن والحياة؛ فهنا قد تتبادل الأدوار، وقد تتداخل وتتقاطع ليشغل الحديث عن الفن متن هذا العمل الروائي الذي ربّما هرب به الكاتب من فخ التسجيلية إلى التفاعل الدرامي، وإلى براح التجربة الإنسانية المقترنة بالتجربة الفنية.
- تأثيرات عالميّة
تبدو جذور التأثر من خلال الخلفية الثقافية الفنية المتكئة على تراث عميق من الفن الذي يتوارى بين صفحات التاريخ، ويعمل على شحذ المخيّلة المقترنة بالثقافة والوعي الفني سواءً كان منهجيًا أو فطريًا ممهورًا بدهشة البحث في الموروث الفني على الدوام كسمة من سمات الفن والإبداع والترحال عبر حقبِه المؤسِّسة، فما بين التأسيس لوعي الفن ووعي وفلسفة اللوحة المشتهاة تقع الثقافة البصرية للفنان، وهي التي ربما تحمل معها جذور ولعه بالتكوينات الفنية الاجتماعية اللافتة للانتباه، والدهشة:
“لذا اخترتُ لوحتين لفنانَيْن ربّما ليس لهما شهرة عالمية، ولكنَّ اللوحتين أرى أنَّ بهما جمالًا مميزًا، اللوحة الأولى للفنان الصيني من أصل إيطالي “جوزيبي كاستليوني” (1688-1786) وتحمل عنوان “ثلاث فتيات صينيّات يلعبن الضاما (الدومينو)” وقد شاهدتها في متحف هامبورج واقتنيت نسخة منها.. أمّا اللوحة الثانية فهي للفنان “ألكسندر روزلين” (1718-1793) وهو فنان سويدي عاش في فرنسا، ولوحته “السيدة ذات الطرحة والمروحة” المعبِّرة عن أناقة القرن الثامن عشر خير تعبير”.
هذا المزج بين اللوحتين والاستعانة بالفن كمرجعيّة للفن قد يكون هو النهج الذي انتهجه “محمود سعيد” وهو يضع الأساس التعبيري الوجداني الذي ترسَّب بداخله كعامل من عوامل حضانة الفكرة الفنية الإبداعية ومحاولة التمرُّد على الشكل مع الاحتفاظ بروح المضمون (المركب في حالة بنات بحري)، حيث يستبدل هنا الزيّ المناسب للمرحلة الزمنية والبيئة الشعبية التي انتقلت إليها الفكرة؛ فاليشمك والملاءة اللف قد حلّا محلّ الطرحة والمروحة كثيمات ملازمة لكل طبقة اجتماعية من بلاط القصور إلى العامة في الشارع بتراثهنّ المغاير، وثقافتهنّ الشعبية المغايرة المرتبطة بالمكان والتقاليد..
- التأسيس والانطلاق
ولعلَّ اختيار الكاتب/ الروائي أن يتحدث عن ما وراء اللوحة الشهيرة للفنان، من أحداث ومواقف وأسباب تركنُ بعضها إلى الصُّدفة القدريّة، فيما يركن بعضها الآخر للترتيب وهي “بنات بحري” أو “جميلات بحري” لهو من صميم الحرص على بناء شبكة قوية من العلاقات الإنسانية التي أدّت إلى تجسيد هذه الحالة الفنية الفريدة الخالدة، وهي الوشيجة التي تحرَّك لها الخيال ليصنع لها عالمًا أقرب إلى الواقع منه إلى التخييل الروائي، متضافرًا مع ما قد نسميه: “الرواية السيرية” أو سرد أحداث واقعية قد تكون حدثت بالفعل للفنان بشكل ما أو بآخر، مع تلك المؤثرات التخييلية التي تتطلبها الحالة الفنية للكتابة ذاتها، حيث تأتي عملية الإثارة الذهنية للمتلقي تبعًا لحالة الإثارة الذهنية للكاتب والتشبُّع بها كي تعطي للعمل الروائي هذا النهم القرائي المتوقع للمزيد من كشف الحكايات والأسرار.
وليس أدلّ على ذلك من تلك المقاطع التي يأتي بها الكاتب لتجسِّد معاناة الفنان في تشكيل فنه والعمل عليه والاستقاء من كل ما حوله، متزامنة مع الجانب الحيّ من العلاقات الإنسانية المؤثرة التي عاصرت وأدَّت إلى هذه الدفعة الفنيّة المغامرة؛ لذا فنحن بصدد مغامرتين: مغامرة الكتابة، ومغامرة الفن؛ فالكاتب يبدأ مغامرته بهذه المشهدية المغرقة في الواقع من خلال رسمه للمكان الفعلي الذي كان يقطنه الفنان متأثرًا بهذه الأجواء الفنية التي تسبغ على هذا الجو العام/ الخاص هذه المسحة الفنية الخالصة، بإطلالة السارد الخارجي الذي يسجل للواقع تمهيدًا للدخول في أجواء الذات الساردة التي تمتلك زمام السرد فيما بعد:
“جلس محمود سعيد في فيلته بجناكليس على الفوتيه المحبَّب له من طراز لويس الخامس عشر، موديل المركيزة، والمصنوع من الخشب الزان الطبيعي غير المشغول بالحفر، والمنجَّد بالكامل بالمخمل الأملس، ومدَّ ساقيه أمامه على مقعد تابوريه بسيط بلا ظهر أو أذرع من طراز لويس الخامس عشر، والمصنوع من الزان المصقول. كان يتأمل لوحاته المتعددة في بهو الصالة الكبرى بالفيلا التي لا ترى البحر، على عكس فيلا عائشة فهمي الواقعة على أرض مرتفعة تطلُّ على بحر جليم”.
هذا التأسيس للمكان بمفرداته يُعدُّ مدخلًا مهمًّا للانطلاق إلى عالم “محمود سعيد” الخاص واليومي، والفكري المشبع بثقافته، من هذه الزاوية المتسعة على مفردات عالمه أو رؤيته الفنية المتمسكة بوجوده بين رموز هذا العالم، ربما في عزلة محببة أو في حالة من حالات الاستعداد لاقتناص لحظة ما من لحظات الفن الفارقة التي لا توقفها استراحة ولا كمون، ولا استسلام سوى للأفكار المتوقدة التي تعمل في نفس الفنان وهو يقترب من صيد فني جديد، ذلك الذي ينقل حركة السرد للتغوُّر فيما وراء الشخصية أو دوافعها لصناعة هذا النسيج الداخلي، والفني الخارجي.
- عناصر اللّوحة/ النَّص الروائيّ
“كلُّ هذا طاف في بالي وأنا أحدِّق في فتاة حلقة السَّمَك التي تشبه تمامًا الفتاة التي شاهدتها ببصيرتي في اللوحة التي أستعدّ لرسمها. تردّدت في الحديث إليها، والمفاجأة التي أربكتني أنها هي التي بادرت بالحديث معي عن أسعار السَّمك اليوم وأنها ازدادت قرشًا عن أسعار اليوم… وجدتُ أنَّ لديها استعدادًا للحديث معي، ووجدتني أطوف معها حلقة السَّمك من بائع لآخر”.
هنا تبدو روح الإلهام مع التراكم الذهني لدى الفنان، وهو يشكل في وعيه هذا الخيال الذي حتمًا سوف يجسِّده على أرض واقع جديد هو واقع اللوحة، وبهذا الانتقال من حيِّز مكاني له دلالاته الفنية والتعبيرية إلى حيِّز آخر له دلالاته الاجتماعية المقابلة، وهو السوق أو الصورة المصغَّرة للمجتمع الشعبي الممتزج بمنمنمات تشكِّل وعيه كما تشكِّل صورته البارزة الناطقة بنسيجه، يأتي التأسيس للّوحة الفنية من خلال الاشتباك مع الفكر والواقع معًا ليكون الحصيلة هو هذا الموديل/ الفتاة التي عُدَّت نواة لهذه اللوحة، وهي الصدفة القدريّة، والتي تجمَّعت حولها من خلال النسج الروائي المتماسك باقي الشخصيات التي طمحت -وإنْ من خلال وعي الفنّان- لمعانقة الفن من خلال حكاياتهن المترعة بما فيها من متناقضات، وهي الخصيصة الإنسانية التي يقوم عليها كل عمل إبداعي يستهدف الإنسان ويضع له خطوطه التي تتوازى مع الخطوط العريضة للفن، حتى تتلاقى ويكون الناتج تلك الأفكار المضفرة:
“كانت ست الحسن هي المرأة التي أتت بها حلاوتهم في مرسمي، لم تخبرني بأنها ستأتي بالمرأة الأخرى معها في أول زيارة ولكني عذرتها في ذلك فهي لا تعرف من أنا، وكيف سأتعامل معها، وكيف سأرسمها، فهي لم تُرسم من قبل والتجربة جديدة عليها.. دخلت المرأتان مرسمي خلعتا الملاءة اللف السوداء واليشمك، وأخذتا تشاهدان اللوحات المعروضة لي ولغيري، وهما في حالة من الفضول والدهشة والنشوى والبهجة والفرحة بكل تلك الأعمال التي ربما تشاهدانها للمرّة الأولى”.
يعكسُ السَّرد هنا الحالة الاجتماعيّة والفكريّة المُتناقضة والمُغايرة للحالة الفنيّة الدالّة على ثراء اجتماعي ورفاهيّة تبدو للعين لتجسِّد طبقة أمام طبقة، كما يعكس حركة الزمن وأثره في العادات والتقاليد المتمثلة في زِيّ امرأة هذا الزَّمن، وما تخفيه زينتها من مسكوت عنه في وعي الشخصيّة الشعبيّة التي تتلاقى مع شخصيّة صانع الفن في مناخ غير مناخها، وهو من عبقريّة اللوحة الفنيّة ذاتها التي تجمع بين سموّ الفنّ، وتواضُع الطبقة الاجتماعيّة، ومدى إبراز الجمال فيها، وهي الحيلة التي تتلمَّسها الرِّواية كي تصنع المُفارقة الحياتيّة من خلال تلك الشبكة من العلاقات المتوالية أو المتوالدة، حيث تدخل كل امرأة/ نموذج في هذا المثلث الفنّي من خلال حكايتها وهمِّها الخاص الذي تفرد له الرِّواية، أو ما وراء اللوحة، السطور والصفحات لتتقلّب على جمر معاناتها وتتشظّى مع جسدها المثير للفنّ، وهو ما يدخل في حيِّز التخييل والواقع معًا ليصنعا سبيلًا للسَّرد..
فمن رحم كل علاقة من علاقات الواقع/ العمل الروائي تنبت كل بطلة من بطلات العمل الفني/ اللوحة، وما تثيره من تنوُّع اجتماعي وثراء من نوع آخر يتغيّاه الفن ليخرج من خلاله خصيصة من خصائص المجتمع ليبرزها لتكتمل بها الصورة الجمالية للإبداع سواء كان فنًا تشكيليًّا أو فنًا سرديًا معبّرًا على مستويي المرسِل/ المؤلف، والوسيط/ الفنّان، والرسالة التي يؤدّيها كل منهما لصالح المتلقي الشّغوف بهذه الدراما الفنية الواقعية:
“نظرت جميلة إلى حلاوتهم وست الحسن، وظهرت علامات الغيرة على وجهها، ولكنّي كنتُ قرّرتُ الاستعانة بالثلاثة، وعليّ أن أعالج أيّ ثغرات للجمع بينهنّ، تمامًا مثل المُخرِج الذي يحاول التوفيق بين أبطال عمله السينمائي أو المسرحي، فلا تطفو المشاكل بينهم على سطح العمل، ولا يراها المشاهد”.
وهو ما يعكس حالة الصراع الإنساني التي ربما تطابقت مع حالة الصراع الفني من خلال تجسيد كل امرأة لتكون عنصرًا مغايرًا عن الأخرى يحمل سماته الإنسانية والاجتماعية والغريزية المتجسِّدة في براعة الفنان في تقديمها في صورتها المعبِّرة عن حقيقتها ومدى تطلّعها في الحياة، وهو ما يرصده النص الروائي على مدار سرده وتقاطعات حكيه عنهنّ منفردات ومجتمعات، من خلال هذا الحالة الاجتماعية المتشابكة التي جمعت بينهنّ سواء في الواقع أو على الورق (معمليًّا) قبل التخليد عبْر اللوحة الفريدة.
- بين الاكتمال وإثراء الحالة السرديّة/ الفنيّة
فعندما تكتمل ثلاثيّة اللوحة يكتمل للفنان/ السارد عن ذاته تلك الشّحنة التي تمكّنه من الانطلاق إلى تحقيق غاية إنسانية وفنية معًا، من خلال قناعات وخلفيّات للَّون الذي يعشقه ويدلّل به على الحياة، وهو اللون الأزرق المميّز للبحر، والذي يلطّف ببرودته من تأثير الألوان الحارة في الحياة!! مع هذا التشابك الإنساني التي تحدثه هذه العلاقة الفنية الطارئة، في لوحات عالمية معاصرة وسابقة له، ولتنتهي بعدما تشعّبت ونالت حظّها من هذا الثراء الفني الذي ألقى بظلاله على حيواتهنّ، فقصة اللوحة هي قصة طموحين: الطموح الإنساني للشخصيّات، والطموح الفني للفنّان الذي يقول:
“عليَّ هذا الأسبوع أن أنتهي من لوحة بنات بحري وأنهي علاقتي بحلاوتهم، وأنتظر مصير عبدالحميد زوج ست الحسن في قضيّته المنظورة أمام المحاكم، أمّا جميلة فسوف أستعين بها للمرّة الأخيرة قبل انتقالها للعمل بالقاهرة، فقد عرفتُ أنَّ محمد كريم قرَّر الاستعانة بها في دور قصير، في فيلمه القادم مع محمد عبدالوهاب”.
لتبدو كل الشخصيات في صبغتها الحقيقية التي أضفى عليها الفن وتُغيِّر أحوال الحياة المزيد من الرتوش والألوان المتوهّجة، ومن خلال العديد من الوجوه الأخرى الشهيرة التي أطلّت لتتخذ مكانها الشخصي والطبيعي من التاريخ، ممّا يثري العمل ويضعه في حيّز التوثيق الفني، ليبدو المطرب محمد عبدالوهاب، والمخرج محمد كريم، والمطربة ليلى مراد وشقيقها وكذلك توفيق الحكيم، إلى جانب الفنانين العالميين الذين تأثروا باللون وتأثر بهم الفنّان من أمثال “بيكاسو” و”سلفادور دالي” وكذا المَثّال العظيم محمود مختار، ممّن كانت لهم أدوار متباينة ساهمت في دفع الحركة السردية والحكائية للنص الروائي؛ لتبقى العلاقة بين الفن والحياة هدفًا بالغ التأثير.. وكتابًا مفتوحًا لكل المؤثرات والنتائج التي تجعل من عالم الفن مرجعًا مهمًّا من مراجع الحياة اليومية الكاشفة.
إلّا أنَّ الدور الذي لعبته شخصية المخرج السينمائي “محمد كريم” كان دورًا مشاركًا في تنمية الحدث الروائي والربط بين العديد من المواقف المهمة التي فجّرت الكثير من العناصر المهمة في حيوات تلك الشخوص المرسومة، والتي ساهمت كثيرًا في رسمها سرديًا أو واقعيًا، وكأنه يضبط إيقاع الحكاية من خلف كاميراته المسلَّطة على الفنان وشخصياته، وهو الدور المهم الذي استطاع الكاتب أن يضع به العديد من النقاط فوق الحروف، حتى تصل إلى حدّ أنها تكون الشخصيّة/ الظِلّ للفنّان في عمله برؤيته الكاشفة:
“لأوّل مرّة منذ عرفت ست الحسن أراها تبتسم ابتسامة صافية واسعة أضاءت جبينها، كأنَّ القمر وقف عليه، أو أنَّ الشمس أنزلت شعاعًا من أشعتها الدافئة على قسماته. نظرتُ إلى كريم فوجدتُه يتفحَّصها وعيناه متسعتان على هذا الجمال الربّاني المنكسر، فأدركتُ أنه سيستعين بها للتمثيل قبل حلاوتهم وجميلة”.
ليفرض الفن ذاته على الفن، وتخرج من بين جنباته إشراقات جديدة قد تثري فضاء الحالة الإنسانية وترقِّق من المشاعر والأحاسيس وتبلغ بها الآمال على مستوى الفن، ذلك الذي يفرض طقوسه على مدار النص الروائي، من خلال اللون والنغمة والإيقاع والدخول في غمار مجتمع ثقافي يحاول أن يبسط هيمنته، وإن كان على مختلف الأصعدة والطبقات، في حقبة زمنيّة مهمّة من تاريخ الفن المصري؛ فها هو الفن يجمع ويذيب الفروق بين الطبقات الاجتماعية؛ ليكون الفن مرادفًا للحياة، وموازيًا لها ومتقاطعًا معها في ثنائيّات متعددة، ربّما كانت متضادة.
(نُشر في مجلة “أفكار” الأردنية، العدد 398، آذار 2022)