الأديبة شريفة التوبي: الكتابة تتطلّب روحًا حرة وقادرة على خوض عباب محيط المغامرة

الأديبة شريفة التوبي: الكتابة تتطلّب روحًا حرة وقادرة على خوض عباب محيط المغامرة


class="inline-block portfolio-desc">portfolio

text

    حاورها: نضال برقان

    تذهب الأديبة شريفة التوبي إلى أن «الكتابة عن حدث تاريخي، وكتابة ملحمة تاريخية بأسلوب سردي وتحت جنس أدبي اسمه «رواية» عمل ليس سهلا أبداً»، مؤكدة أن «الكتابة في حد ذاتها مغامرة..».
    التوبي نفسها، وهي قاصة وروائية من سلطنة عمان، كانت أصدر روايتها الجديدة “البيرق.. هبوب الريح” “الآن ناشرون وموزعون”، 2024 وهي الجزء الثالث والأخير من ثلاثية “البيرق” للكاتبة، بعد جُزأيها الأول “حارة الوادي” والثاني “سُراة الجبل”. ولتسليط المزيد من الضوء حول تجربة الأديبة العُمانية شريفة التوبي كان لنا معها الحوار الآتي:

     

    • يحضر البعد التاريخي بأسلوب ملحمي في مجل أعمالك الروائية، فكيف تنظرين إلى طبيعة العلاقة بين التاريخ وناسه وبين السرد الروائي؟
      – بالنسبة لي التاريخ مادة مغرية للكتابة، التاريخ كنز من الحكايات، والكاتب الذكي من يستطيع البحث في دهاليزه وعوالمه لكتابة حكاية جديدة على أنقاض حكاية قد يظن البعض أنها ماتت أو خلق حكاية جديدة لا تلتقي مع الحكاية الاصلية سوى في الفكرة. ليس من السهل نبش التاريخ، وليس من السهل أبداً أن تخرج بشيء جديد ومتخيّل على أساس حكاية واقعية أو شخصية حقيقية، وهنا على الكاتب أن يحذر من أن يقع في فخ إعادة كتابة التاريخ دون إضافة جديد يستحق الإشارة له بأنه أدب، فأعراف وقواعد الكتابة السردية تختلف اختلافاً جذرياً عن كتابة التاريخ، والأديب لا يشبه المؤرخ إلا في حدود الفكرة.
      الكتابة في الأصل اجترار حدث من الذاكرة، ومن ثم بناء العوالم المتخيلة عليها، دائماً هناك فكرة يستند عليها الكاتب أو الروائي، تكون قد استوقفته أو أثّرت فيه بشكل أو بآخر، ولامست مشاعره، وهذا ما يؤكد ظنّي بأن الكتابة تبدأ من القلب، لتنتهي إلى القلب، ذلك هو الطريق الممتد بين الكاتب والقارئ. من جانب آخر أجد أن المساحة المتاحة للأديب أوسع بكثير من المساحة المتاحة للمؤرخ، فالمؤرخ يتعامل مع شخصيات حقيقية واقعية وأحداث ولا يمكن له تجاوزها أو تغيير شيء من واقعها، ورغم ذلك هناك نسبة كبير في عدم مصداقيته، لكونه خاضع لسلطة معينّة، والتاريخ لا يكتبه سوى المنتصر كما يقال، ففي كتب التاريخ نحن لا نقرأ إلا أسماء قادة الجيش والسلاطين كأبطال حرب مهما كانوا قتلة أو مجرمون، لكن الراوي يركّز على من كانوا وقوداً للحرب، ينتصر للبسطاء الذين غيّبهم التاريخ، ويكتب عن مشاعرهم أفكارهم، حياتهم، التفاصيل الدقيقة الجميلة والقبيحة، الجميلة والمحزنة، في الأدب وجه آخر للحكاية التاريخية لا يراه سوى الأديب أو الراوي.

     

    • إن الكتابة عن حدث تاريخي، وكتابة ملحمة تاريخية بأسلوب سردي وتحت جنس أدبي اسمه «رواية» عمل ليس سهلا أبداً، هناك مجازفة وخيط حاد قد يكون جارح للكاتب قبل القارئ في حرصه الشديد ألا ينقطع، خشية أن لا يحدث خلط بين الواقع والمتخيّل. في روايتك «سجين الزرقة»، تتناولين قضية اجتماعية حساسة تتمثل في مجهولي النسب، والموقف الاجتماعي من هؤلاء الأبرياء، ترى ما الذي دفعك إلى تناول موضوعه حساسة كهذه، وكيف كان استقبال القراء لمعالجتك لمثل هذه القضية؟
      – الكتابة في حد ذاتها مغامرة، ورواية «سجين الزرقة» كانت مغامرتي الأولى، فحينما قررت كتابة هذه الرواية بالذات والتي كانت أول عهد لي بكتابة الرواية، كنت أعلم أني على وشك الدخول في كتابة عمل غير مضمون النتائج، أقحم نفسي في «عش الدبابير»، ولكن كان عليّ أن أمتلك الشجاعة الكافية للكاتبة، فصورة الطفل ونظرة احزن في عينيه وهو يتأرجح في مرجوحة بدار الأيتام أثناء حضوري فعالية خيرية، لم تفارقني، تملكّني شعور بالرغبة في الكتابة عنه، تخيّلت حياته حينما يكبر، ولاحت في مخيلتي أمّه، كيف أتت به، أين هي، كيف مشاعرها وهي تتخلى عنه؟ أسئلة كثيرة لم أجد لها إجابة إلا من خلال الكتابة، وكأن الكتابة كانت تفتح أمامي هذا العالم بشكل واضح، وتجيبني على أسئلتي. لقد كانت الفكرة أشبه بمطرقة تطرق قلبي ورأسي، لذلك كان لا بد لذلك الطرق أن يتوقّف، ولن يتوقف إلا بالكتابة، أردت أن انتصر لهذه الفئة المغيّبة تماماً من المشهد الاجتماعي، والمُنكرة وكأن ليس لها وجود، إلى درجة أنه لا يُعترف بهم كأشخاص لهم وجود ومعاناة لا يعلمها بها إلا الله. لقد أنصفتهم الجهات الرسمية الحكومية ولم ينصفهم المجتمع، ليقضون حياتهم وهم يدفعون ثمن جريمة أباءهم ويعابوا بها كوصمة عار طوال حياتهم. في هذه الرواية تعمّدت أن يسمع الجميع صرخة راشد وصوته ليدركوا معاناته، راشد الذي أتى كثمرة محرّمة لزنا محارم، ولصوت سالم اللقيط الذي عُثر عليه في «كرتون» مرمياً بالقرب من صندوق القمامة، هؤلاء موجودون بيننا، وما من مجتمع مثالي وفاضل بأكمله، مهما ادّعينا الفضيلة كمجتمعات عربية محافظة.
      لقد ظلّت هذه الرواية سنوات مخبأة في درج مكتبي، خشية رفض المجتمع لها، وحين أخرجتها لنور كنت كمن يحمل ثمرة محرمة بين يديه، وكما حملت شمسة راشد حين ولدته سفاحاً، لكن خالف المجتمع ظنّي وتقبّل القارئ «سجين الزرقة» قبولاً شرعياً وحسناً، ونجحت الرواية وحصلت على جائزة الإبداع الثقافي لإصدارات عام 2021 من الجمعية العمانية للكتاب والأدباء.

     

    • جاءت روايتك الحديثة تحت عنوان البيرق «هبوب الريح»، ترى ما أبرز الرسائل التي حملتها هذه الرواية؟ وما الجديد الذي تجترحه للقارئ؟
      – بهذه الرواية تكتمل ثلاثية البيرق التي صدر الجزء الأول منها في عام 2021م تحت عنوان فرعي «حارة الوادي» ومن ثم صدر الجزء الثاني «سُراة الجبل» عام 2022 والآن بحمد الله وعونه صدر الجزء الثالث «هبوب الريح»، من دار الآن ناشرون وموزعون. هاجس كتابة هذه الرواية كان يسكن روحي منذ زمن طويل، منذ أن كان جدي يحدثني عن ذلك التاريخ القديم قبل النهضة المباركة 1970 على يد السلطان قابوس بن سعيد رحمه الله، فانتبهت أن في تلك الحكايات مالم اقرأه في كتب التاريخ عن تلك المرحلة الزمنية بالذات، وكنت بحاجة لقراءة أخرى لهذا التاريخ، ورؤية وجه آخر للحكاية، وحينما كتبت ثلاثية البيرق، كنت أكتب الكتاب الذي تمنيت قراءته، فأعدت تشكيل الحكايات التي سمعتها من جدي ومن والدي ورفاق والدي بما يتناسب مع أعراف كتابة الرواية، أردت أن أخلق عالم جديد مؤثث بتلك الأحداث التي أستطيع القول أنها مغيّبة، وعُمان كبلد عريق، كل زاوية فيه وكل درب وكل سهل وجبل ملهم للكتابة، في عُمان وراء كل حجر حكاية، فقط كانت تنتظر من يكشف عنها ويعيد كتابتها.
      وكوني مؤمنة أن الكتابة رسالة، أدركت أن هناك رسالة مفقودة لم تصل عن هذه الحقبة الزمنية، هناك رجال ونساء دفعوا سنوات شبابهم وحياتهم ثمناً لحرب دارت رحاها في دروب تلك الحارة القديمة وعلى سفوح الجبل الأشم. في هذه الرواية كنت معنيّة بالجانب الاجتماعي، بالمرأة، بالعائلة، بزوجة السجين أو المناضل وأمه، أردت تسليط الضوء على المشاعر الداخلية التي يعيشها ذلك الإنسان الفقير الذي تغرّب في بقاع الأرض، باحثاً عن لقمة العيش وعن التعليم، وتفاجأ أن الحياة خارج الحدود لا تشبه داخل الحدود، أردت لكتابة عن ذلك الإنسان الحالم بالتغيير في مرحلة زمنية كانت تعج بالأفكار الثورية التي سيطرت على مختلف أنحاء العالم، في مرحلة صعبة عاشها مجتمعنا العماني، مرحلة لاقى فيها الفكر الشيوعي لدى الشباب العربي والخليجي قبولاً في تلك الفترة، وكان من السهل انسياق هؤلاء الشباب المغتربين لهذه الأفكار الجديدة، أردت أن أسلّط الضوء على الصراع الذي عاشه أبطال الرواية أو بطل الرواية حمود وهو يرى نفسه متورطاً بالسير في درب شائك دامٍ وقد أتى من يحقق للبلاد الحلم بالتغيير، فماذا يريد وماذا يريد رفاقه؟ وقد أتى من يقول لهم» سأعمل بأسرع ما يمكن لجعلكم تعيشون سعداء من أجل مستقبل أفضل». ومد يده إليه قائلاك» عفا الله عما سلف»، فهل سيعود حمود من الطريق الذي سار عليه أم يواصل دربه ذلك ما سيعرفه القارئ في هذه الرواية؟

     

    • كيف ترين طبيعة العلاقة بين الكتابة الإبداعية والحرية في العالم العربي؟
      – لا يكتب سوى الحرّ، وأعني بها الروح الحرة الجسورة، القادرة على خوض عباب محيط المغامرة. أي فكرة حين تحوّل إلى حكاية هي مغامرة، ولا يمكن أن تنجح تلك المغامرة إلا بوجود هذا الكاتب في بيئة حرّة وأرض ثابته يقف عليها حين ينوي التحليق بمخيّلته في عوالمه السردية. بكل أسف وفي الدول العربية ما زلنا نفتقد إلى الحرية التي تتوفر في بلدان أخرى من العالم، ما زلنا نكتب بحذر، وما زلنا نختار اللفظة المناسبة التي تلائم ذوق وأخلاقيات المجتمع الذي نعيش فيه، حتى لا يرفضنا المجتمع أو ينبذنا أو لا تجد كتبنا من يقرأها.
      إن خشية الكاتب من محاكمة المجتمع له تسبق خشيته من محاكمة السلطة، وكم من الروايات أو الإصدارات حكم عليها المجتمع بالإعدام لمجرد أن قارئ التبس عليه فهم المعنى، أو لم تناسب إحدى المفردات أخلاقه وقيمه، وفي مثل هذه الأجواء الملبدة بغيوم الحذر والترصّد، لا يمكن أن يتشكل إبداع حقيقي، فالإبداع الأدبي خصوصاً يحتاج إلى حرية، وإلى غياب عين الرقيب ومقصّه، وكم من الكتّاب الذين دفعوا حياتهم وحرياتهم ثمناً لكلمة كتبوها أو فكرة آمنوا بها لأنها لم توافق هوى الرقيب. ولكن ورغم ذلك مع الانفتاح الثقافي، وانتشار الترجمات، وانتشار مواقع التواصل الاجتماعي وسهولة النشر، أصبحت هناك مساحة كافية من الحرية للكاتب العربي، فلم يعد الكاتب ينتظر مساحة في صحيفة لينشر فيها ولا ينتظر تصريحاً بالنشر من جهة رسمية. لقد أصبحت وسائل النشر متاحة ومباحة للجميع، ودور النشر المنتشرة ساهمت أيضاً على نشر الأعمال الأدبية، وحتى وأن حصل ومنعت من العرض أو البيع، فإن وسائل النشر الإلكتروني موجودة، وأصبح بإمكان القارئ أن يقرأ الكتاب الذي يشاء بتنزيله أو تحميله من مواقع العرض أو البيع الالكترونية. ولكن هذه المساحة المفتوحة هي تحدٍ للكاتب المبدع، الكاتب الأصيل في صنعته، ففي زمن المتاح والمباح واستسهال النشر، عليه أن يراقب مستوى إبداعه، وأن يرقى بنفسه ويطوّر أدواته وتقنياته، لأنه في النهاية لن يبقى سوى الأصيل والهزيل سيذهب أدراج الرياح.

     

    • ترى ما أبرز الأدوات الفنية والأسلوبية التي تلجئين إليها في كتاباتك الروائية؟
      – أني من أولئك الذين يهتمون كثيراً بالمكان، يلفتني المكان ولعله الدافع الأول والملهم والمحرّك لي للكتابة، أحب تفاصيل الأماكن خصوصاً الأماكن الأثرية القديمة، تغريني تلك الآثار المتهالكة والبيوت الآيلة للسقوط، وشيء ما يشدّني للبحث عن أسرارها، ويستفز لدي الرغبة بالكتابة، وكأني أرى الأشخاص الذين عاشوا في تلك الحارات وعبروا دروبها القديمة، ودسوّا حكاياتهم خلف تلك الجدران الطينية المتهالكة. لذلك يستطيع القارئ أن يرى ويلمس تفاصيل المكان في أعمالي وكأنه يعيشه. كذلك أحرص على انتقاء المفردات اللغوية المناسبة للفترة الزمنية أو المرحلة التاريخية التي تدور فيها أحداث الرواية، وما يتناسب مع الشخصية، ففي ثلاثية البيرق حرصت على كتابة الحوار باللهجة المحليّة لأني وجدت أنها مناسبة أكثر مع طبيعة الشخصيات. أكتب غالباً بلغة في متناول القارئ بكل مستوياته الثقافية، كذلك أعتني كثيراً بالجوانب النفسيّة للشخصيات في صفاتها الشخصية منها الشخصية الطيبة والشخصية المخادعة والشخصية الشجاعة أو القلقة، وكل ذلك يتضح للقارئ من خلال السرد أو حركة هذه الشخصيات وما تعبّر به عن نفسها من خلال الحوارات.

    (صحيفة الدستور الأردنية, 27/12/2024)