النباح الأخير .. حين يفتح الهامش باب الحكاية

النباح الأخير .. حين يفتح الهامش باب الحكاية


class="inline-block portfolio-desc">portfolio

text

    محمد الشحري

    “الهامش مفتاح المتن فلا تهملوه”، كُتبت هذه العبارة في مفتتح المجموعة القصصية “النباح الأخير”، للكاتب الأردني مفلح العدوان الصادرة هذا العام عن “الآن ناشرون وموزعون”، وقبل تلك العبارة كتب العدوان في أول افتتاحية للمجموعة: “الذاكرة في طريقها إلى خزائن النسيان.. قصص المكان موزّعة بين الآلهة والبشر.. ولا شاهد عليها إلا ما تبقى من نقوش الحجر”.

    بعض العبارات التي تجدها في افتتاح معظم الروايات هي جزء من النص، تمنح تشويقا للقراءة بل هي الغواية بكل فتنتها. ولكن الأجمل أن تجد الافتتاحيات موظفة بشكل منمق في النصوص اللاحقة.

    حين أنهيت “النباح الأخير”، تمنيت لو نُشر هذا الكتاب قبل ثلاثة وعشرين عاما، وتحديدا في صيف 2002م، عندما زرت الأردن للمرة الأولى في زيارة طلابية لطلاب كليات التربية بسلطنة عُمان. كنا ضيوفا على جامعة البلقاء التطبيقية التي نظمت لنا زيارات لكل المعالم الثقافية والسياحية والتعليمية في الأردن من إربد شمالا وإلى العقبة جنوبا. قضينا أسبوعا كاملا في ربوع الأردن تعرفنا خلاله على أهم المعالم الأثرية والسياحية التي وجدتها حاضرة في قصص العدوان، التي ستتغير نظرتي إليها لو زرتها مستقبلا، فالآن أدركت أن الرواية أو المجموعة القصصية بإمكانها الانتقال من المجال السردي إلى الحقل الثقافي السياحي، حيث الأمكنة المتشبعة بالتاريخ المكتوب الذي بقي كذلك حتى حرّكته آلة السرد والمخيال، وأعادت إليه روح التشكُل من جديد حسب توظيف الكاتب للمادة التاريخية التي بحوزته.

    في (النُباح الأخير)، حمل المتن النص المكتوب بلغة أدبية أنيقة تشجع القارئ على مواصلة القراءة، إلا أن الهامش امتلك قدرا عاليا من قوة الإقناع وإبلاغ المعاني وتوصيل لغة الخطاب. هنا يتجسد دور الهامش في التحول إلى المركز الذي تخلى مؤقتا عن دوره تاركا المجال للهامش للعب دور المتن.

    كتب العدوان نصوصه عبر الجغرافية الثقافية لبلده الأردن على مدى حقب زمنية مختلفة، ليقدم جغرافيا سردية تستنطق شخصيات وسيرا تراثية وردت في المصادر والمراجع التاريخية، فمن كلب أهل الكهف إلى ناقة صالح إلى قلعة عجلون ومقامات الخضر، مرورا بالبحر الميت ووادي رم، وسقف الحريات الذي لم نكن نعرف أنه يتوسط مدينة عمّان القديمة، إلا من خلال هامش “النُباح الأخير”، وقد أزاح الكاتب عن نقش الحوريات غبار النسيان ليقول: “كانت تنتظرني!”.

    لم تترك المكان، ولا انسحبت من نبضي.

    قبل أن أغادرها، كتبت على جسدي، قلبي.. مئذنة لم يراودها أذان حضورك منذ حين..جسدي المنبر.. روحُكِ التكبير.. وأنفاسُك الأُلفة يا أتقى العاشقين».

    حين يفرغ القارئ من قراءة المجموعة القصصية، سيجد سجلا أدبيا للشخصيات التي مرت على الأردن وسردها العدوان حسب ما تمليه المخيلة وما تسمح به الذاكرة المكتوبة من أحداث قابلة للتأويل، مثل الملك البيزنطي دقيانوس حاكم فيلادلفيا (عمّان الحالية) وقصته مع أصحاب الكهف، والخضر، وقبائل بنو عوف، وفروة الجذامي، والأنباط، والحارث بن أبي شمرا، وأخاب بن عمري، وبعل، وأبو مصعب الزرقاوي، وجبريل، وعثمان الأول، والمأمون، وإسكندر جانوس المكابي، وأبوعبيدة بن الجراح، وخالد بن الوليد، وشرحبيل بن حسنة، والظاهر بيبرس، والملك المؤابي ميشع.

    هكذا يقدم لنا الأدب خطابا معرفيا، يقوم الكاتب بتوظيفه في نصوص سردية متحررة من ضوابط النصوص التاريخية، التي يخضعها السرد لأدوات التحليل والتفسير وإنتاج نصوص مغايرة للمتداول أو المتعارف عليه.

    (محمد الشحري، صحيفة عُمان، 7/7/2025)