تمثّلات الواقع في رواية “السفر آخر الليل”

تمثّلات الواقع في رواية “السفر آخر الليل”


class="inline-block portfolio-desc">portfolio

text

    خالد علي المعمري

    تُصوّر رواية (السفر آخر الليل) ليعقوب الخنبشي الصادرة عن دار أزمنة للنشر والتوزيع عام 2007م الواقع المُشاهَد في الحياة اليومية، وتقدّمه للقارئ في صورة أحداث متكررة يعيشها الإنسان اليومي ويستمع إلى حكاياتها. لقد عادت الرواية في مرجعيتها إلى الواقع اليومي فبنت الأحداث والشخصيات والأمكنة من اليومي المتكرر، وقدّمت في واقعيتها المنسوجة لغة تتناسب مع الشخصيات والأحداث، كما عمدت إلى تأثيث المكان بواقعية تتناسب أيضا مع الفكرة التي تدور حولها الرواية.
    وبرغم قصر الرواية التي تصل إلى ما يقارب السبعين صفحة، فإنها استطاعت الوقوف على فكرتها الرئيسة، وبناء الشخصيات بما يتناسب مع الفكرة في سردٍ تقليدي قائم على الحوار ووصف المشاهد والشخصيات.
    تنطلق الرواية في بدايتها من زاويتين اثنتين: أولهما ارتباط (أحمد) بأسرته، فيظهر الارتباط والشوق الكبير والحنين الدائم لطفلته (خالصة) التي يوصي زوجته ألا تدعها تنام، “لكي يتمكن من مداعبتها وملاطفتها عند عودته في المساء… علّه يجد في تلك الضحكات ما يواسيه، وما يخفف عنه أعباء يومه وعناء سفره، والذي غالباً ما يكون شاقاً، محفوفاً بمخاطر الطريق”.
    يسترسل السارد في وصف الأسرة الصغيرة: خالصة وإخوتها وزوجته. إن هذا الوصف في أول الرواية له ارتباط مهم بنهاية الأحداث في آخرها؛ إذ يريد السارد أن تكون البداية والنهاية مفتاحاً لربط الأحداث وبناء الشخصيات.
    ثم ينتقل السارد إلى الزاوية الأخرى من الافتتاحية بالانتقال من وصف الأسرة إلى وصف حالة المعيشة المادية للأسرة، والتي من خلالها تبيّن مدى كفاح رب الأسرة في طلب الرزق وتوفير متطلبات أسرته، وهذه لها دلالة أيضا ترتبط في الخاتمة يمكن قراءتها في موضعها. تصف الرواية حالة أحمد في طلب الرزق: “ناولته الورقة، التي كتبت عليها لوازم البيت، قرأها سريعا: ثوم بصل، سمك، عيش، طماطم، زيت، ليمون.. إلى آخر القائمة .
    ذكّرته بتسرب الماء في حنفية المطبخ، وبعض الأنوار المعطوبة، والتي مضى عليها زمن ولم يتم إصلاحها، خاصة عند دورات المياه، سرح قليلا وهو يتمتم في داخله :
    -هذه الأشياء وحدها تحتاج لتفرغ يوم بأكمله! لإصلاح ذلك يتطلب توفير ما لا يقل عن عشرين ريالاً…
    -يا الله يا كريم، يا فتاح يا عليم، افتح لنا أبواب رزقك..
    قالها بعد أن استوى خلف المقود…
    أنار أضواء سيارته وهو يتجه نحو الشارع، متذكرا موعد تجديدها، الذي يوافق هذا الشهر، فهي بحاجة إلى صيانة، وبحاجة إلى تأمين، ضرب كفا بكف وهو يهمس في سره :
    -المبالغ كبيرة وفوق طاقتي، ولابد أن يتم ذلك على حساب أشياء أخرى .
    راودته نفسه مرارا ببيعها، لكنه لم يستطع ذلك، فهي سند لرزقه، وملاذه في أغلب الأحيان .
    فراتب وظيفته كونه عاملا بالوزارة لا يكفي لسداد مستلزمات أسرته، خاصة بعد رفع قسط البنك لأكثر من نصف الراتب…”.
    يتنقل السرد بتنقل الشخصية وتسير الأحداث مرتبةً وفق الحركة التي عليها شخصية أحمد، نجد الأحداث تنتقل من القرية إلى المدينة، فالمكان له أثره وارتباطه بالشخصيات، كما نجد الحوادث المتشكّلة لها ارتباطها المكاني. إذن فالشخصيات التي تصنعها الرواية لها علاقة مهمة بالمكان/ المدينة؛ فمن خلالها تقوم شخصيات مثل (طاهرة وخالصة ورضية) بأدوارها المتناسقة مع الحضور المكاني، كما إن انعكاسات المدينة لا يمكن أن تبدو على شخصية (أحمد) إلا في المدينة، ولا يمكن للأحداث أن تتشكل بهذه الصورة إلا في الحيز المكاني الذي تقصده عملية البناء.
    تظهر الشخصيات في الرواية بصورة مفاجئة وتختفي بسرعة بعد إتمام دورها السردي، وهذا ما نجده عند صالح مثلا، ورضية، وصالحة، وماجد، وحتى طاهرة نفسها، إذ لكل شخصية دورها السردي المرتبط بإيجاد الحكايات. فحكاية ماجد مع المدير كان لها الأثر الكبير في بوح أحمد وتذمره من الواقع الذي يعيشه، وحضور صالح الروائي رغم كونه هامشياً فإنه سيتم معه الحدث النهائي الذي تنتهي الأحداث معها. أما رضية فكانت شخصية تستلزم إطالة السرد وتوزعه على جوانب عدة، وإبراز قيمة مضادة لهذه الشخصية عن شخصية طاهرة مثلا.
    تتعدد الحكايات في الرواية، وبتعددها تظهر صورة الشخصيات كل واحدة على حدة، إلا إنّ هذه الشخصيات لها مهام يتحرك معها السرد؛ تلعب طاهرة شخصية تتمحور حول الطيش واللهو وقيادة مجموعة من الفتيات والشباب لسهرات ليلية يجنون من ورائها المال، فكانت عملية التنقل الليلي أشبه بالمغامرة التي كانت تتطلب سائقاً يُخفي أسراراً كبيرة، فكانت شخصية أحمد الذي تعلق بطاهرة إلى حد العشق، لتقوده هذه المغامرة إلى مغامرة أكبر ترتبط بقضايا النسب.
    إذن فإن الأحداث تعمل كجسر معلق يربط بين البداية والخاتمة؛ فالحدث الرئيس مثلاً المتمثل في شكوى طاهرة على أحمد حول قضية النسب تقطع الأحداث بصورة سريعة وتعيد تشكيل الذاكرة التي يعود معها أحمد إلى بداية الرواية، جاء في آخر الأحداث: “لحظات ورن هاتفه. ازداد قلقه عندما لاحظ رقم المتصل، هو يعرفه تماما، لقد حفظه عن ظهر قلب …
    إنه مركز الشرطة، تردد في استلام المكالمة، تركه يرن إلى أن انقطع؛ عاود جهاز الهاتف الرنين مرة أخرى. بعد دقائق.. كبر الخوف بقلبه… ازداد تصبب العرق من جبينه.. هذه المرة لم تقاوم يده.. استلمت المكالمة وهي تضطرب. جاءه صوت الملازم على فرحا هذه المرة عكس توقعاته:
    – مبروك الأخ أحمد جاءت نتائج الفحوصات المخبرية لصالحك .
    – الحمد لله أنا كنت متأكد من النتائج .
    – كيف.. أنت كنت تعرف بأنك عقيم وغير قادر على إنجاب الأولاد؟!
    هذا الحوار بالتحديد أعاد ربط خاتمة الرواية ببدايتها في تذكره لابنته خالصة، ولأولاده، وهنا أرادت الرواية أن تجعل من الشوق والحنين للأولاد في البداية حزناً في آخرها وحسرة وألماً، تشير الرواية إلى ذلك مباشرة: “جلس على صخرة قريبة منه استند عليها، تشابكت الرؤى أمامه. حاول استعادة ما سمع.. سأل نفسه بدون صوت ظاهر مع إشارة بيده:
    – أيش يقول هذا المعتوه..؟!
    تذكّر خالصة وإخوتها..”.
    هذه الذاكرة التي برزت في خاتمة الرواية ليست سوى ذاكرة مفتتحة للرواية، وحضور يعزز الارتباط باستكمال ما لم تستكمله الفصول الأولى من الرواية، لقد استعاد أحمد على الفور صورة أبنائه ليواجه بها الحوار الدائر مع رجل الأمن، لتعود الأحداث إلى البداية بطرح أسئلة عميقة مر عليها سنوات.
    يقدم لنا السرد هنا صورة للواقع سواء بالحالة المادية التي تعيشها الشخصية وأسرتها، أو بالأحداث الأخرى التي مرّ بها بتعرفه على الشخصيات الأخرى أو ما تنسجه تلك الشخصيات من حكايات تدور أحداثها في الحياة العامة. لقد قدّمت الرواية تلك الصور بسرد متتابع وحوارات بسيطة ووصف مباشر تعبيراً عن واقع مقهور تعيشه الشخصيات.

    (خالد علي المعمري، جريدة عمان، الثلاثاء 15|7|2025)