زينب السعود
من المتعارف عليه أن القصة القصيرة تنماز بإطار عام يمكننا تسميته إعدادات القصة التي تمثل حاضنة لعناصر القص من زمان ومكان وحبكة وبناء سردي، وأنماط الرؤية السردية وتجليات الحدث المركزي وغيرها من العناصر التي تشكل جسد النص القصصي، ويتماهى السرد في القصة القصيرة مع طبيعة الموضوع ويناط به مهمة حمل الفكرة القصصية التي يتعارك معها الكاتب اختزالا وتكثيفا لتخرج بصورة تبالغ في الاستفادة من خصائص اللغة وبيانها وبلاغتها في ضغط المعنى المراد في عدد محدود من الكلمات لتحافظ على انتمائها للجنس القصصي. وإذا كانت القصة جنسا يحافظ على شكله العام وتلتصق به خصائصه الفارقة له عن الرواية فإن مجال المضمون والفكرة ما زال وسيبقى متاحا لتلقي إبداع الكاتب في إخضاع عناصر القص ومحدودية المساحة النصية لفكرته الخاصة.
في مجموعته القصصية (النباح الأخير) الصادرة عن دار الآن ناشرون وموزعون في عمان يعتمد الكاتب القاص مفلح العدوان على خاصية الاسترجاع التي جعلت من التاريخ معينا ورافدا لعناوين المجموعة، منطلقا من نصوص تاريخية تشكل جزءا من وعينا الثقافي الذي يدخل النص القرآني في تشكيل جزء كبير به وتكفلت القصص والأساطير والمرويات الشعرية والنثرية بالباقي. ومن يقرأ قصص المجموعة يدرك منذ القصة الأولى التي تسمت المجموعة باسمها (النباح الأخير) أن الكاتب يسحب الحدث التاريخي برفق مجتزئا منه ما يناسب حكايته ليربطها باحتراف بمشهد غير معلن من الواقع لكنه يختبئ خلف عناصر اللغة الرمزية. ففي استدعاء قصة أصحاب الكهف التي قصها القرآن الكريم نتشابك مع سرد يقودنا إلى النظر على الواقع من زاوية ما، هل هو استشراف متأخر لمستقبل كنا نتحدث عنه وأصبح واقعا؟ تخبرنا قصة النباح الأخير أن الناجين من معركة التهميش والإقصاء لن يصبحوا أبطالا إلا بمقدار ما يتسع عليهم كهفهم، والكهف هنا الفكرة التي يحبس الناس أنفسهم فيها وينتظرون «الفرصة ليعودوا إلى الحياة مرة أخرى بلا رقيب يتعقبهم».
في مجموعة « النباح الأخير» ربط مفلح العدوان بين التاريخ وجغرافية الأمكنة وبين حياة واقعية يعيشها الإنسان العربي اليوم ليغدو الفهم الحقيقي للتاريخ شاهدا على واقع الحال الذي اختزله الكاتب في نهاية قصته (لفائف القلعة) بقوله: «على من نراهن؟ ولمن نقدم التحيات الطيبات؟ يا الخضر كان الحلم أن تكون القلعة مقامك لا أن تكون قبرا لنا وثكنة لأطفالنا من بعدنا، على من نراهن؟» هذا الصوت المترع بمشاعر الخيبة والخذلان هو صوت الواقع وليس والتاريخ، لقد مرت القصة في التاريخ عبر مدارات كثيرة جردتها من مشاعر اللحظة التي ولدت فيها ولكن إعادة سردها الآن وسط واقع يعج برائحة الموت والخذلان يعيد إنتاجها بمشاعر جديدة تناسب واقع سردها الجديد وهذا ما اشتغل عليه الكاتب مفلح العدوان في هذه المجموعة بشكل أراه واضحا. اعتمد مفلح العدوان في هذه المجموعة تقنية الاقتصاد النصي الذي فرضه الطابع التاريخي الذي اعتمده مصدرا للحكايات، وكما هو معروف فإن الحكاية التاريخية لا يمكن أن تحيط بها قصة قصيرة ولكن القاص يملك من الأدوات ما يجعله يتخلى عن السرد التاريخي النمطي لصالح السرد الأدبي الذي يتكئ على التاريخ، وهذا ما جعلني أصف أسلوب الكاتب بالأسلوب المعتمد على الاقتصاد النصي، فهو يتوخى الإيجاز في مواقع لا تفيد الفكرة وينتخب من الحكاية التاريخية ما يخدم مقولاته الفكرية التي يريدها.
وفي قصة (نبوءات راهب الزرقاء) يظهر التقاطع واضحا جليا مع أحداث الحاضر التي كنا شهودها ولكن مفلح العدوان ألبس الحدث المعاصر مسوح التاريخ وتجول بنا عبر اللغة المكثفة التي تنتخب كلمات وتقصي أخرى فالسرد هنا لا يحتمل التراخي ولا التبحر مع اللغة ومفرداتها في بحرها الواسع، يبدأ مشهد الاختزال بالجملة الأولى في القصة: «لم أكن تعيسا حين دخلت الزرقاء غير أني بكيت حين غادرتها «. فمن الذي بكى؟ هل هو من تبت يداه ومن الذي بكى لمغادرتها هل هو المسمى بالزرقاوي، وما بين هذا وذاك يمتد تاريخ طويل لم يكن يجمع بينهما في سياق ولكن العدوان فعل، جمع القاصي مع الداني في سرد سار بنل بخفة في الزرقاء ونهرها مع الراهب والصومعة وصولا إلى (قصر شبيب) ولكن الأمكنة تتغير مثل البشر تتمة لمشيئة القدر.
«التاريخ مؤامرة كل واحد يحاول مصادرته ليثبت أحقيته» عبارة في القصة تجذبنا بقوة للتفكير في واقعنا الذي نعيش فيه محاولات لي عنق التاريخ مرارا وإثبات الحقوق لغير أهلها، وربما يكون هذا إسقاط واضح على ما يحدث في خارطتنا العربية من ظلم وعدوان وإنكار لحقوق الشعوب في جغرافيتها. لقد اعتمدت مجموعة (النباح الأخير) على تناص متسع يشمل الحكاية من مبتداها إلى منتهاها، ولكنه تناص بعدسة الأديب الذي لا يلتزم بالنص إنما بالفكرة أو جزء منها، تماما مثلما فعل جيمس جويس عندما أعاد سرد (الأوديسة) في روايته (يوليسيس)، ولكن التناص الذي مارسه مفلح العدوان في هذه المجموعة كان موظفا لربط التاريخ بالواقع أو العكس وقد أطلق عليه الناقد براك القعيط مسمى التناص الامتصاصي أي الذي يمتص معاني ودلالات النص الغائب ويعيد صياغتها وفق رؤية الكاتب.ختاما قراءة هذه المجموعة تجربة ثرية ومختلفة بالنسبة لي سيما أن لغة الكاتب وأسلوب السرد خففا من وطئة المعلومة التاريخية التي تبدو مألوفة ومعروفة ولكن تبقى وظيفة الكتابة الإبداعية دائما أن تجعل من العادي مبتكرا ومن المألوف جاذبا ومؤثرا ومحمسا.
(زينب السعود، الدستور، 27/11/2025)


