عهود المخيني
إبتناء بابل
لا فرقَ عندي بين مترجم ناقد قارئ. الثلاثة واحدٌ يتسمَّى كل مرةٍ باسم يبدأ بالمُترجِم؛ فالأول ينقد ما يقرأ وهو يترجِمُ، والثاني يقرأ ما تُرجِمَ وهو ينقدُ، والثالث ينقد ما تُرجِمَ وهو يقرأ. ما حاجتنا لبابِل إذن؟
في آخر إصداراته النقدية الترجميَّة، يقدِّمُ لنا الدكتور خالد البلوشي عملًا أدبيًّا استثنائيًّا مُتَّخذًا من بابل رمزًا له في ثلاثة محاور؛ «ما قبل بابل» و«ما بعد بابل» و«تقويض بابل» على الترتيب. نَرَى في العمل الأول تمهيدًا لمآلات الترجمة في قصصه المنتقاة والمُوَزَّعة في الجزئين الأولين من السلسلة وتكريسًا لنقضِ الفكرة القائلة بهيمنة العلاقة الأحاديَّة أو النمط الأوحد بذكر عُرَى عوالم اللغات الإنـگليزية، تلك التي تعيش فيها وبها، وتفنيد السلطات المُمَارسة على النَّصِّ من تدجينٍ وأجنبةٍ، وثم بيانِ آلية اختيار نصوص المدونة في «ما قبل بابل» و«ما بعد بابل» المستندة إلى أسطورة بابل، فيقول «اتخذت عهد ما قبل بابل المفترض رمزًا للائتلاف وعهد ما بعد بابل للاختلاف؛ على أنَّ تبنِّيّ للأسطورة يقف عند هذا الحدِّ ولا يتجاوزه»[1] عادًّا الإنسان ثيمةً مشتركةً في الكتابين جامعةً لهما. ويبدأ التَّرحال بقصص مترجمةٍ لكتَّابٍ أُحاديي اللغة ثم ينتقلُ إلى قصصٍ مترجمةٍ لكُتَّابٍ متعدِّدي اللغات وينتهي بتقويضٍ للاثنين يَنْقُضُ الحيرة الكامنة في أسطورة بابل. ويكمنُ جمال الترحال في هذه النصوص أن الكاتب يخاطِب السائرَ وهو يقرأ هامسًا له أن يقفَ قليلًا ليتأمَّلَ ما يجمعُ الثقافات التي قد لا تتشابك في طريقٍ رغم تماهي حبكة حكاياتها المسرودة قصصًا.
يمضي التَّرحال إلى ثقافاتٍ أخرى يربطها بالتي سَبَقتها طابع الهُجنة وهو أحدُ تبعات الكولونياليَّة التي لاقَتْ حضورًا لافتًا في خطابها بعد نشرِ كتاب هومي بابا[2]. ومأتى هذا الطَّابعِ هو التغيُّر والتحوُّر والتبدُّل الذي تَشهده الثقافة على الدَّوام، ما يحول دون خلقِ مثال أوحدٍ أعلى لها؛ فهي ماثلةٌ في تنوُّعِ الخبرات الإنسانية المترابطة والمتداخلة، وتصير كائنةً بهذا الاختلافِ الذي يمنحها صفتها تحقيقًا. ومن هنا، يُنكِرُ الأدَبُ النمطَ النهائي الثابت «فهو يُعامل الإنسان برزخًا ومابينيَّةً»[3].
تقويض بابل
يُقوِّضُ الكاتبُ أُسطورَةَ بَابِل في طريقهِ الأخير بمِعوَل نَصِّيٍ من إصحاح سفر التَّكوين الحادي عشر (١-٩):
«انْظُروا، إنَّهم شَعْبٌ واحد، يَتَحَدَّثون لغةً وَاحِدة؛ ما هذا إلَّا بِدايَة ما سيأتي منهم، لن يَكُونَ للمُحَال مِنْ مَعْنًى عِنْدَهم؛ تَعَالوا، فَلننزلْ ونذْهبْ معًا، فَلْنُبلبِل أَلسِنتَهم حَتَّى لا يَتَمَكَّنَ بَعضُهُم مِنْ فَهْمِ بَعْض»[4].
أوَّلُ هذا الفَهْمُ الذي لا يُعامَل في الفضاء لوحدِهِ دون سياقٍ هو خاصٌّ بالقارئِ الذي يتَوَخَّى المعنى. فللقارئ علمه وجهله ومعطياته التاريخية والاجتماعية والدينية التي تفضِي به إلى فهمٍ ما هو ليس بالضرورةِ مطابقًا للمعنى الذي أراده كاتب النَّصِّ. وبهذا يُنقَضُ الفهمُ الأوحدُ لما هو مكتوبٌ أو محكيٌّ بلغةٍ واحدةٍ، فالتأويل في نهايةِ الأمر متفاوتٌ بدرجاتِ التباعد الثقافي بين الطرفين، وإن كانَ الإطارُ اللغويُّ واحدٌ فإن ما يدور حوله لا يعترفُ بأُحديَّةِ دلالتِهِ.
ومعولُنا الآخر هنا التأكيدُ على مجازيَّةِ التوحيدِ وصَرْفِ «السَّائد»، ففي الاثنين دون إلغاءِ أثرهِمَا تنميطٌ لكل شيءٍ في قوائم أو قوالب و«لا فكَاك للمرء من سلطتـ]ـهما[»[5] . وقرينةُ هذا الإتيانُ بقصصٍ من عوالم ناطقةٍ بلغة واحدة وأخرى بلغتين وأكثَر، ثم الخروج إلى ما مَفادهُ، كما أبانت عن ذلك الشُّخوص وأحداثها، أنها لا تَرعوِي عن احتواءِ التعدُّدية أو الكوزموبوليتانية في مآلاتِهَا. لا سَائد يُرَى هنا ولا نمطٌ واحدٌ مُوحَّدٌ؛ الجميع يتماهى في عوالم لا حَصرَ لأشكالها وصنوفها، خالقةً بذلك معنًى أجمل للإنسان، «أكثر تسامحًا وأكثر قبولًا للاختلافِ»[6].
ويتنصَّرُ المعوَلُ الثالث للفردِ ترجمةً وترجمانًا؛ تأويلًا ومؤوِّلًا؛ أثرًا ومؤثِّرًا[7]، بعيدًا عن اختزالهِ في ناتجٍ أو منتجٍ. فإن لم يُحتَوَ الفردُ على هذا النحو، لن يكون حقيقةً، بل صورة تصوغها مؤسساتٌ ومنظومَاتٌ وفقَ معايير وضوابط تعدُّها مقياسًا لتقييم كياناتهم الآئلة إلى الاختزالِ في آخرِ الأمر؛ ممارسةً تدجينيةً.
في أولى صفحَاتِ التَّرحال، وضَّحَ الكاتب مفهومه للأدب الذي لا ينفصِمُ عن النَّفسِ الإنسانية واعتلاقها عُرَاه. فقد قال: إنه «ما أحيَا إحساسًا أهمَدَهُ الدّارج، وما أثَارَ فكرًا أخمَدَه السَّائد»[8]. وما الأدب إذن إن لم يكن پانوراما النَّفس؟ ومن هنا تُدحَضُ فكرة التَّوحيد مرة أخرى؛ فالإنسان الذي يتجلَّى كل مرةٍ تجلياتٍ تختلفُ، تقتربُ من بعضها وتنأى، ولا تتشابه، ليس صورةً سائدةً وإنما متعددةً لأن تجلياته هذه متعددة. أي أن ثمة حقائق، لا حقيقةً واحدةً مطلقةً تجمع بني البشر كلهم. والأدبُ بهذا مرآة للنفسِ الإنسانية كيفما كانت وتجلَّت.
يُسائِلُ الكاتبُ أخيرًا في طريقه «السائد» عادَّا من النَّصِّ الأصلي والمترجَمِ مرتكزًا لحجاجهِ وتنظيره؛ فقارئ النَّصِّ يأخذ المعنى ويستنبِطُ الناقد معطياته ويَنقله المُتَرجِمُ إلى وسطٍ آخر دون أن يَرفع يدَهُ عن التَّصرف فيه لأنه في سياقٍ لا يكبحه عن ذلك، ينضحُ بتجارب وأفكار مترامية.
وفي الفصول الثلاثة التي قسَّمها الكاتب حسب ما تشترك فيه قصص المُدوَّنة وتختلف، يقرأ الحيوات متقصيًّا «السائد» محلِّلًا «مجازات التوحيد» فيها، مُقَوِّضًا بذلك بَابِل.
ومن ثم، يسلكُ طريقًا آخر، إلى ترجمةٍ أخرى بعد التَّرحال، شاتمًا السابقة «تبًّا لترجمةٍ كهذه!»[9] بخلاصةٍ هي «أن التَّشظِّي والاضطراب هو الأصل، أمَّا الثَّبات والتَّماسك فهو اصطناع»[10] ولا وجود لنا نحن الأفراد دون ديالكتيَّة الأنا والآخر، التي تسير خلفها التصنيفات الأخرى، في عَلاقة يكون فيها الواحد أثرًا ومؤثِّرًا في آن. لنتحَلَّى بـالمقدرة السلبيَّةِ[11]، التي لا تُحتَكرُ لأحدٍ منا دون آخر، وذلك بإعادة النظر مليًّا في أفكارنا ورؤانا وقيمنا، فمن شأن ذلك أن يقوِّي إنسانيَّتَنا ويقرِّبنا إلى دائرة المؤثِّر لا المتأثِّر مما سادَ وعمَّ كما يُنظِّر لذلك الكاتب. ليست المساءلة خطأً بل نفضًا لما تراكمَ وتجديدًا لما سكَنَ من القديمِ وحياةً بشكلٍ أو بآخر. والإنسان في صراعٍ بسبب معاني الوجود كلها، ولا قَرار حتى دار القرار، وكما خَتَمَ المُنَظِّرُ تَرحاله الذي مَخَرْنا عبابه، في إقرارٍ غير مختزلٍ بل متعمِّقٍ وممتدٍ، «فنحن الأفراد أقرب إلى الكمال مبدِّدِين كلَّ ما بُنِيَ على الأرض من أبراج وأيقونات منَّا إلى الاتِّكاء على علم راسخ وإقامة صرح ثابت يصلُ بنا إلى السَّماوات»[12].
[1] من كتاب ما قبل بابل، د. خالد البلوشي، ص ١٣.
[2] مُقتَبسٌ في كتاب ما بعد بابل، د. خالد البلوشي، ص ٦.
انظر، The Location of Culture. London and New York: Routledge (1994).
[3] المصدر السابق نفسه.
[4] ترجمة د. خالد البلوشي في تقويض بابل، ص ٥.
[5] في القصيدة العمانية الحديثة، د. خالد البلوشي، ص ١٣٨. (بتصرُّف)
[6] المصدر السابق نفسه، ص ١٦٨.
[7] تنظير د. خالد البلوشي في تقويض بابل، ص ٨.
[8] من كتاب ما قبل بابل، د. خالد البلوشي، ص ١٢.
[9] تنظير د. خالد البلوشي في تقويض بابل، ص ١٠٩.
[10] المصدر السابق نفسه.
[11] مصطلحٌ مُقتبسٌ في مقال «تبًّا لترجمة كهذه! طريق آخر، ترجمة أخرى»، تقويض بابل، د. خالد البلوشي، ص ١١٠، وهو من صياغة الشاعر الإنگليزي جون كيتس ويشير إلى أن الاضطراب الفِكري والتشكك يؤدِّي بالعظماء من الشعراء والأدباء إلى رؤى تجعلهم يتجاوزون بها السائد من الأنماط.
[12] تقويض بابل، د. خالد البلوشي، ص ١١٦.