«جسر التفاحة» رواية للكاتب عواد علي: تقنيّات الميتا سَرد في تعرية المستور من تاريخ الغزاة

«جسر التفاحة» رواية للكاتب عواد علي: تقنيّات الميتا سَرد في تعرية المستور من تاريخ الغزاة


class="inline-block portfolio-desc">portfolio

text

    مروان ياسين الدليمي

    لابد أن يكتشف الناقد وهو يقرأ آخر عمل روائي للكاتب العراقي عواد علي، الموسوم بـ»جسر التفاحة» أنه احتفظ في تجربته هذه بدرجة عالية من الحساسية الفنية، بالشكل الذي استبعد من استراتيجية خطته وهو يشكل بنية عالمه الفني، الخضوع لفكرة محاكاة واقع مدينة الفلوجة بعد عام 2003، فكان حذرا جدا من هذه الناحية حتى لا ينساق خطابه الفني تحت ضغط ما عانته هذه المدينة من إشكالات علاقتها المعقدة والمتوترة مع الواقع السياسي الجديد، الذي شهده العراق، ودفعت بالتالي نتيجة ذلك ضريبة باهظة ستبقى آثارها عميقة في وجدان أبنائها قبل بنيانها الذي استحال إلى انقاض، ولنفرض أن المهمة السردية في تناولها للتاريخ الراهن بسخونة أحداثه سارت على عكس المعالجة الفنية التي اختارها عواد علي، آنذاك لن تخرج النتيجة عن إطار عملية استنساخ وتوثيق للواقع، بمعنى غياب مساحة التخييل التي هي المفتاح السحري لدى المبدع، للأخذ بالواقع إلى منطقة الفن، حيث ستنمحه من العناصر الفنية ما يجعل المتلقي يكتشف هذا الواقع المألوف من جديد وكأنه لم يألفه، فترتسم على ملامحه عناصر الدهشة والمتعة، بالتالي ستتشكل بينه وبين هذا الواقع علاقة بمستوى أعمق، وينشأ بينهما خطاب وأسئلة وأجوبة جديدة.
    من هنا كانت نقطة انطلاق عواد علي في أن يمارس لعبة فنية تبدو تقنياتها بسيطة في شكلها، إلاّ أنها منحته ما يبتغيه من الحرية في تحديد العلاقة مع الواقع والتاريخ المعاش، حيث استند فيها على تقنية المدونات اليومية للكشف عن إشكالية هذه العلاقة عبر ممارسة سردية أفصحت عن مواضعات فنية استعارها من تقنيات الميتاسرد، عندما أخضع تقنيات صنعته السردية للتعرية أمام القارئ، وهذا الخيار المضاد في بناء المتخيل السردي منح الرواية هويتها الفنية، بذلك لعبت الملاحظات التي سجلها السارد في المكان المخصص للهوامش دورا فاعلا في خلق وكسر حالة الإيهام بواقعية الأحداث التي يسردها في مدوناته «اعتمدتُ في كتابة هذه المدونة، وما سيليها من المدونات التي تغطي مرحلة ما قبل دخولي الجامعة، على يوميات كنت أدونها في أوقات متباعدة بأسلوب غير أدبي لأوثق فيها بعض الأحداث التي عشتها، وتركت أثرا في حياتي».

    لم تكن مفردات لغته التقنية معتمدة على أسس بنائية مستقرة في أشكال تقليدية وهي تتصدى لواقع مايزال ساخنا، مستغنيا بذلك عن كل ما يمكن الوصول إليه من وحدات فنية شائعة التداول في الكتابة الروائية مثل البيانات والسجلات والوثائق، التي عادة ما يشيع تداولها في الكتابة الروائية، ليكتفي فقط بالمدونات اليومية كوحدة فنية جوهرية في سرد الأحداث، مع أن المدونات إذا ما اعتبرناها جنسا أدبيا، تكاد أن تَضعُفُ فيها بشكل كبير جدا مساحة التخييل أمام المدوّن، حسبما يشير إلى ذلك الروائي سعد محمد رحيم في كتابه المعنون «السرد ينكل بالتاريخ.. رتابة السيرة وانتهاك الواقع» الصادر عن دار نينوى في دمشق، إلاّ أن المدونات اليومية في هذه الرواية باعتمادها وحدة تقنية أساسية كان الهدف منها إنتاج بنية سردية تحمل بين سطورها حرارة وعفوية، ستفرض في النتيجة النهائية آلياتها بما تحمله من خاصية ابتعادها عن التصنّع الشكلي وتعقيدات التفنن السردي.
    يأتي استثمار تقنية المدونات في إطار سعي الشخصية الرئيسة الساردة للأحداث إعادة اكتشاف ذاتها والعالم المحيط بها من جديد، ولتأكيد الطابع الذاتي في عملية السرد بعد أن مرَّ أثناء فترة اعتقاله داخل سجن أبي غريب عام 2005 بتجربة قاسية عندما تعرض للاغتصاب من قبل السجّان الأمريكي ولم يكن عمره يتجاوز السادسة عشرة، مع أنه لم يكن متورطا بأي عمل ضد القوات الأمريكية «رفعني بقوة وولىّ ظهري إليه، وأطبق بكفيه على رقبتي، وأحنى جذعي وأخذ يغتصبني بعنف. كنت اتألم مثل أرنب غرس كلب صيد أنيابه في لحمه بينما كان هو يتأوه متلذذاً». ورغم ما تركته تجربة الاغتصاب من جرح عميق في ذاته، إلاَّ أنه أحالها إلى طاقة شحن إيجابية دفعته إلى أن يكمل دراسته الجامعية وينال شهادة الماجستير عن رسالته التي تناول فيها ملحمة كلكامش مركزا فيها على شخصية أنكيدو، وكأنه أراد أن ينصف نفسه من خلاله شخصية أنكيدو الضحية، الذي لم يأخذ ما يستحقه من الاهتمام حسب رأيه.
    كما حاول في مدوناته اليومية أن ينصف الضحايا الذين عرفهم عن قرب قبل تجربة السجن مرورا بتجربة النزوح مع بقية أفراد العائلة إلى الرمادي ثم إلى كركوك وسفره إلى إسطنبول حتى وصوله إلى ألمانيا بعد أن نال فيها حق اللجوء.
    دلالة التدوين الذاتي هنا تكتسب أهميتها في أنها خروج على السياق الرسمي وتعريتها للتاريخ المزيف الذي عادة ما يكتبه المنتصرون لإخفاء جرائمهم، من خلال استعادة التفاصيل اليومية التي تمر بها الشخصيات التي تغيب دائما عن مدونات المؤرخين. جاءت المدونة الأولى موقعة بتاريخ 1 /4/ 2016 وبها افتتحت أحداث الرواية «وقفتُ مقشعرا أمام مشهد رهيب، تراءى لي في المنام لاحقا مرات عديدة، مئات الأكياس البلاستيكية التي تحوي رفات أبناء المدينة، مدفونة في مقبرة جماعية، وقد بدت عند اختلاط النور بالظلمة، كأنها صخور زيتية نابتة في الخلاء». أمّا المدونة الأخيرة فقد جاءت موقعة بتاريخ 1/7 /2017 عندما أُعلِنَ عن سقوط دولة «داعش» في مدينة الموصل «لم أتوقع يوما أن يأتي زمن يغدو فيه العدو منقذا، لكن هذا ما صار يترقبه بعض أهل المنطقة الغربية في البلد. قال عمي خليل في مكالمة هاتفية ليلة الإعلان عن سقوط دولة «داعش» في الموصل، إن تزايد أعداد الجيش الأمريكي في البلد أصبح ملاذا لهم، ربما خيارهم الوحيد في لجم هيمنة إيران والميليشيات المسلحة على مدنهم وبلداتهم».

    بينما كانت الفلوجة محاصرة من قبل جنود المارينز المدفوعين بروح الانتقام لأربعة أمريكان تم قتلهم وتعليق جثثهم على جسرٍ في مدينة الفلوجة، قرَّر والد الشخصية الساردة للأحداث أن يخرجه مع بقية أفراد العائلة ليبعدهم عن الخطر، فيرسلهم إلى أخوالهم في منطقة النعيمية برفقة جارهم المسيحي إلياس الذي يتولى مسؤولية نقلهم مع عائلته في سيارة بيك آب يملكها، بينما يبقى الوالد في الفلوجة ليقاتل المارينز، وعند جسر التفاحة تعترضتهم مركبة همفي كانت تغلق الجسر مع مجموعة مركبات، ولما عِلم الأمريكان أن في السيارة يوجد مسيحيون لم يستوعبوا الأمر.
    – يا يسوع ! لم يخبرونا بوجود مسيحيين في الفلوجة. كيف تطيقون العيش مع هؤلاء الإرهابيين؟
    – ليس لدينا مشكلة مع المسلمين، نحن نعيش معهم منذ زمن طويل.
    – أنت تتجنب قول الحقيقة لأن أحدهم يجلس الآن بقربك، لكنني سأبعده عنك.
    لم تجد نفعا توسلات والدته في إخلاء سبيله. وفي سجن أبي غريب يكتشف أن الاغتصاب هو الوسيلة التي يفضلها الأمريكان لكسر إرادة أبناء الفلوجة. وبعد بضعة أشهر يطلق سراحه فيعود إلى مدينته ليجدها مدمرة، وبعد اثنتي عشرة سنة مضت على تجربة الاعتقال، وبينما هو يقيم في ألمانيا يقرر أن يفتح خفايا ملف اغتصابه، ويبدأ بنشر مدوناته على موقع الفيسبوك، مدفوعا بضغط داخلي لأنه لم يستطع أن يزيح آثار الجرح الذي خلفته تلك التجربة على وجدانه «منذ سنين طويلة وأنا أحاول أن أشيح فعلته الرذيلة بعيدا عن رأسي. بذلت قصارى جهدي، لكنني كنت أخفق دائما، وها قد مضت اثنتا عشرة سنة وماتزال لهفتي إلى الانتقام منه يانعة، وستظل ملتحمة بوجداني التحام اللحم بالعظم، كلما استحضر تلك الفعلة أشعر بالانكسار، وينحرف ذهني إلى تداعيات لا أريد التفكير فيها».
    الرواية زاخرة بالأحداث وبشخصيات تنتمي إلى أديان وقوميات وأعراق مختلفة، عراقيين، سوريين، سودانيين، مسيحيين، مسلمين، سنّة، شيعة، شبكا، إيزيديين، تركمانا، معظمهم عانوا من قهر الجماعات الإسلاموية المتطرفة وميليشيات طائفية هيمنت على الحياة في العراق، فأصبحوا نازحين في بلدهم، وتشاء الأقدار أن يلتقي السارد بعدد منهم ثانية في بلاد اللجوء، في تركيا وألمانيا بعد أن يغادر العراق. يمكن القول عن هذه التجربة الروائية بأنها قد اكتسبت خصوصيتها في إطار بنيتها الفنية التي تحركت في مسار «كسر توقعات المتلقي التقليدية للمعنى» حسب الناقدة باتريشيا ووه، في كتابها الموسوم «الميتافكشن.. المتخيل السردي الواعي بذاته: النظرية والممارسة»، بالتالي هي رواية تتحدث عن مجتمع عراقي، عاش محنة القهر والعنف والموت، خلال الفترة التي أعقبت دخول القوات الأمريكية للعراق، وليس عن مدينة الفلوجة حصرا، وما نتج عن ذلك من تداعيات أفضت إلى ضياع الهوية الوطنية والإنسانية وتسلل مشاعر الاغتراب داخل الوطن إلى معظم الشخصيات بكل ما تحمله من اختلافات وخصوصيات مميزة في ملامحها الثقافية والدينية والمذهبية والقومية، رغم محاولاتها المستمرة في التشبث بالمكان والذاكرة، وحتى عندما تختار الابتعاد والارتماء في أزمنة اللجوء الأوروبي، ولكي تحافظ على ذاتها حيّة يكون قدرها مشروطا بارتباطها مع الذين ينتمون معها إلى المكان الأول الذي جاءت منه.

    وما يلفت الانتباه أن معظم الشخصيات متصالحة مع ذاتها ومع المكان الذي تنتمي له، وتمضي في ممارسة دورها الإنساني في زمن تسوده الفوضى والعنف والكراهية، بعد أن سيطر عليه غزاة وإرهابيون وإسلاميون متشددون، حتى تبدو وكأنها قد سقطت من مدينة فاضلة، فنحن أمام نماذج تتقاطع مع فكرة التنميط أو الترميز، تعزف نشيدها بصمت، رغم الجرح الذي تحمله في داخلها، ابتداء بالشخصية المحورية الساردة للأحداث مرورا بالاستاذ أصلان والمدرس هيثم الدليمي وأيوب وغبراهيم وميخائيل وأيدن وأميرة وبردى.
    هذا المنحى الإنساني في خطاب الرواية تم تمريره بلغة موحية في مفرادتها الفنية، ولعل أسمى ما تجلى في هذا المستوى من البناء تمحور في تحطيم تلك الصورة المزيفة عن مدينة الفلوجة وأهلها، باعتبارها حاضنة اجتماعية للتطرف الطائفي والجماعات الإرهابية، التي كرستها أجندة إعلامية انتهجت سياسة التضليل لأسباب ودواعي طائفية . والملاحظ أيضا أن المؤلف لم يمنح الشخصية المحورية الساردة للأحداث أي اسم محدد، فكانت بلا اسم، ربما في ذلك إشارة إلى أن أي سجين عراقي اكتوى بتجربة الاعتقال لدى الأمريكان لم يعد ذاك الإنسان قبل دخوله التجربة.