“الغد” الأردنية
جميعنا يعرف البساط الأحمر الذي يُفرش للزعماء، ويمشون عليه باستعراض وخيلاء، البساط الأحمر الذي غدا حلما للكثيرين. ماذا يمكن أن يُكتب على هامشه؟ أليس هو كله المتن والهامش؟ لكنّه عند الكاتب الدكتور عبد الهادي المدادحة له هوامش تسعة، هي متن النص، أما المتن فليس أكثر من هامش في الواقع. هكذا هي جدلية المصير الشخصي وأحداث التاريخ. ما نعتقده هامشا، يكون متن التاريخ، وما يملأ حياة الفرد صخباً، لا يعدو أن يكون هامشاً صغيرا في أسفل الصفحة.
يدرك صاحب” قالت لي العرافة”، حقيقة هذه الصورة، لكنه يأبى أن يسلِّم بها، فهو في رواية السيريّة “هوامش البساط الأحمر”، الصادرة مؤخرا عن (الآن ناشرون وموزعون) بعمّان، يريد أن يُقدِّم حقيقة أخرى، لا يريد ضياعها كتفصيل صغير في متن نص كبير، أو كقطرة ماء في مجرى النهر. يريد أن يؤكد على حقيقة أن وعي التاريخ وحركته لا يمكن أن يكون هامشاً، بل محركا للتاريخ ذاته، بصرف النظر عن نتائج تلك الحركة.
تتحدث الرواية التي تقع في (215) صفحة من القطع المتوسط، عن سيرة وسيرورة خالد، ابن الجنوب الأردني، والكرك بالتحديد، الذي ينتقل للدراسة في مصر أواسط سبعينيات القرن الماضي، ولم يكن يحمل في جعبته إلا نقاء الشخصية الأردنيّة، واندفاعها وحماستها وغيرتها القومية، وحبّها للمعرفة. مصر السبعينيات شهدت صعود السادات وسياسته المعادية لسلفه عبد الناصر ذي النزعة القومية التحرّرية التقدمية، والتي تركت تأثيراً كبيرا على فكر ملايين الشباب العربي على امتداد الخارطة العربية، ومن هؤلاء الشباب كان خالد العربي، ابن الكرك، الذي لم يكن يخفي إعجابه بعبد الناصر، وإيمانه بالتحولات التي أنجزها لبلده وللأمة العربية.خالد العربي يجد نفسه فجأة ضحية، كبش فداء، قدمته أجهزة الأمن المصرية عربونا للصلح مع بلد لم يكن أحد في تلك المرحلة لا يسمّيه عدوا، سواء على المستوى الرسمي أم على مستوى وعي الشارع العربي. ولم يكن خالد نفسه يدرك أنه فرد كان له تأثر على مجرى الأحداث. هذا الموقف قاده إلى السجن، وهناك تُصقل شخصيته، وموقفه الوطني والقومي، ويأبى الاعتراف عن أي من زملائه، ولا أن يخون مبدأه.
يُبعد خالد من مصر قبل أن ينهي دراسته، يعود إلى الأردن وهو يحمل أسئلة كثيرة عن مسؤولياته الوطنية، ومسؤولياته الشخصية تجاه دراسته الأكاديمية، وأسئلة عن جدوى العمل السياسي في ظلّ وجود كثرةٍ من الوصوليين في التنظيمات السياسيّة ممن يشكّل البساط الأحمر هاجسهم الأساسي. يُتاح له أن يكمل دراسته في دمشق، وهناك يجد نفسه مرّة أخرى في خضم العمل السياسي، دون أن يكون له قرار في ذلك، ومرّة أخرى تواتيه الفرصة لتـأمل واقع العمل السياسي، لتتضح أكثر معالم البساط الأحمر الذي يسعى الكثيرون ليقفوا عليه.
خالد العربي لم يكن يوما يفكر بذلك البساط، لكنه كان يأبى أن يكون هامشا، ترك البساط الأحمر لكل أؤلئك الطغاة الذين كانوا مستعدين للقضاء على مناوئيهم السياسيين دون رأفة، أمام إغراءات، وجاذبية البساط الأحمر. لكنه لم يغادر الفكر، ولم يغادر وجدانه الذي ظل مشدودا نحو الحرّية، فهو ينطلق دون تفكير ليشارك الجمهور المحتفي بسقوط الرئيس المصري مبارك أمام السفارة المصرية، وكأنه يستعيد مصر التي أبعدته قبل أكثر من أربعين عاماً.
الرواية جمعت بين السرد الأدبي، وتسجيل الأحداث، حتى يكون واضحا للقارئ خلفية أحداث الرواية، فالرواية واقعية، أقرب للسيرة الذاتية، لكنها تمتح الرواية الأدبية أسلوبها. التسجيل يقدِّمه الكاتب على شكل هوامش على متن النص، تلك الهوامش لا تخلو من دلالات، إذ أنها على الأقل من وجهة نظر الكاتب، هي أحداث مفصلية، حددت مجرى التاريخ في تلك الحقبة من تاريخ المنطقة.
قدّم الكاتب كل فصل بعبارة افتتاحية، تشكّل جوهر الفصل: “الرغبة حلم جميل، أما الطموح فهو أن تشمِّر عن ذراعيك لتحقيق حلمك”، “كأن الحياة أجملها بعض فرص اغتنمناها، أوشكت أن تضيع..”، “الفعل عمل إيجابي، لكن رد الفعل صدىً يمشي بسرعة الصوت ويتلاشى”، “لكي ترى أبعد لا بد من قلب تملؤه البصيرة”.
يقول الكاتب عن كتابه” هوامش البساط الأحمر ليست كهوامش “غرامتشي”، المفكر والفيلسوف والزعيم الثوري الإيطالي في كتابه “هوامش السجن”، ولا هي مذكرات معتقل سياسي تنقّل بين أكثر من سجن في أكثر من عاصمة عربية. هوامشي كانت إيحاءات إلى أن الطريق الذي كنا نسلكه سيقودنا إلى الخذلان والهزيمة. إن البساط الأحمر الذي يسير عليه زعماء تلك الفترة، خالف اتجاه بوصلة الجماهير التي كانت تسعى للحرية أولاً وأخيراً.
الهوامش قالت إنّنا كنا نقدِّم الموت على الحياة، وهذا اتجاه معاكس للطبيعة. فكّي تحقق النصر، عليك أن تحيا أولاً ثم تناضل. وإلا فإنك لن تستطيع أن تبني حياة من الموت، ولا أن تنتصر.”
ومن مقدمة الفصل الأول نقتبس” من يعرف الحقيقة؟ حينما تغادر النجوم مداراتها تائهات، هل تستطيع أنت أن تعيدها وتصحح مسار الفلك، أو تستطيع أن تمسك الرياح بيديك وتغيير اتجاهتها، أو أن تضيء عتمة الليل بشمعة قد انطفأت جذوتها، أو أن تزجر الموج عندما يزمجر البحر غاضباً، أو أن تلملم الروح بعد أن سرحت في الملكوت؟ هل تستطيع أن تمحو الحزن من قلب استوطنه الحزن؟ هل كانت النجوم التي تشاغلني في السماء، ترانا كما نراها؟ هل تذهب النجوم إلى الأسواق؟”
يذكر أن الكاتب عبد الهادي خليل المدادحة من مواليد الكرك بالأردن العام 1955، أنهى دراسته الثانوية فيها، ثم انتقل لدراسة الصيدلة في الاسكندرية بمصر، إلا أنه أُبعد منها قبل إنهاء دراسته الجامعية لأسباب سياسية، فاضطر لإكمال دراسته في جامعة دمشق، وحصل فيها على شهادة البكالوريوس في الصيدلة والكيمياء الصيدلانيّة في 1980. يعمل في مجال الصيدلة والإدارة، وهو إلى جانب ذلك كاتب وباحث وقاص، وهو عضو في رابطة الكتاب الأردنيين، وفي نقابة الصيادلة الأردنيين. صدر له مجموعة قصصية بعنوان” قالت لي العرافة” في 2015، وكتاب” على جمر الغضا- قراءة في تاريخ الحكومات الأردنية” في 2016.