الدهشة والمفارقة في مجموعة «مُجرّد صديقة»
موسى إبراهيم أبو رياش
في مقام سابق اعتبرت أن الدهشة والمفارقة من أهم شروط القصة القصيرة الأساسية الناجحة، التي تلفت نظر القارئ، وتطرب قلبه، وتثير تفكيره. وحضور هذا الشرط أو غيابه في القص من أهم عوامل شهرة الكاتب ومقروئيته؛ لأن رفوف المكتبات مكدسة بالمجموعات القصصية، ولا تنجح بالخروج منها إلا من امتلكت شروط الجذب والإثارة والعمق والدهشة والمفارقة واللغة الفاتنة.
تتناول هذه المقالة «الدهشة والمفارقة» في المجموعة القصصية «مجرد صديقة» للكاتبة صبحة علقم، التي تتضمن أربعة وأربعين نصًا قصصيًا، من خلال نماذج من هذه القصص، ولا يعني ذلك أن القصص الأخرى تخلو من الدهشة، ولكن لا يتسع المقام إلا لعدد محدود، بالإضافة إلى أن الشعور بالدهشة يخضع لذاتية المتلقي وذائقته الأدبية وفهمه للنص.
تمسك «الدهشة والمفارقة» بتلابيب القارئ ابتداءً بعنوان المجموعة نفسه: «مجرد صديقة»، الذي يعادل في الدلالة «مجرد معرفة قديمة» أو «مجرد جار من بعيد» أو «مجرد زميل عمل»، فكيف تكون صديقة بذلك البعد النفسي، والصديقة صنو الروح، أخت لم تلدها أمك؟؟ ثم جاءت الحروف مقطعة متفرقة منفصلة «م ج ر د ص د ي ق ة» (غلاف المجموعة) لتؤكد البعد ووجود فجوة في العلاقة، كأن رباط الصداقة مجرد وهم، وأن علاقة الصداقة ليست حقيقية ولم تثبت صدقيتها عمليًا، فالصديق وقت الضيق، وربما لا يجد بعضنا صديقًا وقت حاجته الماسة.
في قصة «ذكرى»، يتخاصمان في حضرة القاضي الذي يؤجل جلسة الطلاق لنهاية الشهر، وتكون المفارقة أن نهاية الشهر هي الذكرى الأولى لزواجهما. إنها مأساة وظاهرة أن تنتهي كثير من العلاقات الزوجية قبل نهاية عامها الأول، لعوامل كثيرة ليس هنا مجال بحثها، ولكن الأمر بحاجة إلى دراسة وعلاج؛ لما يترتب على ذلك من آثار اجتماعية تنخر بنيان المجتمع وتهدد أركانه.
شعرت ببرودة لم تعتدها عندما صافحته في قصة «خيانة»، ولمحت في عينيه شيئًا غريبًا، ولم تطل دهشتها عندما أيقظها زامور السيارة ورأت أخرى بجانبه، فهوت على الأرض. وعلى الرغم من أنها فوجئت بالبديلة، إلا أن المقدمات كانت كافية لتدرك حقيقة الأمر وإن لم ترها، وهذه العلاقات التي لا تحكمها الروابط، لا تبنى على أرض صلبة، بل على رغبات متقلبة، في ظل وجود بدائل كثيرة.
في قصة «الجميلة والكهل الدميم»، صفق جمهور المسرح طويلًا للفتاة الجميلة التي تزوجت الكهل الدميم وأحسنت دورها، ورفعت يد الكهل ليشاركها تحية الجمهور، ثم ركلته بعيدًا ليلملم صورها التي امتلأ المسرح بها. فالعلاقة بينهما علاقة عرض مسرحي مؤقت، وبعدها تظهر أخلاقها وحقيقتها، وكأن جمالها يعطيها الحق أن تحتقر الآخرين. وهذا يحيلنا إلى قضية ذات أهمية كبيرة، بأن لا ننخدع بالعلاقات الدرامية في المسرح والسينما والتلفزيون، ونظن أنها مثالية وجميلة وينبغي أن تكون كذلك في الواقع، لأن ذلك مجرد تمثيل مدفوع الأجر، ولو دفع لأي منا أجر لأجدنا أدوار النفاق والتجمل، ولكن الواقع شيء آخر مختلف بتعقداته وتشابكاته. وربما العكس صحيح أيضًا؛ أن الحياة مسرح كبير، كل منا يتخلص من الآخر ويركله إذا انتهت حاجته ومصلحته منه!!
تثير قصة «لفحة» موضوع الهدية، فهل نوع الهدية مرتبط بالمهدي أم المهدى إليه؟ هل نختار الهدية التي يحبها المهدى إليه أم تلك التي نرغب بها ونفضلها نحن؟ ففي هذه القصة، عزمت على شراء لفحة لزوجها، واستبعدت الساعات والعطور، فهي تبحث عن شيء مختلف، وانتقلت من محل إلى محل ولم يعجبها شيء، ولكن صاحبتها باغتتها بأنها لا تريد شراء هدية، فوجمت تتساءل، «فردت صديقتها بحزن: أظنكِ…أظنني أشعر بالبرد». فهي في الحقيقة كانت تبحث عن هدية تناسبها وتحتاجها، هدية تمنحها الدفء، لتبعد عنها برودة الجو، وربما برودة العواطف والعلاقات.
في قصة «أمومة»، غادرت الممثلة خشبة المسرح مسرعة وسط ذهول الجميع، ولحقها المخرج وتبعها الممثلون دون جدوى، ودخل المسرح طفل يبكي «ماما». عاد المخرج والممثلون إلى المسرح وسط بكاء الصبي، المخرج يحاول الاعتذار للجمهور، وبعض الممثلين يحاولون لجم الطفل، وفجأة تعود الممثلة، تصرخ بالممثلين، وتحتضن طفلها و«تضمه إلى صدرها.. «كنت أبحث عنك فصوتك اخترق قلبي».. الممثلة تعود إلى خشبة المسرح». فالأمومة أولوية بالنسبة للمرأة تتقدم على ما عداها حتى وإن كانت في معمعة العمل، وهي لبؤة إن شعرت أن أولادها في خطر، وعلى استعداد للتضحية من أجلهم بكل شيء، ولكن، ليس كل أم أمًا!
قررت الموظفة في قصة «شقائق النعمان» أخذ إجازة لتدلل نفسها يومًا في حديقة مجاورة، ولكنها لم تهنأ هناك؛ فقد لاحقتها طلبات وأسئلة رواد الحديقة وأحاديثهم الغريبة، فقطعت إجازتها، وعادت إلى عملها «أظن أن الدلال لا يليق بي..». هذه الجملة الختامية تناص مع عنوان رواية لأحلام مستغانمي «الأسود يليق بك». والقصة تؤكد أن متاعب الحياة ومشاغلها ومنغصاتها تلاحق المرء في كل مكان، ولا تدع له مجالًا لالتقاط الأنفاس أو تدليل النفس، فذلك ترف بعيد المنال.
في قصة «خلوي»، رجل وامرأة في مقهى، ينظر كل منهما إلى هاتفه، ويسترقان النظر إلى بعضهما بعضًا بخجل، في مشهد يومي كما قال النادل، ثم «رجل وامرأة يغادران المقهى.. هو يضع هاتفه على أذنه.. وهي تضع سماعتها في أذنها وتبتسم». هي مفارقة لا يفسرها إلا الخوف والخجل، وربما يجدان في هكذا علاقة (عن بعد) الحل الأجمل والأفضل في ظل طغيان موجة التباعد والعمل والدراسة واللقاءات (عن بعد)!
لم يعجبها فستان الحفلة الجديد في قصة «ذوق»، فلبست فستانًا قديمًا، ضحكت أمام المرآة بعد أن نظرت إلى الفستان الجديد: «ساء ذوقي بدلًا من أن يتحسن! تُرى لماذا يسوء ذوقنا عندما نكبر؟! الفستان يغمزها بخبث: لأننا نكبر!». الفستان لا يعرف المداهنة، وثأر لنفسه، وغمز من جانبها ورد الصفعة صفعتين، فقد اشترته وألقته أرضًا، فذكرها بأنها كبرت، وما عادت تلك الجميلة التي تناسبها الأثواب الجديدة.
في قصة «ماركات» اشترت كل ماركات الملابس المعروضة في واجهة المحلات، ثم بكت وألقت بها في حاوية نفايات، فكانت من نصيب «زوجة الزبال» التي «انتشت فرحًا وهي تلبس الماركات، وقررت أن توزعها على الأعياد والأفراح القادمة». وكما يقولون «مصائب قوم عند قوم فوائد»؛ فمصيبة المرأة التي اشترت الملابس غالية الثمن وجعلتها تلقيها في الحاوية، كانت فرحًا وفرجًا لامرأة «الزبال»، تكفيها سنوات لكافة الأعياد والمناسبات. وهكذا الحياة، تقوم على ثنائيات ومفارقات غريبة غير مفهومة.
أهداها ديوان «أنت لي» لنزار قباني في قصة «ديوان»، لم تشعر بصدق نزار وإحساسه، فنزار لم يحب المرأة ولم يحب إلا نفسه، واحتارت ماذا تهديه، فاتصلت به مرارًا وكان خطه مشغولًا، «وأخيرًا رد عليها بنزق: ألم تفهمي؟! أهديتك ديوان نزار وليس ديوان جميل بثينة!». كان شعورها صادقًا بأن نزارًا لا يحب إلا نفسه، ولكنها لم تفهم الرسالة، وجاءتها صادمة صاعقة دامية لقلبها، وآن لها أن تدرك «أنها له» عندما يشاء، ولكنه «ليس لها» على الإطلاق.
في قصة «رجل لن يأتي»، ينتقم نادل لزميله من امرأة نهرته، كانت تنتظر رجلًا تأخر كثيرًا، فأخبرها أن موعدهما في الطابق العلوي، فوجدت امرأة مثلها تنتظر، وأمامها فنجانان من القهوة «من الباب على زاوية الصالة جاء رجل يمسح يديه.. رفع رأسه فجأة.. اتجه مسرعًا نحو الدرج السفلي.. وبصوت واحد صاحتا: أنا هنا!». بعيدًا عن انتقام النادل، والرجل الذي يمسح يديه، فإن العلاقات الافتراضية عندما تتحول إلى واقعية، وخاصة بين الجنسين، تصبح كارثية أو محرجة على الأقل، وتؤدي إلى صدمات ومواقف صعبة في الغالب، فالواقع يخالف التوقعات، والصور المنشورة غير حقيقية، وتتأزم الأمور عندما يجد أحد طرفي العلاقة أمامه أكثر من خيار، فيحار، وبدلًا من أن يسأل ويتأكد، يلجأ إلى الهرب كحل سهل، وربما استدراكًا لعلاقة لا يريدها.
بعد طول انتظار وحلم وفقر وحرمان في قصة «شاورما»، يحصل الطفل على دينار لشراء الشاورما، فاشترى وجبة وأعطى «الكاشير» الدينار بزهو، ولكنها ألزمته الفراش مريضًا يتلوى من الألم «همس في أذن أمه التي كانت تمسح عرقه: أمي لماذا لم تخبريني أن الشاورما تقتلني.. بكت أمه كثيرًا وقبلته: ممنوع على الفقراء أن يفرحوا بتحقيق أمانيهم». فحتى الأماني والأحلام البسيطة بقيمة «دينار» لا تنبغي للفقراء، ولحظات فرحهم مسروقة سريعة الزوال، ولكن من المؤكد أن هذا ليس قدرًا محتومًا، بل يجب السعي والجهد للخلاص وتغيير الواقع.
وبعد؛ فإن «مجرد صديقة»، عمّان: الآن ناشرون وموزعون، 2021، 75 صفحة، هي المجموعة القصصية الأولى للأكاديمية الدكتورة صبحة علقم، وصدر لها من قبل: «المسرح السياسي عند سعدالله ونوس- 2000»، و«تداخل الأجناس الأدبية في الرواية العربية- 2006»، بالإضافة إلى عدد من البحوث العلمية المحكمة والدراسات والمقالات المنشورة. وهي عضو في كل من رابطة الكتاب الأردنيين، وجمعية النقاد الأردنيين، والاتحاد الدولي للغة العربية، ورابطة الأكاديميات الأردنيات. وشاركت في العديد من المؤتمرات المتخصصة والندوات الثقافية، وتحكيم المسابقات الإبداعية محليًا وعربيًا.