موسى إبراهيم أبو رياش
عندما ينتهي القارئ من رواية «نصف قطعة شوكولا» لريمة راعي، يقع في حيرة وإشكال؛ هل لا بد أن يُصارع المرء لينال قطعة الشوكولا كاملة، أم يرضى بنصف قطعة ليعيش نصف حياة، نصف قلب، نصف وجود، نصف حضور، نصف سعادة، نصف… ؟؟؟ وتركت الخيار أمام القارئ؛ ليقرر أي وجهة يقصدها أو طريق يسلكه، مع أن القارئ يلمس دعوة ضمنية للحصول على القطعة كاملة لا نصفها!!
شخصيًا، أنحاز إلى «نصف قطعة شوكولا»؛ لأن نصف القطعة هي قطعة كاملة أيضًا، ولا تكمن المشكلة في الكمية، بقدر كيف نتذوق هذه القطعة واستمتاعنا بها. فرب قطعة كاملة تُزرط (تُبلع)، ورب نصف قطعة أو أقل تمكث في الفم وتحت اللسان طويلًا. كما أن «النصف»، يوحي بالعطاء والمنح والمشاركة، بعيدًا عن الأنانية والإقصاء. ومن أحداث الرواية، فإن صاحب القطعة الكاملة «بيدر»، ونصف القطعة «آدم»، تحولا إلى قاتلين، وحتى من يسبح في أحواض الشوكولا «ورد» وأمها «مرنانة» لم ينج من القتل والخيانة، أي أن الموضوع متعلق بالكيفية لا بالكمية. ولكن هذا لا يعني أن لا يسعى المرء للحصول على القطعة كاملة بشرف بما لا يسيء إلى غيره أو يظلمه أو يسلبه حقوقه.
وعند النظر في «نصف قطعة الشوكولا» التي أغضبت «آدم» وأحزنته وجعلت عواطفه تتزعزع وينظر لــ«بيدر» بحسد وحقد وتنافسية، هي نظرة قاصرة، وفهم مغلوط، وعدم إدراك للحقائق والإشارات؛ لأن «ورد» عندما منحت «بيدر» قطعة كاملة، وتقاسمت مع «آدم» قطعتها، فلأن «بيدر» ساهم في حماية «آدم» من الاعتداء والإيذاء، أي أنها ترد له الجميل نيابة عنه، كما أنه كان ضيفًا جديدًا على المدرسة، والأهم أنه كان حفيد مديرة المدرسة، أي صاحب سلطة ونفوذ، وفي هذا سياسة ودهاء ونظرة بعيدة. وفي المقابل، فإن الشخص عندما يقاسمك، فهذا يعني أنه ساواك بنفسه، شاركك ما يملك، أرسل لك رسالة عاطفية قوية، تحمل دلالات عديدة وعميقة، ولكن «آدم» المدلل، وحيد أبويه، أراد الامتلاك والاستحواذ، وفهم الأمر كما تسول له نفسه الضعيفة الهشة غير السوية.
الأمر الثاني اللافت في الرواية هو أثر التربية الأسرية على الأطفال في تحديد شخصياتهم ورسم مستقبلهم، ويشكل «آدم» النموذج الصارخ، فهو المدلل حتى النخاع من أمه، عاش على أنه بنت؛ شَعرًا، وألعابًا، وملابس، مما صبغ سلوكياته بصيغة بناتيَّة حتى في المدرسه سنين عددًا، إلى أن تدخلت المديرة واستدعت والده الذي قص شعره كاملًا، ورمى ألعاب البنات التي تخصه في حاوية النفايات، ومع ذلك لم يتخل «آدم» عن اللعب مع «ورد» في بيتها، بغطاء من أمه. وفي المقابل، كان والده العسكري الفظ يقسو عليه، ويرسم مستقبله كما يريد، فنشأ «آدم» شخصية مهزوزة، عصفت بها الرياح بعد طلاق أمه وزواجها من آخر، مما جعله من بعد ضحية للانحراف، فانساق لـ«مرنانة»، وأهمل دراسته، والتحق بكلية عسكرية انصياعًا لأمر والده، سرعان ما تركها بعد وفاته.
أما «ورد» صديقة طفولته، فقد انتظرته طويلًا دون جدوى، فاختارت من بقي بجانبها دائمًا، ولم يبتعد عنها؛ «بيدر» عندما تقدم لها، فتزوجا أمام نظرات «آدم» وحسرته وشعوره بالدونية والخسارة على عدد من الجبهات. وفي المقابل، فإن التربية المنفتحة المتحررة لـ«ورد» لم توفر لها الحياة السعيدة ولا العصمة من تقلبات الزمن والظروف، وأوشكت أن تكون ضحية لحب طفولتها. أي أن تربية الأطفال بحاجة إلى نوع من التوازن والضوابط، فلا يشعر الطفل أن مقيد أو منفلت، بل ثمة قواعد وأسس ومسؤوليات عليه أن يراعيها؛ لأنه فرد في مجتمع؛ لا يعيش على هواه أو وفق رغباته.
وتثير الرواية تساؤلًا: هل الخيانة بحاجة إلى مبررات أو تبحث عن فرص؟؟ الشر بشكل عام موجود في الإنسان، والحياة هي صراع بين الخير والشر داخل النفس أولًا، والجانب الغالب هو الذي يحدد شخصية المرء وصورته الخارجية، والخيانة موجودة، وتدافع المرء لتخرج، ولكن الإنسان يخدع نفسه بمبررات واهية أنه لجأ للخيانة مضطرًا، لأن الطرف المقايل خان أولًا، ولكأن المنطق يحتم شعار (أخون لأنك خنت، أو خن لأخن)، وهذا عبث بقدسية الحياة وضرورة المحافظة على سمو النفس وطهارتها بعيدًا عن أي دنس مهما كانت الضغوطات والمبررات، فمن يخن يخن نفسه أولًا، ولن يضر إلا نفسه، ولا يهبط إلا بمستواه، والخيانة هي الخيانة بأي شكل أو صورة.
وهناك أمر جميل أبرزته الرواية واحتفت به، أن فطرة الإنسان تميل إلى الخير، وإلى العطاء دون مقابل، ولكنها فطرة محجوبة، مطموسة، قد تجد لها منفذًا ذات لحظة صفاء ونقاء، كما حدث مع «ورد» عندما تركت خطيبها وثوب عرسها لتواسي فتاة حزينة باكية «مكادي»، وهي لا تعرفها من قبل، وسمعت شكواها وشعرت بآلامها، ونقلتها من ضيق مشكلتها إلى سعة الحياة، ومن حزن إلى راحة وطمأنينة. أما «مكادي» فقد لفت نظرها الطفل «مهند» الذي ينام على رصيف الشارع، واهتمت لأمره، وحاولت أن تدخله دار أيتام، فلما فشلت بسبب قصور القوانين، نجحت في أن تتبناه أسرتها، فنقلته من بؤس الحرب والدمار وفقدان أسرته تحت الأنقاض إلى أسرة جديدة في مكان آمن ومستقبل واعد. كما أن «بيدر» نظر في البداية ببراءة للفتاة «لجين» التي صدمها بسيارته، وسعد كثيرًا بعطاءه ومساعدتها ومنحها السعادة، ولكن ما لبث أن انحرف واقترف الخطيئة التي أدت إلى موتها منتحرة.
أقدم «آدم» على اقتراف عدد من جرائم القتل، فهل يتحمل تبعات أعماله الإجرامية أم لا؟ هل يُعفى من مسؤولية جرائمه لأنها أفعال لا إرادية قهرية لورم في دماغه؟؟ أم يُحاسب ويُدان لأنه يعلم سوء حالته، ورفض الخضوع للعلاج، مفضلًا أن يعيش حياته إلى آخر قطرة منها كما يشتهي؟
وبعد؛؛؛ فإن «نصف قطعة شوكولا، عمّان: الآن ناشرون وموزعون، 2021، 215 صفحة»، رواية تثير تساؤلات عديدة أخرى لا تغيب عن القارئ اللبيب. قد نتفق أو نختلف مع ما تثيره وتطرحه وتنحاز إليه، إلا أنه أولًا وأخيرًا نص إبداعي يقول كلمته، يملك حقه في التعبير والبوح، ولكل قارئ قراءته المختلفة ونصه الموازي، وأبعد النصوص أثرًا، ما خالفت قناعات القارئ، وزعزعت ما ألفه. تميزت الرواية بلغتها الجميلة، وسردها الرائق، وتعدد عقدها وتداخلها، واقتباساتها العميقة التي استهلت بها كل فصل من فصولها، وهي الثالثة للروائية والإعلامية السورية ريمة راعي بعد روايتيها: «أحضان مالحة، 2017»، و«بائعة الكلمات، 2018». كما صدر لها من قبل مجموعتان قصصيتان: «وأخيرًا ابتسم العالم، 1999»، و«القمر لا يكتمل، 2006».
class="inline-block portfolio-desc">portfolio
text