موسى إبراهيم أبو رياش
عندما الانتهاء من قراءة رواية «خيوط الزعفران» للعراقي زهير كريم (عمّان: الآن ناشرون وموزعون، 2021، 200 صفحة)، استدعت الذاكرة مقطعًا للسياب من قصيدته «أنشودة المطر»:
«وَمُنْذُ أَنْ كُنَّا صِغَارًا، كَانَتِ السَّمَاء
تَغِيمُ في الشِّتَاء
وَيَهْطُل المَطَر،
وَكُلَّ عَامٍ – حِينَ يُعْشُب الثَّرَى- نَجُوعْ
مَا مَرَّ عَامٌ وَالعِرَاقُ لَيْسَ فِيهِ جُوعْ».
فما مر على العراق عهد إلا وفيه ألم ودم، هدم وقتل، وجوع؛ جوع إلى الحرية والسلام والطمأنينة والأمن والأمان، جوع إلى عراق واحد بلا خلافات أو صراعات، والعراقيون صابرون، يعضون على جراحهم، ومن يهاجر لا بد أن يعود، فوطن كالعراق المعتق بالتاريخ والحضارة والتنوع، المخضر بفراته ودجلاه، المتربع هامة عز على الخليج، لا يمكن أن يُصبر على فراقه طويلًا مهما أوجعَ وأبكى.
تفاصيل مدهشة
تدهشنا التفاصيل في الرواية، التي لم تأت عبثًا أو حشوًا أو لسد فجوات سردية، بل لعبت دورًا رئيسًا فاعلًا، ولكن، جاءت في معظمها تفاصيل وجع، حزن، ألم، دم، فقد، موت، تفجير، قصف، أشلاء، جنون… تفاصيل تجرح القارئ وتحرجه، تلطمه، تفاصيل صارخة على ما يجري في العراق، المبتلى بالقتل واليتم والثكل والتدمير والتفجير والتهجير والطائفية والعرقية وفساد الساسة.
منذ الكلمة الأولى ثمة وجع مزمن ضارب في الأعماق، يختصر الحكاية، ويشعل شوق القراءة: «هذه هي بغداد صيف عام 2005، المدينة الخارجة للتو من فم الحصار إلى حقل عدم الطمأنينة، الهاربة من مستنقع العتمة والخوف والجوع إلى فضاء وجد الناس فيه أنفسهم في مواجهة النوايا المريبة للجنود الغرباء القادمين من وراء البحار والسيارات المفخخة والأحزمة الناسفة التي لا يعرفون متى وأين سوف تنفجر، مذعورين من عمليات الخطف الغامضة التي تعددت الأصابع في نسجها… إنها مدينة الأحلام المجهضة، وحوض الصراعات السياسية وحماقات الجنرالات، دمية الصبر التي لا تحتمل، فتنفجر بعد كل حكاية يسردها عليك أي من سكانها».
الشخصية الرئيسة في الرواية «يوسف»، هذا الشاب الجامعي الوسيم، يعيش حياته كما يحب، لا يهتم بما يدور حوله من فقر وجوع وحرب طاحنة، وكان يؤمن بأن «اللذة وحدها هي الخير الكامل، الإيروسية، ولذة الطعام، لذة الاشتعال بالفن بتحريض الرغبات الداخلية، أما الألم فهو الشر، وعلى الإنسان أن يتحرر من الألم بالهروب منه أو التغاضي عن حضوره». يأتيه خبر ابن عمه المصاب في المستشفى جراء المعارك الدائرة، فيهرع إلى المستشفى؛ لأنه يستشف من نغمة صوت أبيه ورقتها أن الأمر جلل. وهو في طريقه للمستشفى «كان يتفرج على بغداد التي لم يرها من قبل، رآها ولم تكن هي نفسها حتى قبل يومين، فلقد شعر كما لو أنه كان في غيبوبة فاستيقظ ليجد صورة الخراب بأقسى تجلياته. والحقيقة التي لا يستطيع يوسف التغاضي عنها، أن الحرب لم تبدأ للتو كما شعر بها الآن، بل قبل خمس سنوات، لكنها لم تكن تعنيه بشكل كبير، ولم يحاول حتى السؤال عن أسبابها ونتائجها بجدية، لقد اطمأن للمسافة بينه وبين الجبهات»، وهكذا معظم الناس؛ لا يلتفتون إلى مصائب الآخرين ومعاناتهم ما داموا بمنجاة منها، ولكن عندما تشتعل النار من حولك، فلا نجاة منها، ولا بد أن تحرق ثيابك على أقل تقدير.
دخل المستشفى، وسط الروائح الشديدة وأنين المرضى، وحركة الأطباء والممرضين التي لا تهدأ، ورأى ابن عمه: «كان في حالة يشبه فيها تمثالًا أنجز للتو في مشغل، ملفوفًا بقماش وضمادات». لم يستطع الكلام، فزاغت نظراته تنظر حال الجرحى في الغرفة، ثم عاد ينظر إلى وسام، كان «مشغولًا بمنظر الدم الذي نز من تحت الضمادات الموجودة على فخذ وسام، نظر إلى زوجة عمه، ولم يكن قادرًا على قول شيء، فعندما نكون أمام الفاجعة، نشعر بأن أفواهنا مليئة بسائل مر، فلا نستطيع أن ننطق، بل ننشغل بالمرارة وحسب». ثم يصف السارد مشهد النهاية لوسام: «فجأة تحركت قدما وسام بشكل متوتر، أخذ يرفس عدة مرات بشكل سريع ومضطرب، تضخم في اللحظة نفسها شخيره، وبدأ نفسه يضطرب بشكل مفزع». فخرج يوسف، لا يلوي على شيء، وعاد إلى بيته وأغلق الباب على نفسه، ولما دخلت عليه أمه بعد انتهاء أيام العزاء التي لم يحضرها «أخافها العرق الذي كان ينضح منه، إذ ظهر قميصه مبللًا، وكانت عيناه مغلقتين، وشفتاه جافتين، سمعت – مذعورة- صوت أنين متكسر ينبعث من حنجرته».
استمر مرضه طويلًا حتى «تعفن جسده، وصارت له رائحة تشبه ما ينبعث من بركة آسنة، رائحة حمضية تنتشر في الهواء الثقيل الذي يتحرك في الغرفة». وفي أثناء رقوده في المستشفى يتذكر يوسف قصة سمعها يومًا ما في مطعم ولم يلق لها بالًا، حول جندي كلف بتوصيل جثة زميل له، وبعد انتظار قيل له «يوجد رأس وبعض من الصدر وكتف»، ولما لم يستوعب ما سمع، قيل له: «لا تقلق، سوف نجد له ما يكمله»، وتتحدث القصة بالتفصيل كيف أكملوا الجثة بأعضاء متفرقة من هنا وهناك، حتى اكتملت إلى حد ما «تشبه (بورتريه) بنسب غير واقعية»، إنها صورة من العبث اللامعقول، الذي لا يمكن تصوره، أن تصل الحالة بتجميع أعضاء مختلفة لإكمال الجثة، ولكنه الإنسان عندما لا تصبح له أي قيمة، فهو مجرد كومة من اللحم والعظم، وأي عضو يفي بالغرض، فأي ألم وأي وجع وأي صدمة ستصيب من يعرفه من رفيق سلاح أو قريب أو حبيب؟!
وعلى الرغم من أن قوة العلاقة بين يوسف ووسام مُدركة ضمنيًا، مما أدى إلى انهيار يوسف، إلا أننا كنا نفضل لو أتحفنا الكاتب المبدع بتفصيلات هذه العلاقة ومتانة الرابطة بينهما، لنعيش مبررات هذه الانهيار وما تلاه من تحولات جذرية في حياة يوسف وأفكاره ونظرته إلى الأمور المختلفة.
تعيش حليمة ألمها الجارح، وألسنة الجارات الحادة، بين حبها اللاهب ليوسف الذي لا يلتفت إليها، وبين مطاردة «رعد حليمة» لها، الذي يريدها زوجة له فترفض، مبررة موقفها لأبيها سيء الطباع: «رعد هذا أخلاقه سيئة، ورائحته مثل تلك الرائحة التي تنبعث من بقايا فضلات الطيور، أسنانه صفراء مثل أسنان الحمار، أصدقاؤه كلهم من الأشقياء والمدمنين، وأخته معروفة بسمعتها السيئة، ولا أحد يسلم من لسان أمه الذي يوزع الشتائم على الجميع طول النهار، فهي امرأة لا تستحي أبدًا».
تزوج يوسف حليمة مضطرًا؛ لإصلاح ما كُسِر، فقد استغلت حليمة سكره وثمالته وقضت وطرها منه، بعد أن أرقها الانتظار، وشماتة الجارات، وحب جارف سلبها راحتها وطمأنينتها. وما لبث أن ترك يوسف الخدمة العسكرية وهرب من العراق، فجُنت حليمة وأدخلوها المستشفى بعد أن ولدت توأم بنات، ثم هربت من المستشفى إثر القصف. تقول تصف لحظاتها الأخيرة: «لا أعرف كيف خرجت، كنت جائعة وحافية، وكانت الشوارع فارغة، ليست فارغة تمامًا، لكن الناس كانوا قليلين جدًا، أعطاني صاحب عربة لفة فلافل… عبرت الشارع، ضربتني السيارة، سيارة مسرعة، وطرت فوق في السماء، طرت، وسقطت على الرصيف».
«خيوط الزعفران»، رواية رائعة، بلغتها الفاتنة، وسردها الممتع، وتفاصيلها المدهشة، وحركة شخصياتها وصراعاتها الداخلية والخارجية، ورسمت صورة عامة واضحة للعراق بين عامي 1985 و2005، وأبانت معاناة المهمشين وأوضاعهم
تنقل يوسف بين سورية والمغرب واستقر في بلجيكا، وبعد أن هدأت الأمور نسبيًا في العراق، عاد سنة 2005، حيث التقى مع أبويه وطفلتيه، ثم قصد السليمانية ليلتقي مع حبيبته السابقة نارفين، التي رفض أبوها زواجه منها كونه عربيًا وهي كردية، يصف السارد لقاءه الحزين بها في بيتها، عندما أتته على كرسي متحرك: «كان جسدها مضطربًا، وقد استعادت شريط غرامها كما لو أنها تقول إن الخسارات تستحق أن نبتسم لها في النهاية. لم تكن قادرة على النهوض وقد أدرك يوسف الأمر، لكنه كان في غمرة الفرح باللقاء، تقدم إليها، وشعرت نارفين بالخجل لأنها لن تستطيع منح هذا اللقاء التقدير الكافي الذي يستحقه. شعرت بأنها محبوسة في هذا العجز الذي أورثها قدمين لا يمكنهما حمل الجسد».
ولعل الموجع أكثر ليوسف، الذي خلخل كيانه، وشتت أفكاره، هو تحول صديق العمر «حسن قيثارة»، من فنان وعازف قيثار، يحب الموسيقى ويتغزل بالألحان، ولا يرى الحياة إلا من خلالها، تحول إلى قائد تنظيم مسلح لتصفية الخصوم، محاطًا بالحرس في كل مكان، ولا ينطلق إلا بموكب، يتنعم بالمآدب الملوكية، والمكاتب الفارهة.
وذكرت الرواية بالتفصيل المدهش بعض قصص الوجع، مثل: قصة الديك المزعج، ومقتل عباس، وحكاية الصبي الذي هزم الشمر، وفرار أهالي حلبجة، والسحلية التي تتسلق صورة الزعيم، وأسطورة «كروكوس» و«سميكلاكس»، وهزيمة يوسف لحسن سندويش، ومصير رعد حليمة، وغيرها من حكايات الوجع والألم حد النزف.
صورة عامة للعراق
إن «خيوط الزعفران»، رواية رائعة، بلغتها الفاتنة، وسردها الممتع، وتفاصيلها المدهشة، وحركة شخصياتها وصراعاتها الداخلية والخارجية، ورسمت صورة عامة واضحة للعراق بين عامي 1985 و2005، وأبانت معاناة المهمشين وأوضاعهم، وأثارت عشرات الأسئلة، حول العراق ومصيره وسط هذه الصراعات التي لا تنتهي، فقد تخلصوا من ديك، فانشقت الأرض عن آلاف الديكة. والرواية هي آخر إصدارات الكاتب زهير كريم، الذي أصدر من قبل عددًا من المؤلفات الإبداعية، منها: «قلب اللقلق، رواية، 2011». «صائد الجثث، رواية، 2015». «ماكنة كبيرة تدهس المارّة، قصص، 2017». «أغاني الرمل والمانجو.. نواكشوط – باماكو، أدب الرحلات، 2020»، بالإضافة إلى نصوص شعرية وقراءات نقدية منشورة في الصحف والمجلات والمواقع الثقافية.
للتفاصيل والشراء اضغط هنا
للاطلاع على سيرة المؤلف اضغط هنا