محمد الهادي الجزيري
أوّلا وقبل كلّ شيء، يسعدني اليوم أن أقدّم قاصّا متمرسا، له خبرة ودراية بفنّ القصّ، وهو محمد إبراهيم نوايا، سوري من مواليد العام 1981 في مدينة حمص، وهو حاصل على درجة البكالوريوس في المُحاسبة، ويُقيم حالياً في مَدينة الخَرطوم. وقد صدرت له منذ العام 2017 خمس مجموعات قصصية، وتُرجمت بعض أعماله إلى اللغتين الإنجليزية والإيطالية.
في هذه المجموعة المعنونة بـ “أطفال آليّون” يفتتح المتن السرديّ بقصة “تجاذب” التي يشعر فيها القاصّ بالارتفاع والطيران فوق الأرض، مخلّفا وراءه كلّ ما امتلكه في حياته، وحين يسأل المرتفعين معه ليستبين الأمر ليكون الردّ مقلقا أكثر من شافٍ، إذ أنّ المستوجب يريد الرجوع إلى الأرض الصلبة، أعتقد أنّ المغزى من هذه القصة، أنّ الإنسان فعل كلّ شيء إلا الارتباط الجذري والمتين بعالمه الأرضي، فلو تفحّصنا الأمر لتّضح لنا صواب فكر الكاتب، الذي رأى أنّ الإنسانية تطير مخلّفة كلّ حضارة وعراقة وإبداع وعلوم:
“يزداد قلقك كثيرا وأنت تقترب من مغادرة الغلاف الجويّ، تنظر للمرّة الأخيرة فتُشاهد الجبال والأشجار والأبنية لم تُحلّق معك، تلوم نفسك بشدّة، وتتمنّى لو كانت لك جذور ضاربة في الأرض”.
أنا شخصيا فكرت في موضوع القصة قبل مطالعتها، فالإنسان الآليّ واكتساحه لحياتنا اليومية وقضاؤه على أماكن شغلنا واستبداله لنا بفصيلته من حديد ومعدن، كلّ هذا تركني وترك الكاتب يفرد هذه القصة وغيرها إلى الربوت أو الإنسان الآلي، وتتلخّص القصة في جريمة قتل ومرافعة صاحب الحقّ العام ومطالبته بأقصى درجات العقوبة، المضحك أنّ القاتل ما هو غير الإنسان، أمّا الضحية فهو الربوت الآليّ الدخيل على المجتمع، وأعتقد أنّ الكاتب بطرقه هذا الموضوع، فتح الباب على مصراعيه لغيره للتحدّث والتخيّل في هذا الأمر، الذي أعتبره خطير وجلل:
“أنا لم أقتل الضحية لأنّه لا حياة فيها أصلا، وكلّ ما قمت به أنّي فككت أجزاءها لأفهم جيّدا طريقة إنجازها للأعمال، ثمّ بدأ يتحدّث في الكثير من المسائل المحظورة وأضاف، أنّنا نحن البشر من صنعنا الآلات بهدف خدمتنا فقط، وتساءل كيف لرجل آليّ لا يمتلك المشاعر وليس لديه أيّ وعي، وقد تمّ تجميعه من المعادن والصفائح الإلكترونية، أن يُعامل كإنسان وينال نفس حقوقنا؟”
ثمّة قصة في نهاية المتن القصصي بعنوان “اشتباك”، هي محاولة لاستدراج القارئ للمشاركة فعليا مع الكاتب في نسج الحكاية، وهي تبدأ برحلة في القطار ومشكلة القاصّ تكمن في إنهاء القصة الأخيرة لمجموعته الجديدة ليتمكّن من إبرام العقد مع إحدى دور النشر، وخلاصة الأمر يتمّ جري القارئ (مثلما وقع معي) إلى تفاصيل هامشية مثل الرجل الراكب في القطار وتخيّل أنّه إرهابي يستعدّ للقيام بعملية إرهابية، وتتشعّب القصة وتدخل في مساءلة الكاتب حول أسلوبه والغاية منه، وما مردّ هذا التشويق وهذه الإثارة إلى أن تصل بنا أحداث القصة، إلى الرجل الراكب الإرهابي المزعوم، يتقدّم نحو الكاتب ويسأله لينهي عملية السرد:
“هل أنت بطل في قصة أحد الكُتاب؟، من هو وبأيّ جنس أدبي يكتب؟، هل يملي عليك تماما ما تفعله ولا يوجد هامش تتحرّك فيه بحريّة، لم لا تفلتُ من قبضته وتنهي لي قصتي الأخيرة”
“خيرا نورد في خاتمة مقالنا فقرة قصيرة للناقد السوداني الدكتور عزّ الدين ميرغني، الذي مهّد لهذه المجموعة الطريق، وتناولها في كلمة معبّرة وواثقة تعكس احترامه للكاتب والقارئ معا وسهّل تقبّلها من شريحة كبيرة من الناس المهتمين بالأدب:
“يثبت الكاتب في “أطفال آلِيّون” مقدرته السّردية للانتقال من التقاط اللحظات العابرة، كما في القصّة الومضة أو القصيرة جدّاً، إلى توظيف الخيال العلمي لإيصال أفكاره وفلسفته ونقده للواقع من حوله، متخطّياً الزمكانية ليشمل هذا الواقعُ كلّ الإنسانية التي تشيّأت وأصبح فيها الإنسان يُدار مثل آلة يتحكّم فيها الآخرون، وإذا ما نشد الخلاص فإنه سرعان ما يصطدم بجبروت السُّلطة التي تستخدم الآلة الحديثة لتعزيز قوّتها”.