أنياب الوحدة تنهش أرامل «زقاق الجمجم»

أنياب الوحدة تنهش أرامل «زقاق الجمجم»


class="inline-block portfolio-desc">portfolio

text

    موسى إبراهيم أبو رياش
    (كاتب أردني)

    إذا كانت الخمر «أم الخبائث»، فإن الحرب أم الويلات والأحزان والآلام والدمار والخراب والمصائب والكوارث، فالحرب، أي حرب، هزيمة للإنسانية، هزيمة للحب والجمال، هزيمة للسلام والطمأنينة، هزيمة للاستقرار والأمان، هزيمة لكل المعاني الجميلة والمشاعر النبيلة، ولا منتصر حقيقيا فيها؛ فالكل مهزوم، ولكن تتفاوت الهزائم، ولو حاولت أطراف الحرب التفاهم والبحث بصدق وإخلاص عن حلول لأسباب الخلاف، لتوصلوا إلى حل وسط يرضي الجميع، ولكنها الوحشية التي تتلبس بعض الأرواح، فلا يسعدها إلا مشاهد الدماء والأشلاء والدمار.
    قدر العراق أن يكون ميدان صراع وحروب على مدار التاريخ، يستريح قليلا ليستعد لجولة أخرى؛ وفي العصر الحديث، خاض العراقيون عشرات الحروب الداخلية والخارجية، ما أدى إلى استنزاف ثرواتهم ومقدراتهم، بالإضافة إلى مئات الألوف من الخسائر في الأرواح، وأضعافها من الجرحى، ناهيك مما ألحقته هذه الحروب المتوالية من تدمير وتخريب لا يمكن حصره أو تقديره، ولكن الآثار الاجتماعية والنفسية للحروب لا تلقى الاهتمام المناسب، مع أنها ممتدة لا يمكن أن تزول إلا بزوال ضحاياها ومن يكتوون بنارها.
    تترك الحرب ندوبا لا تزول وجراحا لا تندمل؛ تترك أيتاما وثكالى وأرامل، معاقين ومعتوهين، أسرى ومفقودين، تشتت الأسر، وتفرق شمل الأحبة، وتنصب من الأحزان خيمة سوداء تظلل ضحاياها. صحيح أن للوطن حقا على أبنائه أن يفتدوه بالأرواح، ولكن من حق كل مواطن أن يشعر بإنسانيته وكرامته في وطنه، ثم إن الحرب التي تشن للصراع على السلطة، هي إهانة لكل مواطن واستخفاف به، وتضحية به من أجل أن يصعد البعض وإن على الجثث والجماجم.
    غاصت رواية «زقاق الجُمجُم» للعراقي بيات مرعي عميقا في دواخل أربع أرامل، في أحد أزقة مدينة الموصل؛ «زقاق الجُمجُم»، حيث تعيش هاتيك الأرامل ضحايا الحروب، بعد أن فقدن أزوجهن، ولم يرزقن بأولاد، أو ماتوا لسبب أو آخر، فعشن تحت رحمة أنياب الوحدة، ونار الحرمان من الزوج، والحنين إلى الولد، والخوف المعشش في أرواحهن وبيوتهن، فكن يتحايلن على كل ذلك بالهروب من أنفسهن والجلوس في الزقاق يتبادلن الحديث والحكايات والثرثرة طوال النهار وشطرا من الليل، يتحايلن على المعاناة والألم والخوف، على الوحدة والحرمان، ومطاردة الأفكار، وسيل الذكريات «يسبحن في بحر الحسرات بلا قرش ينهش انتظاراتهن الموحشة». تتكرر الأيام، وتتكرر الحكايات، ولا جديد.
    في جلساتهن اليومية، وبمشاركة جارتهن فتحية زوجة الحاج يونس، التي ما لبثت أن لحقتهن أرملة خامسة، يستعدن أيام الفرح، ذكريات الأهل والأحبة، قصص الزواج والفراق والموت، ليس أمامهن إلا الانتظار، بدون أمل، يتكدر صفوهن بسبب مناكفات بينهن، لكن، سرعان ما يُنسى كل شيء، ويتبادلن ابتسامات بلا حياة؛ فليس لهن في النهاية إلا بعضهن بعضا، في زقاقهن الضيق المغلق، ضيق حياتهن وانسدادها.

    تترك الحرب ندوبا لا تزول وجراحا لا تندمل؛ تترك أيتاما وثكالى وأرامل، معاقين ومعتوهين، أسرى ومفقودين، تشتت الأسر، وتفرق شمل الأحبة، وتنصب من الأحزان خيمة سوداء تظلل ضحاياها.

    وكان لافتا في الرواية التصوير الدقيق للوحدة التي تعاني منها الأرامل بقسوة، والتعبير عنها بإبداع، لكأن القارئ يتصور هذه المعاناة، بل ويتشاركها معهن، ويتألم لألمهن، ويتمنى لو كان بيده شيء ليخفف من سطوتها وحدتها وسياطها اللاهبة. تنهش أنياب الوحدة أرامل الزقاق، خاصة في الليل؛ إذا يعدن إلى أسرتهن مضطرات مهزومات: «تمر ساعات الليل على زقاق الجمجم مثل ساعات الكثير من الليالي الماضية، ما زالت نساء الزقاق يسرحن في أحلامهن وشكاواهن المدفونة في صدورهن. تعلق كل منهن نظراتها على نافذة حجرتها عسى أن يحط ذلك الطائر الوفي الذي يحلق في سماء أمنياتهن حاملا رسالة غائب عزيز، إلا أن شكاواهن كقطع ثلج على صفيح ساخن».
    إن الوحدة عذاب لا يتصوره إلا من كابده، خاصة إذا كان لا أمل في أن يتبدد: «في ساعات كثيرة تتمثل الوحدة عصا تضرب الجسد المبلل بالمطر. حيث لا حديث للأرامل سوى الأسى، ما الذي يعنيه أن يكون المرء سجين ذكريات حزينة؟» تخاطب مهدية زوجها الميت/المفقود، بعد أن قبلت بالزواج من إبراهيم الحمال، تشكو الوحدة: «لقد مزقتني وحدتي يا حسن، أتعرف ما هي الوحدة؟ إنها حبل التف حول عنقي ليجرني إلى عتبة الخوف والضياع، الخوف من مجيء يوم أعجز فيه عن فعل أي شيء».
    في وقت متزامن تفقد الحجية نوفة قطها الأسود أنيس وحدتها وشريكها، ويغيب عبود شقيق مديحة الذي كان رغم جنونه بسبب الحرب، يخفف عنها ويشعرها بوجود رجل في حياتها، وإن كان يتعبها ويبكيها ويحملها عنتا ومشقة. تخاطب الحجية نوفة قطها الغائب: «لقد نلت من الدلال ما لم ينله غيرك. كنت تنام في فراشي الذي لم ينم فيه جسد غير جسدي بعد رحيل زوجي عبدالرحمن. لقد أحببتك كثيرا، فقد ملأت لي فراغا حتى أخذت أشعر بأنني لست الوحيدة في هذا البيت.. (تبكي) هل نويت تركي؟ أين أنت الآن؟ تعال أغسل لك فروك الأسود الجميل، سأعطرك بعطري، أين أنت الآن؟»، ولقد مرضت لغيابه «فلم يعد أحد يملأ وحدتها ويؤنسها في ليلها الطويل»، وتقول: «لقد عشت مآسي تهز أعتى الرجال. ولم يتعبني شيء إلا هذه الوحدة القاتلة التي كان الأسود يملؤها حين أداعبه».
    أما مديحه، فتخاطب أخاها الغائب: «تعال يا عبود، أنا راضية بجنونك، تعال لنرتب الأيام المتبقية معا. تعال أيها الجسد المعلول، يا قلبا كبيرا يجيد حب كل الناس»، وتستذكر: «لم أكن أشعر بأنني وحدي في البيت، بل كنت أشعر بأنني رفقة رجل، ينام في الليل بالقرب مني وأحس بصوت أنفاسه في غرفة نومي وبنبض خديه على وسادتي، حينها تهدأ روحي وتقر بالنوم»، وبقيت تنتظره على عتبة البيت، وبحثت عنه في كل مكان، بدون أن تعثر له على أثر، فانكفأت على نفسها حزينة ملتاعة تغالب دموعا حبيسة، وبعد ثلاثة أسابيع من الغياب جاءها عبود جثة منتفخة؛ «فنثرت التراب على رأسها عند قبره، ثم أغلقت باب غرفتها تبكي وحيدة وتتذكر طفولتهما، كان عبود كالصنم المتصدع والأمل الأخضر الوحيد في حياتها، الذي يمكنه أن ينقذها من وحدتها القاتلة، لكن الحرب اللعينة وأدخنتها السوداء أسقطت بساط ريح أحلامها».
    تصور رواية «زقاق الجُمجُم» نموذجا عراقيا يمكن تعميمه على جميع أرجاء العراق، فما «زقاق الجمجم» إلا العراق كله، المحاصر، المتعب، المرهق، المحارب، الذي يتعرض للمؤامرات لإضعافه والتحكم بمقدراته، هذا العراق العظيم الذي احتضن أزهى وأعظم الحضارات على مرّ التاريخ، ولذا فكل أعداء العراق يتآمرون أن لا يعود العراق كما كان، بل بلدا مشتتا ممزقا بالخلافات والصراعات والتحارب الداخلي، وتحت رحمة الأعداء، وبعضهم في ثوب أصدقاء.
    تناولت الرواية آثار الحرب على الجميع، خاصة النساء اللواتي فقدن الأب والزوج والمعيل، وتناولت معاناة هؤلاء النسوة ووحدتهن القاسية وحرمانهن اللاهب، كما سلطت الضوء على مجتمع الموصل، والمقاومة الشعبية للغزو الأمريكي، وسرقة الآثار، والتكاتف الإسلامي المسيحي، وأهمية علاقات الجوار، ودور المقهى كمنبر للإعلام والحوار.
    وبعد؛ فإن «زقاق الجُمجُم، عمّان: دار الآن ناشرون وموزعون، 2021، 232 صفحة»، يمكن اعتبارها رواية حرب، أو رواية مكان، أو رواية اجتماعية، أو رواية مشاعر وآلام، ولكنها على أي حال، رواية عميقة، متشعبة، فتحت كثيرا من الجروح والدمامل؛ لتنظف وتعالج بشكل صحيح، بعيدا عن المداهنة والخداع ووضع الرؤوس في الرمال، وهي تتبنى وجهة النظر الثانية لما جرى ويجري في العراق، وترفض الغزو الأمريكي وما ترتب عليه.
    يذكر أن بيات مرعي كاتب ومخرج مسرحي عراقي، صدر له عدد من النصوص والمجموعات المسرحية، وكتب مجموعة من سيناريوهات الأفلام، ونشر مجموعتين قصصيتين هما: «ما أتلفته الرفوف»، و«الخيول الحريفونية»، ورواية بعنوان «طعنة برد»، ونال عددا من الجوائز والتكريمات.