محمود قرني
تتبدى معركة الشاعر طالب المعمري مع الشعر في ديوانه الجديد «أيام بمفاتيح صدئة» (الصادر عن الجمعية العمانية للكتاب والأدباء بالاشتراك مع دار «الآن» الأردنية) من ناحية هو قيمة جمالية؛ إذ تنخرط قصائده في السياسة لكنها تبدو أكبر من الشعارية، وتنخرط في الصراع مع المكان، تجرح هيبته لكنها تتمناه، تحتفي بالغنائية لكنها تقطرها بحيث لا يتحول النص إلى أناشيد منبرية، تحتفي باللغة في بساطتها لكنها تحدد مساحات تأويلها، تصارع الوقت وتقطعه وتسخر منه وترفضه أحيانًا ويبدو هنا امتياز الشاعر في الجمع داخل الشكل الشعري بين متناقضات العالم الواحد.
وسيتجلى لنا من عنوان الديوان ثيمتان أساسيتان؛ أولاهما العلاقة بالمكان وثانيتهما العلاقة بالزمن. وربما يصف الشاعر نفسه بأنه صاحب ديوان غاضب، وهذا صحيح في الإجمال لكننا لن نترك تلك المفردة على عواهنها؛ لأنها قد تحيل قصائد الديوان إلى منشور سياسي في حين هي ليست كذلك. فالغضب الذي يتبناه الشاعر الحداثي حسب أرشيبالد ماكليش يعني أن «تصوراته تنطوي على جوع فطري لما هو ضد العالم».
طالب المعمري
لكن تفسير تلك الضدية يبدو تعبيرًا عن رفض الشاعر فكرة التكيف التي يسعى المجتمع الحديث إلى إدراج البشر جميعهم في آلتها الساحقة. فالأيام عند المعمري لا تملك إلا مفاتيح صدئة، وربما كان العدم هو المرادف الحقيقي الذي لم يقله الشاعر هنا، وإنما يفصح عنه ما وراء العنوان. وإذا تأملنا البيت الذي صدر به الشاعر ديوانه سنجد أنه تاريخيًّا مكتوب في القرن الخامس الهجري وهو للشاعر «أبزون» العماني، وجماليًّا ينتمي لأكثر الأشكال الشعرية التقليدية وهو العمود الشعري وهو ما يعني انفتاح الشاعر ونصه على الماضي والحاضر في آن، لكن مضمون البيت الذي اختاره المعمري يبدو مثيرًا للضحك لفرط مأساويته وفرط فيوضه التعبيرية: «فكأنما الدنيا يدا متحرز/ وكأنني فيها وديعة سارق» وهو تصور مفزع للواقع الإنساني ربما تجاوز قول امرئ القيس: «لقد طوفت في الآفاق حتى.. رضيت من الغنيمة بالإياب» فالدنيا على قول «أبزون» يدا قابض مرتجف خائف على أحرازه والشاعر وديعة بين يدي لص، على ما في حال المتحرز واللص من خوف يبدو غريزيًّا حد الموت. هذا المناخ تشتد فيه فكرة الرفض أو الغضب كما يراها الشاعر.
صوت الجماعة صوت الفرد
فهو يرى، في واحدة من شهاداته على الشعر، أن «الصحراء الواسعة التي نسميها الحياة، تقود الكائن البشري إلى الهلاك بالتخريب والتخلف والنكوص والحروب والعولمة»، ومع ذلك يظل الشعر من وجهة نظر المعمري «صوت الجماعة كما هو صوت الفرد في كينونته الخاصة ووجوده الأصيل بعيدًا عن قافلة الجماعة وابتلاعها له». من هذا المنظور يتعزز مفهوم الذات المفردة التي تختصر الذاتيات الكمية داخلها لدى الشاعر حيث إن ما يبدو مأزقًا ينحو إلى المحنة الشخصية يبدو على أنه محنتنا جميعًا سواء كانت تلك المحنة وليدة لحظتنا أو وليدة الماضي، ومن هنا، فإننا نعيش الماضي كزمنٍ موصول لا يمكن قطعه أو استئصاله من الذاكرة؛ لأنه زمن لا يقطع الصلة بنموذجه الأصلي الذي نبت منه أو وُلِدَ في حجره على حد قول «أوكتافيو باث».
وعندما نتتبع فكرة الزمن في الديوان سنجدها تأخذ معنى المحنة الذاتية لكنها تتعدد في تجلياتها بحيث تصبح هي نفسها محنة الجماعة البشرية التي يتحدث الشاعر باسمها، ومن ثم سنجدها تُراوِح بين الزمن المتناهي والزمن اللامتناهي. والجماعة في قصيدة النثر هي أيضًا جماعة ضمنية تشمل الإنسان في كل مكان. والزمن على سبيل المثال في قصيدة «يأتيك الوقت» ص 10 يبدو تعبيرًا سافرًا عن إيقاع عصر المدنية الساحق. يقول الشاعر: «يأتي الوقت إليك/ هل ستسامحه/ ليعبر حياتك/ ستراه أحمق وجبانًا/ يمضي كبلدوزر أميركي/ يحث خطاه نحوك» وهكذا يتبدي تعبير الزمن في ارتباطه بمفردة بلدوزر أميركي حيث إن أميركا تمثل صور المدنية الساحقة والمهيمنة على كل بقاع الأرض تقريبًا، فتبدو شريكًا للشاعر في زمنه أو على الأقل هي عامل من عوامل محدداته، وهو ما يرفضه الشعر والشاعر معًا حيث يبدو متأبِّيًا على التنميط أو الانسحاق.
أما الزمن في قصيدة «رماد» فهو زمن قديم يبدو قابلًا للتكرار حسب مفهوم الزمن الدائري عند القديس «أوغسطين»، ربما لارتباطه بإيقاع الصحراء والصخور الجرداء وهي بطبيعتها ملامح قديمة، ومن ثم فتظل قابلة للاستعادة. يقول الشاعر: «ككومة حجر/ هو الوقت/ الصخور الجرداء تعرفك كظلها/ وتعرف من ظلها جرح الانتظار/ من أين يأتي الجديد/ صحراء صحراء صحراء/ أرواح مليئة بالرمل». سنجد أيضًا الزمن في قصيدة «جدار»، يبدو تعبيرًا مخيفًا عن العجز بينما تمرُّ الأيام من بين أيدينا ولا نملك لها استيقافًا، يقول الشاعر: «لا تعد الوقت/ الحياة طفولة تشيخ/ كعجين في يد خباز ماهر». أما في قصيدة «بلا»، فيبدو الزمن تأكيدًا على الإرادة المستلبة أمام عنف الواقع وسحقه لإنسانية الإنسان حيث لا يبدو الشاعر إلا مسمارًا من عالم الجمادات يؤدي دوره ضمن آلة ساحقة، يقول الشاعر طالب المعمري: «يتدحرج الوقت بك/ وأنت مسمار في جنزير/ الوقت بلا رأس وأنت فيه». أيضًا لا تخرج قصيدة «قبل أن يـأتي الغزاة»، عن لعبة الزمن تلك؛ إذ يعيدنا النص بنعومته وبساطته الآسرة إلى قصيدة «في انتظار البرابرة لليوناني قسطنطين كفافيس غير أن برابرة المعمري كانت قد قذفت بهم بالفعل سفينة نفايات على الشاطئ، على ما في مفردتي سفينة النفايات من دلالة، بينما برابرة كفافيس ما زالوا بعيدين لكن المدينة تنتظرهم ولا تفعل شيئًا غير الانتظار. ويبدو المردود الثوري في روحية النص المعمري فائضًا؛ لأن المدينة بالفعل تغلق أبوابها أمام من عدُّوها ماخورًا أو مسرحًا لحكايات فلكلورية.
تجليات المكان
أما تجليات المكان لدى طالب المعمري فهي تأخذنا بعيدًا من فكرة الأطلال والمنازل الدارِسة إلى تصورات يتبدى فيها الوجود الإنساني ناقصًا من دون المكان بوصفه بوتقة من بوتقات التخييل ومن ثم فهو جزء من معرفية النص الشعري الذي يتناوله، ليتحول المكان إلى نوع من المعرفة التاريخية. وإذا تأملنا نصًّا من أهم وأطول نصوص الديوان وهو «بحر الباطنة» سنجد أنه يمثل أعلى تعبيرات تلك الذات المنقسمة بين ماضٍ حميم صنع مخيلة الشاعر وصار جزءًا من حقيبة ذكرياته وحاضر بائس تجف فيه المياه كمعادل لجفاف المخيلة والذاكرة الإنسانية يقول الشاعر: «لم يعد من اسمك شيء/ بحرك لم يعد يعانق شمس طفولتنا»، ثم يعمق شعوره ذاك ببعض الغنائية التي تجعل الذكرى نشيدًا محببًا وتمثيلًا لترجيع إنساني حزين عندما يقول: «يا بحر الباطنة/ ذبلت زرقتك/ في أغصان القلب».
ثم يقول: «أنا المعترف بالحب/ جف ماء الكلام بقلبي/ وحين غربت شمسك/ انطفأ القمر/ لا آهات ولا أنين». أيضًا ينطبق التصور نفسه على قصيدة نجمة الليل البعيدة التي يتتبع فيها الشاعر خطى شاعرين من الصعاليك هما النابغة الذبياني وبشار بن برد. المكان إذن ليس مساحة من الأبعاد الهندسية على ما نرى في النص لكنه أبعد من ذلك إذا وضعناه في إطار التصور الجمالي للفن، وهو ما عمل الشاعر على تعميقه على مستوى الديوان منذ قصيدته الأولى حتى نصه الأخير.
وفي النهاية لا بد من القول: إن الشاعر طالب المعمري استطاع أن يضيف لرصيد قصيدة النثر العمانية والعربية على السواء ديوانًا يستحق الانتباه.