حنان عقيل
تصاعد الاهتمام بالكتابة عن الذكاء الاصطناعى وتطبيقاته المستقبلية والراهنة وما سينجم عنه من تغيرات فى خارطة المستقبل على شتى الأصعدة يومًا بعد الآخر. فثمة تغيرات تبدأ من مستوى السياسات الدولية وأشكال الصراعات فى العالم وتصل إلى المستوى الإنسانى واليومى المعيش الذى يستدعى التفكير فى أسس أخلاقية جديدة، يمكن عبرها الحفاظ على إنسانية البشر وقتما تسود الآلة وتتسيد.
فى كتاب «الذكاء الاصطناعى والصراع الإمبريالى»، الصادر حديثًا عن دار «الآن ناشرون وموزعون بالأردن»، يسلط الكاتب الفلسطينى مهدى حنا الضوء على تطبيقات وتقنيات الذكاء الاصطناعى على صعيد تأثيرها فى طبيعة الصراعات بين الدول لا سيما بين الولايات المتحدة والصين، انطلاقًا من الوضعية الراهنة التى يتصاعد فيها أفق الصراع بين البلدين ليجعل التساؤل حول «من سيقود العالم فى السنوات المقبلة» يحوم باستمرار فى الأفق.
ورغم ما يُمثله التقدم التكنولوجى فى تقنيات الجيل الخامس تحديدًا من أهمية على مستوى تحديد أشكال الصراع العالمية فى المستقبل، فإنه قد يحمل آثارًا وخيمة على الغالبية العظمى من الطبقات الكادحة، فاستثمار التطور التقنى لجنى المزيد من الأموال سيقود إلى استغناء غير قليل عن العمالة التى ستواجه معضلات إنسانية وأخلاقية عدة.
يبدأ «حنا» كتابه بالوقوف على مفهوم الجيل الخامس وعلاقته بالذكاء الاصطناعى، فيوضح أن الذكاء الاصطناعى تدعمه شبكات الجيل الخامس التى بدأ الترويج لها بدءًا من العام ٢٠١٩، مع إعلان بعض الدول عن البدء بمشروعات تطوير شبكاتها للانتقال من الجيل الرابع إلى الجيل الخامس كالصين واليابان وكوريا، المبنى على معيار جديد طوّره الاتحاد الدولى للاتصالات لإحداث ثورة فى عالم الاتصالات.
ومع الأهمية التى يمثلها «الجيل الخامس» كثورة فى عالم الاتصالات، فإنه يقود إلى ثورة فى كل المجالات؛ إذ يعد الجيل الخامس عصب الاقتصاد فى القرن الواحد والعشرين، خاصة مع ما ستتيحه تقنيات الذكاء الاصطناعى المدعومة بشبكات الجيل الخامس من تغير فى بيئات العمل التى ستقوم فيها الأجهزة والتقنيات المتطورة بالأعمال نيابة عن البشر.
ونظرًا لما تمثله تكنولوجيا الجيل الخامس من أهمية كبرى، فالكاتب الفلسطينى يشير فى كتابه إلى أن الرغبة فى احتكار تلك التكنولوجيا بكل ما ينتج عنها من تطبيقات على رأسها الذكاء الاصطناعى هو الذى سيحدد طبيعة الصراعات بل الحروب المستقبليّة؛ فمن سيملك التحكم الكامل فى تكنولوجيا الجيل الخامس سيكون بمقدوره السيطرة على الاحتكارات الخمسة الرئيسية للرأسمالية وهى: التكنولوجيا والنظم المالية والموارد والإعلام وأسلحة الدمار الشامل.
ولأن الرأسمالية تهدف فى المقام الأول إلى زيادة أرباحها بزيادة الإنتاج وخلق قوة شرائية فى دول العالم عن طريق فتح الأسواق، فسيتجه الصراع بشكل أساسى لمحاولة تطوير التقنيات العلمية القادرة على التحكم فى الصناعات المختلفة، فاستخدام الذكاء الاصطناعى من شأنه أن يقلل تكاليف الإنتاج بما يقلل من أعداد العمالة وإن كان لذلك عواقبه الوخيمة بشكل ما على المستويين الاجتماعى والإنسانى.
ويفصل الكاتب طبيعة العلاقات الأمريكية الصينية منذ بدايتها فى سبعينيات القرن الماضى حينما أرادت الصين تطوير صناعتها وكسب الخبرات والمعلومات من الغرب، آنذاك لم ترَ أمريكا فى الصين سوى سوق تجارية مهمة فى شرق آسيا، أما من الناحية السياسية فلم يتوقع صناع السياسة الأمريكية أن الصين ستصبح قوة اقتصادية مزاحمة خلال ثلاثة عقود، ولكن حينما استشعرت الولايات المتحدة الخطر نشرت وثيقة مهمة بعنوان «التوجه الاستراتيجى للدفاع» للحيلولة دون قيام أى قوة عظمى تنافس الولايات المتحدة فى زعامة العالم، لكن حدة الصراع تزايدت مع سعى الولايات المتحدة إلى تطويق الصين استراتيجيًا وسياسيًا واقتصاديًا.
تمكنت الصين عبر السنوات الماضية من إحراز تقدم كبير فى مجال تكنولوجيا الذكاء الاصطناعى، وهو ما أسهم فى تأجيج الهجوم الأمريكى عليها فى محاولة تحجيم إمكانية تفوق أو احتكار الصين المستقبلى لتلك التكنولوددجيا التى تقف فيها الصين راهنًا على أرض صلدة بعدما حققت نجاحات عدة جعلتها منافسًا متقدمًا على الولايات المتحدة.
ويلفت الكاتب إلى أن الصراع المستقبلى بين الدول الرأسمالية على حق قيادة العالم غير مسبوق، فهى ليست حرب مدافع وإنما هى حرب بين الرأسمالية المتهالكة والرأسمالية المتطورة الصاعدة، لا سيّما أن الولايات المتحدة تعتبر تقنيات الجيل الخامس التحدى الحقيقى لهذا القرن؛ فمن يملكها سيبسط هيمنته على العالم، خاصة وأن الصراع الرأسمالى الحديث سيُمكن الرأسمالية من ملكية وسائل الإنتاج وأدواتها عبر استبدال آليات الذكاء الاصطناعى بالبشر والتحكم فى علاقات الإنتاج.
يذكر «حنا» فى حديثه عن أوجه التفوق الصينى فى تطوير شبكات الجيل الخامس أن شركة «هواوى» الصينية تتفوق فى مجال الاتصالات على نظيرتيها الأوروبيتين نوكيا وإريكسون ككبرى الشركات فى العالم للمعدات السلكية واللاسلكية؛ إذ تتبوأ المركز الأول من حيث قدراتها التقنية المتطورة وحجم براءات الاختراع والميزانيات الضخمة التى رصدتها، كما أنها الشركة الوحيدة فى العالم التى تملك التقنيات اللازمة لبناء الشبكات وتزويدها بالأجهزة والنظم دون الاستعانة بشركة أخرى من خارجها، فضلًا عن تأسيس الصين لشركات عملاقة فى المجالات كلها غزت من خلالها الأسواق العالمية.
ورغم إخفاق شركة «هواوى» مع بداية الألفية الجديدة فى سباقها مع الغرب فيما يخص شبكات الجيل الرابع، فإنها تتفوق راهنًا فى تكنولوجيا الجيل الخامس، وهو ما يتضح من إحصائيات المنظمة العالمية للملكية الفكرية لبراءات الاختراع التى أظهرت تقدُم الصين فى العام ٢٠١٩ بواقع ٢٦٥ ألف إيداع دولى لبراءات الاختراع لتحتفظ بالصدارة متفوقة على سائر البلدان الغربية.
ذلك الوضع الذى تحتل فيه الصين مكانة متفوقة فى البحث التكنولوجى لتقنيات الجيل الخامس جعل الولايات المتحدة الأمريكية فى قلق مستمر، لا سيّما أن الصين باتت فى تفوق اقتصادى يجعلها أدنى إلى الاقتصاد الأمريكى، فى الوقت الذى بقى فيه الاتحاد الأوروبى خارج المنافسة مع تبعيته المطلقة للسياسات الأمريكية.
يؤكد الكاتب أن الولايات المتحدة لن تقبل الهزيمة أو تنحو نحو الاستسلام لكنها ستبذل جهدها لإفشال المساعى الصينية فى النهوض والمنافسة قائلًا: «لعل جائحة كورونا خير دليل على ما آل إليه التوحش الرأسمالى الأمريكى فى عدوانيته المفرطة. إن تطوير الفيروس بمثابة إعلام حرب بطرق جديدة أقل كلفة مع الحروب المباشرة، فقد تكشفت العديد من الحقائق التى تثبت تورط الولايات المتحدة فى ذلك بغية عرقلة مشوار صعود الاقتصاد الصينى العملاق وتكبيده الكثير من الخسائر».
ويشرع الكاتب فى توضيح السُبل التى تنتهجها «أمريكا» لعرقلة التقدم الصينى، فيشير إلى حرصها على إبقاء حالة الفتن فى ثلاث بؤر توتر فى المنطقة الآسيوية متعلقة بالصين وهى: النزاع الصينى حول تايوان، الصراع حول جزر بارسيل وسبراتلى فى بحر الصين الجنوبى، وكذلك العداوة التاريخية بين الصين واليابان، بالإضافة إلى القلق الأمريكى من مشروع إعادة إنشاء طريق الحرير الرابط بين الصين والغرب لما يمثله من تهديد مباشر لمصالحها.
ويرى الكاتب أن الصين دولة غير معادية بطبعها، وأن سعيها لتطوير التكنولوجيا الرقمية أو التفوق الاقتصادى تهدف من خلاله إلى حماية الأمن القومى الصينى من أى اعتداء وتعزيز مقدرتها على الدفاع حال تعرضها للهجوم أو التعدى، فالرهان فى القرن الواحد والعشرين قائم على عمليات الشد والحذب الاقتصادية والاستراتيجية فى العلوم والتكنولوجيا بين الصين وأمريكا، كما أن ذلك الصراع سيكون مرهونًا بالخيار الذى تتخذه «روسيا» خاصة أن لها دورًا فاعلًا فى هذا المجال.