خديجة مسروق
حين تعثر على الجمال في قلبك، ستعثر عليه في كلّ قلب. جمال المرء الداخلي تترجمه أفعاله بالإحسان للآخرين، فيقرأ هذا الجمال في وجوههم.
تنقل زينب السعود، وفق رؤية أدبية تستمدّ فنّيتها وقوتها من الواقع الإنساني، صورة عن تجربة الحرب التي اندلعت بين روسيا وأوكرانيا عام 2022. إذ تتحدث في روايتها “الحرب التي أحرقت تولستوي” عن القيم الإنسانية التي نكاد نفقدها اليوم بفعل أنانيتنا وجشعنا.
عنوان الرواية الصادرة عن “الآن ناشرون وموزعون” (2023) يحيل القارئ إلى رواية “الحرب والسلم” للروائي الروسي تولستوي، تلك التي أرّخ فيها للحرب الروسية، وها هي بلاده في الوقت الراهن تشهد حربا جديدة مع أوكرانيا.
الرواية جاءت محايثة للأحداث المتعلقة بالحرب الروسية الأوكرانية، إذ نقلت صور واقعية عن عمليات القصف التي كانت لا تستثني شيئا، فكل شيء متوفر في تلك الحرب إلا الأخلاق.
مجموعة من الشخصيات تتحرك داخل الرواية. جمانة أم لطفلين متزوجة من يوسف، صحفي بدأ عمله محررا في صحيفة أسبوعية. يعود كل يوم بعد ساعات عمله ليتقاسم مع زوجته ما تبقى من ساعات اليوم. كبر طموح يوسف فراحَ يتنقل عبر الأماكن المحفوفة بالمخاطر كمراسل صحفي لتغطية الأحداث من قلب المكان، من ليبيا إلى سوريا إلى أربيل الكردستانية شمال العراق. إلى أن استُدعي للعمل بأوروبا الشرقية لتغطية الأحداث المستجدة هناك. ولتحقيق طموحاته قبل بالمغامرة، فكانت أوكرانيا وجهته. عمل يوسف الميداني المحفوف بالمخاطر أفقده الشعور بالاستقرار. فقد كان يؤدي مهمته تحت نيران القصف حين اشتعلت الحرب بين روسيا وأوكرانيا. كانت زوجته وطفلاه يرونه من خلال شاشة التلفاز فقط. يغيب عنهم شهورا طويلة تلبيةً لشغفه المهني تاركا جميع مسؤولياته تجاه أسرته وراء ظهره.
يوسف نموذج الصحفي الناجح في أداء مهمته الإعلامية بكل أمانة، لكنه فشل كأب وكزوج في منح الدفء لأبنائه وتحقيق السعادة التي تنتظرها منه أسرته. كان يوفر لهم مطالبهم المادية وحرمهم من عطفه ورعايته. أحيانا يتصرف الآباء بأنانية، يمضي الزوج في تحقيق طموحه على حساب أبنائه وأسرته. وترغب الزوجة هي الأخرى في تحقيق ذاتها ويصبح الأبناء آخر أولويات الوالدين.
جمانة ترى بأن داخلها طاقة إبداعية لكتابة الشعر، ونداء الذات يدعوها لتفجير تلك الطاقة. تحتاج إلى جمهور يستمع إليها ويصفق لإبداعها. ومسؤولية الأبناء بالنسبة لها لا يمكن أن تتحملها وحدها. ترى أن زوجها أنانيّ حين ينطلق في تحقيق طموحاته ولا يفكر في طموحاتها هي كامرأة مثقفة تبحث هي الأخرى عن تحقيق ذاتها. كما ترى أن أنانيته أنسته أولوياته بالبقاء قرب طفليه وزوجته. وحاول هو من طرفه أن يعوضهم بالمال، فقد كان يرسل لهم النقود حتى لا يشعروا بالحرمان. فهل يمكن أن يعوضهم المال عن غيابه؟
جمانة رغم نجاحها في عملها مُدرّسة، إلا أنها لا تشعر بالسعادة إطلاقا. تبحث عن الراحة لها ولطفليها، تريد كتفا تستند إليها، أو يدا تنتشلها من حالة القلق التي تلازمها من الخوف من المجهول.
“الحرب التي أحرقت تولستوي” تنقل للقارئ مشاهد القصف التي عصفت بها رياح الحرب التي دارت رحاها بين قوتين عظميَين في أوروبا الشرقية، والمأساة يتحمل وزرها شعوب العالم الثالث. تتحدث عن أوضاع الطلبة (الأطباء) العرب والأفارقة الذين يدْرسون في جامعة كييف الأوكرانية، المدينة التي كانت تعيش حياة طبيعية وفجأة صارت تُقصف بالطائرات الحربية. كان هؤلاء الطلبة يقيمون هروبا من القصف في مخابئ لا تتوفر على أبسط المرافق الضرورية، بينما تخصص للأوكرانيين أماكن مجهزة بكل الضروريات.
تصف الرواية مظاهر الميز العنصري الذي طبع معاملة الأوكرانيين تجاه العرب والأفارقة خلال الحرب. صورت الرواية مشهدا عن ذلك، حين كان الطلبة العرب يريدون مغادرة منطقة الحرب والتوجه للحدود البولندية ليتمكنوا من العودة إلى بلدانهم، كانت الحافلة لا تنقل إلا الأوكرانيين وتم إنزالهم جميعا منها، فقد كان الأوكرانيون يحرصون على إنقاذ أرواح أبناء جلدتهم ولا تعنيهم جاليات العالم الثالث. قانون الإنسانية عندهم يرى في الآخر مجرد رقم يحيا أو يموت.
أرادت الروائية أن تنقل مشاهد عن صور التآزر والمشاعر الإنسانية التي تراها في العرب، لا سيما في الأزمات، تمثلت في المساعدات التي كان الطلبة (الأطباء) العرب يقدمونها لبعضهم البعض ولكل من يرونه بحاجة إلى المساعدة من مختلف الجاليات بمن فيهم الأوكرانيون. والدكتور معاذ كان نموذجا للطبيب المثالي الذي يتصف بالقيم الإنسانية الحقّة في إسعافاته الكبيرة التي كان يقدمها للمصابين على اختلاف جنسياتهم.
اختارت الروائية سردية مباشرة استغنت فيها عن اللغة الرسمية المعقّدة التي يصعب على القارئ فهمها. أوكلت مهمة صوت السرد للسارد العليم لعرض مشاهد الرواية كما في الواقع، بشكل تناوبي متقطع مع وصفه الدقيق لتحركات شخصيات الرواية.
الروائية لم تتخلص من مشاعرها الذاتية، فانتصارها للعرب يبدو جليا، إذ بالغت في وصف مظاهر الإيثار التي ظهر بها الطلبة العرب في أوكرانيا أيام الحرب، فكان الواحد منهم يقدم مصلحة الآخرين على مصلحته الشخصية بكل مثالية، وهذه صفة ملائكية لا يبلغها البشر خاصة في عصرنا هذا.
ما نلحظه عن علاقة جمانة ويوسف، أن المرأة والرجل يكملان بعضهما البعض، فلا يمكن للمرأة أن تتحمل أعباء الحياة بمفردها، ولا الرجل أيضا. كانت شخصية جمانة متوترة تبدو هشة المشاعر لابتعاد الزوج عنها. كما يظهر يوسف الزوج الناجح في عمله مضطربا تبدو عليه علامات القلق دائما، يشعر بفراغ روحي سببه بعده عن زوجته وطفليه.
“الحرب التي أحرقت تولستوي” صورت لنا أنانية البشر، وكيف تصبح الإنسانية شيئا ثانويا بالنسبة للأنانيين الذين لا تعنيهم إلا مصالحهم الشخصية.