الزعبي و«رواية الفصول الأربعة»

الزعبي و«رواية الفصول الأربعة»


class="inline-block portfolio-desc">portfolio

text

    إبراهيم خليل

    بعد مجموعاته (الموت والزيتون) 1995 و(ورقة واحدة لا تكفي) 2002 و(دم الكلب) 2003 و(تقاسيم المدن المتعبة) 2007 و(أناملي التي تحترق) 1008 و(الشمس تشرق غربا) تصدر للكاتب المترجم د. باسم الزعبي مجموعة قصص جديدة بعنوان مثير للانتباه والالتباس. فهو مثلما جاء على الغلاف (رواية الفصول الأربعة) [دار الآن، عمان: 2018] وذلك لأن هذا العنوان يحسبه القارئ عنوان رواية لا مجموعة قصص. بيد أن القارئ ما إن يتصفح الفهرس حتى يكتشف أن إحدى القصص في الكتاب بعنوان «رواية الفصول الأربعة» (ص55).
    روائي:
    وحكاية هذه القصة، وعنوانها، راجعان إلى كون السارد –أو بطل الحكاية بكلمة أدق- يحلم بكتابة رواية، كأي كاتب مخضرم يريد أن يكون له موطئ قدم في ميدان الأدب الروائي، طامحًا للفوز بجائزة البوكر، أو كتارا على الأقل، أو أي جائزة أخرى باسم محسن قطان، أو أي اسم مجهول لم يسْمع به أحد.
    لكنه كلما أمسك بالقلم ليكتب، شغله شاغلٌ عن المضي فيما يعتزم كتابته، وليؤجل ذلك. فإن كان الفصل صيفا وقرر أن يفرغ ما في مخيلته من أحداث في الأوراق، اضطر للتأجيل من الصيف إلى الخريف، ومن الخريف إلى الشتاء، ومن هذا إلى الربيع، ثم الصيف. فبطله -وهو محامٍ- يعاني أزمات نفسية، وبيئية داخل المنزل، واجتماعية في إطار التنظيمات السياسية، والحزبية، فيضطر بعد أن يعد نفسه إعدادا كاملا للكتابة: القهوة، والأوراق، والأجواء الهادئة، والتلفاز، الذي يبث صورًا تحاكي مشهد انهيار الولايات المتحدة الأميركية على نحو ما انهار الاتحاد السوفياتي: «ما أجمل هذا! طويت أوراقي. ما حدث شيءٌ مهمٌ. سيغير مجرى التاريخ. والمنطق يقتضي أنْ يتغير مسارُ الرواية».
    فحدثٌ كهذا، وإن كان من باب التخييل، والوهم الجميل، يجعلُ من هذا الكاتب المخضرم كاتبا مُتَمسْمِرًا أمام الشاشة، فقد بات يدرك أن العهد الأميركي قد بدأ الآن. سيشنون حربا على أفغانستان. وتدور الدوائر على العراق. ويحبطون الحلم الفلسطيني.. فليؤجّلْ -إذن- كتابة الرواية إلى الفصل التالي: فصل الخريف.
    ويبدو أن الكاتب الزعبي يشير في هذه القصة لما يتداوله الكتّابُ من أحاديثَ، ومقابلاتٍ، يفصحون فيها عن خفايا ما يمرون به من أوضاع نفسية، وذهنية، كلما هموا بكتابة عمل أدبي جديد، أو سعوا لإتمام عمل أدبي سبق لهم أن بدؤوا بكتابته. فالمسألة ليست مزاحًا، ولا تسلية مثلما يظن البعض ممن ينشرون رواية في كل شهر أو شهرين. فكلما عزم هذا الكاتب على إنجاز فصل من فصول روايته، نجده يخضع لبعض الظروف التي لا يد له فيها، فتضطره للتأجيل، والتسويف، لا بل لتغيير ما كان ينوي كتابته استجابةً لما يجدُّ من أحداث، ومجريات. ويمر الشتاءُ، وينقضي ببرده القارس، دون أن يضيف لما كتبه سطرا جديدًا واحدًا. وتظن زوجته أنه نسي حكاية الرواية، وكتابتها، فتحمد الله، قائلة: «الحمد لله أنك نسيتَ موضوع الرواية، واسترحت».
    وكمن لسعته عقرب، انتفض السارد في وجه زوجته محتجًّا، وقال: لا لم أنسَ، إنما بطلي هو الذي يمر بأزمة. وفي الربيع عندما يكون الجو مناسبا سأقوم بكتابتها. ولكن الربيع، بجل ما فيه من دفء، لم يسمح للكاتب باستئناف عمله هذا. وذلك لأن المحامي-البطل- يمر بظروف أكثر تعقيدًا، وإرباكا، من ذي قبل. فالفضائيات من جهة، ومواقع التواصل الاجتماعي، من جهة أخرى، لا تفتأ تبث أخبارًا جديدة تجبر هذا البطل المأزوم –أساسًا- على تعديل مساره هنا، وموقفه هناك، والآن، كما في المستقبل، توقعاتٌ يمكن أن تغير كل شيء. ودارت دورة الفصول، وقدم الصيف مرة أخرى، والكاتب يشعر بشعور البطل المأزوم بالملل، لا بالكتابة، فحسب، بل من الحياة، والأخبار، وشد الأعصاب المشدودةِ أصلا.
    زمنُ الرواية:
    أي أنّ حكاية الفصول الأربعة مع هذا الروائي المتخيل توشكُ أن تقول بطريقة غير مباشرة –أو على الأرجح مباشرة- لقد ذهب الزمن الذي كان فيه الكاتب الروائي يجد وقتا كافيا، وظرفا ملائما، لكتابة روايته الكبيرة، مخترعا الأحداث، التي تقع في أزمنة متباعدة، مبتكرًا الشخوص الذين يقومون بأدوار الفاعلين في الجملة، ويوظفون الزمن مثلما يحلو لهم، ويحلو للكاتب من ورائهم. فقد بتنا نحيا في هذه الأيام المغبرَّة في عالم لا يسمح للكاتب، ولا لغيره، بالكتابة، والاختراع، والابتكار، على النحو الذي يضمن أن يكون عمله فيه بالصورة المتقنة التي يحلم بها، أو يخيل إليه أنه يحلم بها. فواقعُنا الذي نعيشه واقعٌ تهيمن عليه التكنولوجيا هيمنة تجعلنا عاجزين عن الكتابة المتقنة التي عرفنا أمثالا لها في كتابات المتقدِّمين من كبار الروائيين، والمسرحيين.
    ضجيجُ المدُن:
    من هذا المنطلق نقرأ قصة أخرى للزعبي في هذه المجموعة عنوانها «تقاسيمُ المدن المتعبة». وأظنها من القصص التي سبق للزعبي أنْ نشرها في مجموعة أخرى بهذا العنوان (2007). فالقصة، كالتي سبقت، صورة تتراءى لنا فيها المدينة بجل ما فيها من ضجيج، ومن متاعب. فثمة طابور من الناس ينتظر كل منهم دوره ليحظى بمقعد خاص في الحافلة (الباص) التي تنقل الركاب من المحطة، أو الموقف، إلى حيث الأحياءُ، والبيوت، ففي المدن الكبيرة لا يستطيع الناس الذهاب إلى أعمالهم، والعودة إلى بيوتهم، مشيًا على الأقدام، إلا نادرا. لذا يضطرون لاستخدام الحافلات التي تُقلُّ أعدادا كبيرة من الركاب -بين الخمسين والستين- في كلِّ رحلة تقوم بها من الموقف، وإليه.
    وهكذا يسلط المؤلف الضوء، في مشهد يستغرق بضع دقائق، على معاناة المئات ممن ينتظرون، وما يقع بينهم من تجاذب أحيانا، واختلافات على من هو صاحب الدور، ومن هو الذي اندس بين الصفوف مستحوذا على دور شخص آخر. وهذه فتاة مصونة، كأنها الجوهرة المكنونة، قد أثقلت وجهها بالمساحيق، وازدانت بقلائد الزمرد والعقيق، تقحم نفسها أمام شابٍّ معتدية على دوره، فلا يحتج، ولا يرتج، ولا يحرك ساكنا، ولا يسَكّن متحركا، مكتفيا بقليل من رائحة المساحيق العطرة المنعشة في هذا الجو الدَبِق الحارّ. والطريف اللافت أن الكاتب الزعبي لا تفوته ملاحظة أخرى، وهي تدافع المنتظرين، وتزاحمهم، على بابي الحافلة، تزاحما يحول دون نزول الركاب الذين جاءت بهم من الموقع المعاكس، مما يؤدي للمشاحنات التي تغدو، بعد التراشق بالكلمات، ضربًا بالأيدي، وركلا بالأقدام، وهات يا مشاجرات!. وقبيل انطلاق الحافلة يتماوج المنتظرون داخلها، وهم يتصايحون: «ليس دورك.. أنت لم تكن في الصف.. لا فائدة.. شعب فوضوي. لا يمكننا أن نتحضَّر. نحن بحاجة لمن يدوس على رؤوسنا بالبسطار ليعلمنا النظام..».
    استطراد:
    ومع أن المؤلف الزعبي نجح في توجيه الفكرة، وتصوير الحدث تصويرًا يثلج صدر القارئ، إلا أن الزيادة في المواقف، ودخول الشاب الواعظ الذي يحاضر في الركاب كمذيع من مقدمي البرامج التلفزيونية، وقدوم حافلة أخرى، وصراخه في الجميع « عَ الدور يا شباب! «. وتكرار السرد عما هو تزاحم جديد، متكرر، أثقلا القصة بما هو غير ضروري، فأفقداها عنصر، التركيز الذي هو أحد مزايا القصة القصيرة التي عرفت لدى كل من أنطون تشيخوف(1860- 1904) الروسي، وجي دي موباسان Maupassant (1850 – 1893) الفرنسي.
    الطريق إلى مروة:
    وفي قصة أخرى بعنوان «الطريق إلى مروة» يتجه المؤلف الزعبي اتجاها آخر، يُعنى فيه، ويهتمّ، بالشخصية، لا بالحدث. بشخصية السارد المتحدث، وبشخصية مروة « أتسمّر في مكاني. يسقط قلبي بين قدمي. لا. لا يمكن أن تكون مروة. الصدفة فقط هي ما يجعلها تشبهها. قصّة الشعر. التنورة. الجاكيت. لا. لا… أريد رؤية وجهها.. لا يمكن أن تكون مروة.. « ففي هذا المونولوج يصف المؤلف بطريقة غير مباشرة كلا من السارد المرتبك الذي يحار بين أن تكون الفتاة هي مروة أم لا، مثلما يصف لنا- في الوقت نفسه – مروة: قصة الشعر. والتنورة. والجاكيت.. وفي الوقت الذي ينكفئ فيه السارد على الذات، منتقلا من الخارجي إلى الداخلي، نجده في غير ذلك يحاكي بمروياته جولة الكاميرا في السيناريو، مسلسلا كان أم فيلما « تتجه الفتاة نحو المقصف.. مروة.. بوجهها المهموم.. الملوّح بالشمس.. أنفها العُصفوري.. عيناها العسليتان.. أهمس: مروة.. وأتسمَّر مكاني. «
    فالكاتب يضيف في حكايته هذه ألوانا من التنوع بين حوار داخلي، أو مناجاة، وسارد يحاكي بمروياته جولة الكاميرا، ويضفي على القصة شيئا من التركيب الذي لا نجده في قصته « تقاسيم المدن المتعبة». ولا في «رواية الفصول الأربعة». وهذا يذكرنا بقصة له جيدة عنوانها «خبزُ الصباح».
    اللعنة على الشيطان»
    فخبز الصباح هي إحدى قصص مجموعته «الشمس تشرق غربا» (2012) ففيها يجري التركيز من الكلمة الأولى على بطل القصة، الذي ضنّ علينا باسمه. لكنه كنى عنه بالضمير الغائب المتكرر «زوجته إلى جانبة» و»ظل يتقلب في مخاضه» و»تاه في الطريق في أثناء سفره.» و»حواراته مع حميه لم تقَرّبْه من الإيمان..» فـ»أدرك أن أحلامه مثل زهرة التوليب جميلة. قصيرة العمر. دون رائحة «. وينساق القارئ في انسياب مع هذه الشخصية في تحوّلاتها إلى أن يُضيءَ قلبُه، ويُشرقَ بنور الإيمان. فيقول في نفسه «اللعنة على الشيطان»(ص38).
    القصة القصيرة جدا:
    في المجموعة المذكورة (2012) عدد من القصص القصيرة جدا وقد جمعها الكاتب الزعبي تحت عنوان «حكاية صور» (ص57- 60) وفي «الفصول الأربعة» يجد القارئ نموذجين أو ثلاثة من هذا النوع. وقلة هذه النماذج قد تكون إشارة لاكـتشاف المؤلف مثلما اكتشف محمود شقير، بعد التجارب، والممارسة، أن القصة القصيرة جدا لا تتمتع بما تتمتع به القصة المعروفة من أفق فني، ودلالي، يستطيع الكاتب أن يطرح من خلاله رؤاه، وأفكاره، طرحا واضحا، وأن لا يتخلى في الوقت نفسه عن أساسيات القصة. ففي الفصول الأربعة تستوقفنا قصة قصيرة جدا بعنوان (الطاغية). وهي تشبه خبرا منشورًا في إحدى الصحف، أو خبرا عاجلا على شاشة إحدى الفضائيات الكثيرة جدا. يقول السارد، ومن خلفه الكاتب «سقط الطاغية أخيرًا» (ص186). وهذه العبارة الموجزة القصيرة تحتاج لتفاصيل، لذا سارع الراوي ليقول: حاصره الثوار إلخ.. ثم يبين لنا النتائج التي تمخضت عن هذا الحصار. فالطاغية تنكــَّـر في زي امرأة، وغادر قصره متخفيًا في أقبية الصرف الصحي، وقنواته. ثم يسأل السارد نفسه سؤالا: وماذا بعد؟ يجيب الراوي نفسه: إن سجينا سياسيًا قديما عُذب كثيرًا حتى لم يبق منه سوى الجلد والعظم، كان في انتظار الطاغية ليبصق في وجهه. ومن باب تداعي الأفكار، والخواطر، جذَبَ السارد الشعب كله ليؤدي هذا الطقس من طقوس الازدراء، والتشفي، بالطاغية، الذي يذكرنا -على نحو ما- بمصير الكثير من الطغاة.
    ولا ريب في أنَّ من يوازن بين هذه القصة، والقصص الأخرى: «خبزُ الصباح»، أو «رواية الفصول الأربعة «، أو «تقاسيم المدن المتعبة»، أو»الطريق إلى مروة»، أو قصة «ماريا» التي نقرؤها في المجموعتين، سيفضل القصص جميعًا على قصة الطاغية ذات الأفق الفني المحدود، والشكل المبسط إلى درجة تغدو فيه القصة بحكايتها شبيهة بالخبر الصحفي. ومن حُسن الحظ أن الزعبي لا يبدو مغرمًا بهذا اللون من التجريب المجاني الذي يَغرق فيه كثيرون.
    صفوة القول هي أن الزعبي في «خبزُ الصباح» يتأنى في تصوير الشخصية تصويرًا يقنع القارئ بواقعيتها أكثر مما تقنعه شخصية الكاتب المخضرم في «رواية الفصول الأربعة»، وأكثر مما تقنعه شخصية الشاب الذي يحاضر في الركاب، ويصيح بالمتدافعين إلى بابي الحافلة: عَ الدور يا شباب! وأكثر مما تقنعه شخصية العاشق الذي لا يعرف لم سافر، ولا لماذا يعود. وهذه الملاحظ لا تنتقص من براعة الكاتب الزعبي في كتابة القصة القصيرة الشيقة، والمحكمة، والمتْقنة، وإنْ زَهِدَ في القصة القصيرة جدا، زُهدا لافتا للنظر، جاذبا للانتباه، وهذا حسبه.

    نُشر في (الدستور) الأردنية
    8/أيلول/2023