السير بوعي بين ألغام التاريخ في المختارات القصصية المترجمة «حدث في الآستانة» لأسيد الحوتري

السير بوعي بين ألغام التاريخ في المختارات القصصية المترجمة «حدث في الآستانة» لأسيد الحوتري


class="inline-block portfolio-desc">portfolio

text

    د. أسامة المجالي

    بطبعي أحب كل الأعمال المترجمة عن اللغة التركية إلى العربية لأهمية ذلك في تعرفنا على الأتراك واقترابنا منهم، وعلى اعتبار أن تركيا وطني الثاني بعد الأردن لدراستي الجامعية الأولى هناك في جامعة إسطنبول، ولأن اللغة التركية التي أتقنها تعدّ إحدى أهم اللغات الشرقية الإسلامية بالإضافة إلى الفارسية والأردية بعد العربية طبعاً، أما الآستانة فلطالما سحرتني «ببابها العالي» وحكاياتها الأسطورية عن السلاطين العظام، والباشوات، والإنكشارية، وجماهير الأئمة، والعلماء، والنساء في الحريم بحجابهن وخفرهن التاريخي، ثم الأسواق المغلقة والزحام المدهش لمدينة شرقية حيّة زاخرة بألف لون ولون وعرق وعرق. وذلك طبعاً قبل أن تسطو عليها ثورة الجمهورية الكمالية (الأتاتوركية) العقيمة ثقافياً ومعرفياً، حتى أن (أورهان باموق)، الكاتب التركي الحائز على جائزة نوبل للآداب، يتهم نظام (أتاتورك) بالإساءة إلى روح تركيا وإسطنبول كمدينة. إسطنبول المدينة الرائعة الحقيقية بطبقاتها المتعددة عبر الزمان الممتد وذلك من خلال إساءته للدولة العثمانية بشكل فج وساذج، حيث عملت الجمهورية على تكريس الفصام النكد بين تاريخ الأتراك ما قبل الجمهورية، وما بعد الجمهورية، وذلك بتدمير ممنهج لمظاهر الحضارة والمدنية أو تركها للإهمال والخراب: كالمساجد، والأسوار، والقصور، والأسواق، والأحياء العتيقة للمدينة، وهذه كلها تمثل واجهة الحضارة الاسلامية الشرقية بكل رومنسيتها وجلالها منذ عصورها الوسطى الهائلة وحتى بداية القرن العشرين .
    ومن هنا تأتي روعة وأهمية مجموعة الأستاذ أُسيد الحوتري المترجمة عن قصص مأخوذة عن أدباء أتراك مخضرمين عاشوا وولدوا اثناء حكم الدولة العلية العثمانية الواسعة ثم أدركوا الجمهورية الكمالية بتقزّمها وضيق أفقها وانغلاقها عن العالم ثم تمجيدها للهوية التركية القومية العنصرية في مواجهة الهوية الامبراطورية العثمانية الاسلامية المتنوعة والتي تضم الأعراق كلها من عرب، وترك، وشركس، وكرد، وأرمن، ويهود، ويونان وسواهم، كلهم يعيشون في جو من التسامح والتعايش الذي لا مثيل له وبأقل درجة من الاحتكاكات وعلى مدى قرون .
    أما نهج الجمهورية هذا ومن قبله تيار جمعية الإتحاد والترقّي القومي الشوفيني فهو من دق إسفين النهاية الحقيقية للإمبراطورية بدئاً من محاولات السلطان عبد العزيز في عهد «التنظيمات « منتصف القرن التاسع عشر للتحديث غير المدروس في نهج الدولة ومحاولة خروجه عن خطها الإسلامي الأصيل وهويتها الجامعة إلى هويات فرعية وتقليد الغرب تقليداً أعمى دون أن يلتفت السلطان والذين على شاكلته فيما بعد من النخب الحاكمة إلى ضرورة تطوير الدولة وإصلاحها من الداخل بالعودة الحقيقية إلى مبادئ الحق والعدل والشجاعة والإصلاح بالاخلاص للقيم الدينية التي ستراعي القيم الأصيلة للترك والعرب على حدٍ سواء وهذا ما تمّ تقديمه في قصة «الحب الأعمى» من المجموعة للقاص (نجدت صانتشار) حيث يكمن الحل برأي الكاتب التركي الذي ولد عام ???? وتوفي عام ???? وكان معروفاً بإخلاصه لمبدأ العودة إلى الجذور كطريق للخلاص، لذلك كان صفوة أبطاله يعشق « القضية « بما تمثل من حلمٍ أسمى بنشر دين الله؛ الإسلام القويم بكل أنحاء العالم على يد الأتراك كجندٍ مخلصين للحق وكما كانوا لقرون خلت.
    ومن القصص الأخرى التي استوقفتني كذلك قصة «الإسكافي» التركي الأصيل الذي يلتقي بطفل يتيم مات والداه فتمت إعادته لوطن والده ليعيش في كنف عمّته التي تقيم في إحدى قرى فلسطين النائية، حيث يتحدث الناس بالعربية التي لم يفهمها الطفل ذو الأعوام الخمسة بينما لم ينسَ ضمّة عمته – الفلسطينية بمقياس هذا الزمان والعثمانية بمقياس ذلك الزمان – الحنون إلى صدرها الضامر وقلاداتها الذهبية المشنشلة حيث قابله جميع أهل القرية بالترحاب والحنان لتعويضه عما فقد من أهل ووطن. ترك له أهل القرية وأقاربه مساحته الخاصة لأسابيع كي يتأقلم، ومع هذا عادت روحه للتألق عندما التقى إسكافياً متجولاً فقيراً ولكنه قادم مثله من أطراف الامبراطورية البعيدة إلى طرفها الأدنى الذي تمركز الطفل فيه. قصة اعتبرها بديعة وتحكي عن حب الوطن وإن كان ذلك بوقع حزين للكاتب (رفيق خالد كراي) غير أني رأيت فيها تعبيراً عن مضمون الاتساع والتنوع والأمة الكبيرة الواحدة، ولا أدري الآن كيف يمكن أن نتعامل مع نفس الطفل الفلسطيني الغزاوي المهاجر من وطنه قسراً إلى بقاع الدنيا السبعة في جريمة التهجير الذي تمارسه «إسرائيل» جهاراً نهاراً ، بينما البشرية ؛كل البشرية تتفرج – أتراكها، وعثمانيّها، وعربها، وعجمها، دون أن تحرك ساكنا.
    ولا أدلّ أيضاً على القصص التي تتحدث عن الامبراطورية وعناصرها المتعايشة بسلام من قصة «بون بون» (لأحمد راسم) حيث يصف الكاتب مشهد طفل أرمني يسافر بالباخرة إلى ميناء حيدر باشا في إسطنبول برفقة والدته في مشهد برئ غني لطيف لا يشي إلا بالسلام ما بين الاتراك والأرمن من قبل أن يتدخل القياصرة الروس والإنجليز ليحرّضوا الأرمن ضد دولتهم وليتم استخدامهم لخدمة الأطماع الاستعمارية والتوسعية لكلا البلدين في ذلك الزمن الملتهب من نهاية القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين.
    أما في قصة «الجمل» للقاص (عمر سيف) الدين المتوفي سنة 1920، فتتطرق لحكاية غجري محتال يريد أن يكسب مالاً سريعاً فلا يجد إلا انتحال شخصية عربي متدين لأنه يعرف أن الأتراك يبجّلون العرب ويقدرون تدينهم الفطري فتمضي أحداث القصة الساخرة والمضحكة إلى أن يأتي الجمل العربي الأصيل فيفضح زيف المحتال والمدّعي ويلقيه على الأرض ويحطم عظامه أمام كل الناس في قالب فكاهي لطيف.
    وهكذا تمضي المجموعة القصصية بإستعراضاتها المتقنة، ولغتها العربية الأنيقة، واختياراتها الموفقة من قبل الأستاذ أسيد الحوتري، الكاتب والروائي خرّيج جامعة أنقرة كلية اللغة والتاريخ والجغرافيا، الحاصل على شهادتي اللغة التركية، واللغة والأدب الفرنسي.