أحمد المديني
إذا جئت إلى باريس واختلطت بأجوائها العربية، الجامعية والثقافية الأدبية والإنسانية، عامة، ولم تلتق الطيب ولد العروسي، فقد فاتك كثير وثمين وفريد، كما يقال لمن لم يزر فيها برج إيفل وكاتدرائية نوتر دام.
إنه الجزائري الأصيل والرجل المشْبَع بخصال عربية إنسانية رفيعة؛ اسمٌ على مسمى، المثقف الجامعي العصامي الذي بزّ نفسه بأن انتصر على العوائق القاسية التي واجهته منذ الطفولة في مسقط رأسه، ومرّ بمراحل تنشئة وتعليم وعيش ضنك، وتنقّل بين أجواء حياة وتعليم هي الاستحالة عينُها كان هو الولد الريفي المولود في أحضان أسرة وجبال مجاهدين من جبهة التحرير الوطني عينًا مفتوحة على المقاومة الوطنية للاستعمار الفرنسي من خلال والده المقاتل والسجين، وقريته وشعابها المحاصرة، وصمود أبناء الجبال الجدّات والأمهات والزوجات يرعَين أطفالًا كالأيتام وهن يكابدن الويلات، ولا يفوتهن تعليم الأولاد العربية والقرآن، الطيب منهم وسيواصل تعليمه بين القرى والحواضر انتقالًا إلى العاصمة، والبلاد بموازاة ذلك تنتقل إلى الاستقلال بآماله وخيباته، تُروى في جزء من رحلة عمر.
هي رحلة يرويها الطيب العروسي المشرف على كرسي العالم العربي في معهد العالم العربي في باريس منذ سنوات، وهو قبلة الدارسين فيها والمثقف العربي الذي تجتمع حوله جنسيات الجامعة العربية والشاردين عنها، أيضًا، وإن يتمسك بالعفة والإقامة في نُسك العالِم وظلّه. يرويه في كتابه ” وراء السحاب ـ كلمات من معركتي مع الحياة” (الآن ناشرون وموزعون، عمان، 2023) في صيغة وصياغة السّيرة الذاتية.
نعلم أنها نوع كتابي أدبي، يعنى فيه شخص بسرد حياته بما يراه يعرّف به ويدل إلى معنى ومغزى، ويختص فيها بطريقة في السرد قوامها ضمير المتكلم بالدرجة الأولى.
نعلم، ثانيًا، أن هذا اللون من الكتابة يتناوله الكتاب أو غيرهم كذلك من سياسيين ومؤثرين في زمانهم بمستويات في أواخر العمر وهم يفترضون أنهم عاشوا حياةً ممتلئةً جديرة بالتعريف وتفيد وتفطّن.
لذلك، يهابه سائر الخلق، الكتابُ أولُهم، لأنه نوع وفن البوح والشهادة والاعتراف، هذه ثلاثتُها مواقف محرجة تُلزم الأنا وتُشرك فيها الآخرين والمجتمع، وفي بلدان تحكمها التقاليد ونسبية حرية التعبير، كثيرًا ما يتعذّر أو يُحرج خطاب الذات جهيرًا وقول الحقيقة عنها وعن الآخرين والمحيط. هكذا قليل عدد السير الذاتية في الكتابة العربية الحديثة والمعاصرة، أدبية، أي بمقتضى أسلوب وطريقة، أو غيرها، أي اعتمادًا على مصادرها ومادتها ومحكيّها، وشهادة على عصرها.
يعي الطيب ولد العروسي هذه الحيثيات والاحترازات، ويمتلك صراحة المتواضع وشجاعة القول، لا يدّعي أنه كاتب، ما يبتغيه هو سرد ووصف محطات من حياته، طفولته وما كابد فيها عيشًا وتعليمًا ومصاعب قاهرة جدًا حتى مقتبل العمر، وهو ما يسميه “معركتي مع الحياة”. إنه يستبعد، بداية، التصنيف الأدبي ووضع الكاتب لمصلحة ما يراه أهمّ وأصدق، وقد أفلح.
الشيء الثاني، انتصارُه على مخاوف السيرة الذاتية عند العربي، وابن المجتمع التقليدي المحافظ في الجزائر وسواها، نجده يروي على السّجية ويدوّن مثل مؤخ، ولا يخفي شيئًا كما عاش ورأى أكثر مما سمع، بما يجعل من كتابه فوق السيرة شهادة ووثيقة عن زمن ومجتمع.
الحقيقة العارية
لن أتردد في القول مسبقًا إن السيرة الذاتية للطيب ولد العروسي تضاهي سيرة المغربي محمد شكري التي اشتهرت لا لقيمتها الأدبية، فهي كتابة بأسلوب بسيط بلا رونق، ولكن لصراحتها وما رواه صاحبها حقيقيًا عاريًا أو مزيدًا بنسبة ما عن طفولته ومعاناته خلالها، علمًا بأن سيرة شكري مرويةٌ شفوية، المنشور عربيًا نسخة عن الفرنسية والإنكليزية وبينهما.
يبدأ ولد العروسي سرده كما يفعل كُتاب التراجم الأوائل أو كأنه مسّاح أراض: “ولدت في قرية “سيدي محمد الخيضر” التي تحتضن جبل “كاف أفول” غير بعيد بين مدينتي “سيدي عيسى” و”شلالة العذاورة”، وهي قرية تبعد من الطريق المعبّد حوالي أربع كيلومترات مشيًا على الأقدام.
ولقد كانت هذه الكيلومترات بمثابة هوة تفصلنا عن أجواء ما يسمى الحضارة أو الحداثة” (14) لم يفعل طه حسين (1889ـ1973) في استهلال “الأيام” (1929) أكثر من هذا، كذلك الطيب صالح (1929ـ2009) في “دومة ود حامد” (1997).
ثم يصف بيئة مسقط الرأس والنشأة والطفولة. نعم، من البداية ينبهنا كاتب السيرة إلى أن شاغله ومرماه هو الطفولة وهي مادته. يقول في ديباجة الكتاب: “الطفولة جزء من البيئة التي ترعرعنا فيها، ومن المحيط العائلي الذي تتشكل منه التركيبة الاجتماعية، والثقافية والفكرية، والنفسية. وعليه؛ فأنا مضطر للعودة إلى تلك المكونات التي بلورت أناي” (13).
ترسم الديباجة خطة وبرنامج السيرة ونهجَ المؤلف فيها. هو لا يقدم ويجعل (أناه) محور تكوين وبؤرة سرد، إنه يعطي الأولوية لمكونات التركيبة، هي التي نشأ فيها وتربّى وأصبح ما عليه. بهذا الوعي استعاد زمن الطفولة صُورًا وأحداثًا وتربيةً وظروفَ عيشٍ ضنك وذكرياتِ تعلّم وشبه يُتم بقدر ما تكشف تكوين الشخصية، ترسم بانوراما البيئة والمجتمع والخط البياني لحركية سياسية للكفاح الوطني ضد المستعمر، وبعده الانتقالي إلى مجتمع الاستقلال وأوضاع البلاد فيه. إن شئنا تقسيم السيرة نجدها تعالج الأقسام السبعة الآتية:
عالم الطفولة بكل ما عاشه الطفل الطيب، المعروف باسم (الخوني) منذ الصّبا في المنطقة الجبلية برعاية أمه وجده وغياب الأب المجاهد، في ظروف الفقر والخصاص الشديد، وتوزعه بين بيوت الأهل لتعليم التحق به متأخرًا في السن، وامتدادًا لما لقيَه من عَنَت ليتأهّل مُعلّمًا.
صورة الريف الجزائري في منطقة جبلية محددة، ومنظومة التقاليد والثقافة الشعبية فيها مع رصد القرابة والعلاقات الاجتماعية والخِصال، لا سيما التكافل والكرم وحبّ الأرض.
صورة من خلال بؤرة جغرافية عن الحفاظ على العربية والدين الحنيف بحرص الزوايا الدينية وهي كثيرة على التعليم العربي والديني تحفّظ القرآن وتُهذِّب بالأخلاق الإسلامية، هو نوع آخر من مقاومة المستعمر وللحفاظ على الهوية الوطنية، أهم ما تقلب فيه الطفل الطيّب.
وصفٌ عامٌّ لمظهر من جهاد مقاتلي جبهة التحرير الوطني وتضحياتهم في المرحلة ثم بعض ما عاشوه في المستقبل وأصابهم من حيْف. كفاحُ الجبهة هو الكتاب الأنصعُ للمرحلة من الطبيعي أن يشِعّ في سيرة أي جزائري، فكيف بمن أبوه مجاهد وهو ذو غيرة وطنية حامية.
5ـ سيرةُ التلميذ والطالب المتعلم، هي خامةٌ مركزية في فسيفساء بناء الشخصية، وصورةٌ عن ثقافة المرحلة من مناهج التعليم والكتب الدراسية والخزانة المتاحة وضمنها العروسي القارئ.
جزائر الاستقلال وأخطاء الثورة والانحرافات والنقد اللاذع لمشاريعها وخيبة أمل جيل.
الحادث المروّع الذي يتعرض له المؤلف ويشكّل منعطفًا في حياته ونقطةَ تحول في السيرة.
هي أقسام متداخلةٌ ومتواشجة. لا موزعةٌ على نسق سردي متصل، بالرغم من أن المؤلف وضع سيرته على سكة سرد خطي منذ مسقط الرأس مرورًا بانتقالات العائلة في محيط “شلالة العذاورة”.
وذلك يعني ما بين أماكن متفرقة، ارتحالًا إلى العاصمة لإكمال تعليمه الثانوي والتأهيل لوظيف معلم، وانتهاءً بالحادث الذي سينقله من بلاده إلى الخارج من أجل العلاج وحياة غير متوقعة. فهو ما انفكّ يعرض هذه الأقسام ذهابًا وإيابًا بالتذكر وأحاسيس الحرمان متفاعلة خيوطًا خبرية وأحداثًا وانفعالات، يعادل الذاتي فيها الموضوعي، ويكاد الذاتي يكون بوصلةً لا غير لرسم صورة المجتمع والحاضر.
وإذا استثنينا القصة الغرامية لتعلقه بابنة العمة وردة ونيته الزواج بها، وتفاصيل روابط مع بعض زملاء وأصدقاء مرحلة التعليم، فإننا في كتاب “وراء السحاب” مع سيرة موضوعية فوق ـ ذاتية، لو صحت التسمية، جزائر الخمسينات وعشية الاستقلال ثم السنوات الأولى لانقلاب هواري بومدين على أحمد بن بلة وما آلت إليه البلاد، هو موضوعها ومادتها الأغزر، بذكاء ومهارة تطريز الشخصي بالواقع الخارجي وخروج هذا من ذاك.
الحق، أن الطيب ولد العروسي، وبعد أن شفى غليله من نبع الطفولة ومكابداته في المراهقة ومشاق التعليم والعيش اليومي المر، انتقل إلى رسم صورة شمولية عن وطنه بمداد بألوان النقد الحاد، في لوحة قاتمة شملت جميع المرافق والمؤسسات، عبرت عن خيبة أمل جيل كامل من انتظارات الاستقلال وأفول الأحلام، بل إن هذا النقد لازمةٌ تتردد في السيرة كلها وتأتي بلسان ابن مجاهد شاهَدَ المصيرَ والأوضاعَ البائسة للمجاهدين ويصف ما يسميه “التحول الاجتماعي القبيح” و”الثورات العقيمة للنظام الشمولي” (173) و”جبروت المحسوبية والخطاب السياسي البليد” (185). يفعل هذا مرة خطابيًّا، ومرة أخرى بمرارة وبسبب محنة حادث صدم القطار له تحت نفق مرور وعطب يده وذراعه ورحلته (الأوديسية) التراجيدية بين المستشفيات والجراحين من أجل علاج مستحيل في الوطن المستقل الصارخ بشعارات الثورة والتغيير.
نستخلص أن الطيب ولد العروسي كتب سيرةً وهي ذاتية غربلها من زؤان النرجسية والإغراق في الذاتوية، شأن أغلب السّير الذاتية، وقدم تجربة حياتيةً تستحق أن تروى، وهذا شرط مطلوب لهذا النوع من الكتابة، ويقنع ببساطة أسلوبه على السّجية وبتلقائية، مع إحاطة تاريخية موثقة، وحس وطني، وبحمولة ثقافية وظّفها لتخدمَ السيرة لا للتعالم والتشدق بالمعرفة، وبلسان الصراحة مبتغاها البلاغ والشهادة عن نفْس وتراثٍ ووطنٍ ومجتمعٍ من أجل الإصلاح، فيكون قد كتب سيرة مختلفةً مشرقةً ونافعةً للناس، ستكبر وتغتني بالجزء الثاني منها ننتظره بشغف.
نُشر في (النهار العربي)