أسيد الحوتري
يولي المهندسون عناية بالشكل والتصميم بالقدر ذاته الذي يولون به عناية بالمواد المستخدمة في بناء ما يخططون لتشييده. ويندرج هذا ضمن إطار العناية المتوازنة بين الشكل والمضمون. المتأمل في رواية «المهندس» للمهندس المدني سامر حيدر المجالي سيلحظ عناية كبيرة بشكل النص، ومحاولة محاكاة مبنى الرواية لمباني عمّان النشوء.
تبدأ قصة بناء النص انطلاقا من حب المهندس المجالي لمدينة عمّان الزمن الجميل، عمّان النشوء «جلست في الصالة الداخلية بانتظار الأصدقاء، المقهى تراثي بامتياز، أي أنه من تلك المقاهي التي عبرت الأزمان على الهيئة نفسها، إنه ينتمي إلى عمان النشوء» (المجالي 14). كما يعتبر المجالي عمّان جزء لا يتجزأ من هوية كل أردني، فأي أردني هو سلطي عمّاني، إربدي عمّاني، نابلسي عمّاني، وهكذا دواليك. ولعمان النشوء في قلب الروائي محبة خاصة، لأنها عمّان الأصالة «التي جاءها ناس من قراهم وبواديهم، وناس من أقصى الأرض في القوقاز، وآخرون من دمشق وسائر مدن سورية الكبرى… جاءوا معا في لحظة تاريخية واحدة فحملوا نمط العيش البسيط …» (14). شغفت عمّان النشوء قلب الروائي ببساطة أبنيتها المنعكسة من بساطة الحياة وبساطة العمّانيين في تلك الفترة من الزمن. يؤكد المجالي الرابط الوثيق بين الإنسان والعمران حين يقول على لسان المهندس فراس: «أبنيتنا تعكس طباعنا وطريقة تفكيرنا…إن أسلوب البناء السائد في عمّان يعبر عن هذه الفكرة تماما، فكلما تعقدت الحياة انعكس تعقيدها على الأبنية» (15). بيّن الروائي أيضا أن حجر الطبزة هو شكل الحجر الذي كان سائدا في عمان النشوء، ولكن بعد أن تعقدت الحياة والناس والأمزجة أصبح الطبزة غير مرغوب به، لتحل مكانه أشكال جديدة من الحجارة هي: «المسمسم، والمفجّر، ثم المطبة، والعجمي» (15). وهذا التبدل، والتنوع، والتعقيد الجديد في البناء، والاهتمام الأكبر بتفاصيل التفاصيل من الواضح أنه لم يَرُق أبدا للروائي، بل اعتبره اهتماما بالقشور على حساب الجوهر، «وتحولت الكتل إلى قشرة خارجية بتفاصيل وأشكال تصغر وتصغر منبئة بتحول أهل المدينة من النمط البسيط الساذج إلى النمط المعقد كثير التفاصيل، الذي يهتم بالشكل قبل الجوهر» (15). ومن قلب بساطة الحياة العمانية ووبساطة ناسها، ومبانيها في ذلك الزمن الجميل، رَسَمَ المجالي مخططا معماريا عاما لرواية «المهندس» حاكى فيه هذه البساطة، فابتعد كل البعد عن التكلّف والتعقيد، ولم يحابي الشكل على حساب المضمون. يمكن ملاحظة ذلك من النظرة الأولى إلى غلاف الرواية الأمامي، واجهة البناء الأمامية، والذي يمثل أرضية صفراء احتوت على خط متعرج وحيد، وأربع دوائر بيضاء صغيرة لا غير. أما الغلاف الخلفي، الواجهة الخلفية، فيخلو من أي صورة، ومن أي رسم، ومن أي شكل هندسي، وما هو إلا أرضية رمادية كُتبت عليها فقرتان من الرواية وحسب. حتى أن اسم الرواية يخلو من أي تعقيد، فهو عبارة عن مفردة واحدة لا أكثر «المهندس»، مفردة مفهومة لا تحتاج إلى تحليل أو تمحيص أو استعانة بصديق أو قاموس لفهم مدلولها. تُلحظ البساطة أيضا وبشكل أكبر عند الدخول إلى الرواية، فقد تخلّص الروائي من معظم عتبات النص، ومن النصوص الموازية الداخلية (paratexts): فلا إهداء، ولا مقدمات، ولا كلمة قبلية، ولا فهرس رغم وجود اثني عشر عنوانا لاثني عشر فصلا، ولا هوامش، ولا عبارات مقتبسة في بداية كل فصل (epigraphs)، ولا مراجع، واكتفى المجالي بعناوين الفصول الرئيسية مع تجنب استخدام العناوين الفرعية.
هكذا نرى أن شكل رواية «المهندس» انسجم وتناغم وتساوق مع بساطة البناء المعماري في عمّان النشوء، عمّان زمن الطيبين التي عشقها المهندس الروائي ولا يزال. وبهذه الطريقة أيضا يكون الروائي مازج بين مبنى الرواية الذي شابه ببساطته عمان قديما وبين معنى روايته التي تسرد القصة العمانية التي شخصيتها الرئيسة فراس المواطن العماني الذي يغترب من أجل لقمة العيش ثم يعود إلى عمّان من جديد.