العِلم والدّين حقيقتان لعقيدة واحدة

العِلم والدّين حقيقتان لعقيدة واحدة


class="inline-block portfolio-desc">portfolio

text

    “ايت عله زهرة”
    “ساقية”

    صدر شهر سبتمبر الماضي للكاتب المغربي (محمد كزو) أول كُتبه، عن دار الآن ناشرون وموزعون، الطبعة الأولى بالأردن سنة ٢٠٢١، مؤلفًا تحت عنوان رئيسي: (عقيدة الحقيقتَين؛ أقنعة جاليليو جاليلي تنكشف في رسالته للدوقة كريستينا). والعنوان كما نلاحظ عميق ويحمل دلالات متعددة، فالعقيدة واحدة والحقيقة تختلف ولكنها تجتمع في النقطة نفسها، بحيث:
    واجب الإيمان يقول إن الآيات تنزيل من عنده تعالى، وواجب العلم يقول إن الطبيعة يجب أن تساير الغيب لارتباطهما الشديد، فالكتاب المقدس حقيقة ومستجدات الطبيعة حقيقة، ولا يمكن للحقيقتين أن تتعارضا.
    هو كتاب فكري يقع في حوالي مائة صفحة من الحجم المتوسط، ويتضمن تمهيدًا ومقدمة وأربعة محاور وخاتمة. حيث يناقش الكاتب في التمهيد مسألة العودة لدراسة (جاليليو جاليلي) من جديد باعتباره ضربة أيقظت الفكر الإنساني آنذاك وليس كمعلومات فقط، وهو ما نلاحظه من خلال البدء بالسؤال التالي: “لماذا استحضار (جاليليو جاليلي) من جديد؟”، فبعدما تطرق لحياة (جاليليو) وأعماله الشهيرة، عرج على معاناته مع الكنيسة، وللإجابة عن السؤال السابق كانت الأسباب متعددة حسب الكاتب، الذي حاول أن يعطي مسوغات لاختياره، فنجده يقول:
    كما يتضح الآن إذن، وللإجابة عن السؤال المطروح في بداية هذا التمهيد، أن جدوى قراءة (جاليليو جاليلي) من جديد، تكمن في استلهام التجربة الثورية الغربية في عالَمنا العربي التي تغيب عنا بشكلها المقنن والمدروس.
    وفي النسق نفسه يضيف قائلًا:
    أيضا تكمن جدوى قراءته [أي (جاليليو)] في فهم الجذور العلمية للحداثة الغربية، التي أفضت إلى حتمية ما يسمى العَلمانية بما هي فصل الدين عن الدولة.
    ويبقى المبرر الأهم حسب الكاتب دائما:
    في اكتشاف أقنعة أخرى للعالِم الفيزيائي (جاليليو جاليلي) غير المُتعارف عليها، فسنشهد أوجهًا جديدة لهذا الرجل، في شخصيته، تستحق الوقوف عندها.
    وكانت المقدمة عبارة عن توطئة لموضوع الكتاب –رسالة (جاليليو) للحاكمة (كريستينا)- حيث يشرح الكاتب حيثيات كتابة (جاليليو) رسالته الخالدة:
    واضطر (جاليليو) لكتابة هاته الرسالة، حتى يشرح للدوقة (كريستينا) ما أثير خلال مأدبة غداء لم يحضرها ولكن حضرها تلميذه (بنديتو كاستيلي) الذي لم يشفِ غليله في كيفية الإجابة، والإقناع، إذ وأثناء الحديث، طرحت الغرندوقة بعض الأسئلة بإيعاز من الخصوم الحاضرين حول حركة الأرض وثبات الشمس.
    إذ كانت الوليمة فخا نصبه المتربصون لتلميذ (جاليليو) المتحمس للرد والإجابة، ولكن بالمقابل فهم (جاليليو) الإشارة وأدرك أنها خطة لتشويه سمعته داخل البيئة الاجتماعية الراقية، فسارع دفاعا عن نفسه وعن أطروحاته العلمية لكتابة موضوع لاهوتي بمقاربة فلكية، فمزج بين الكتاب المقدس والمُعطى العلمي. إذ يسلط الكاتب، من خلال دراسته للرسالة، الضوء عن شخصية (جاليليو)، فيُنير جوانب أخرى متميزة تجلت في (جاليليو) الأديب، ثم (جاليليو) الجارح، فـ(جاليليو) العالِم، وأخيرا (جاليليو) اللاهوتي.
    فكان المحور الأول يتناول (جاليليو) الأديب، وكيف كان يتميز بأسلوب لغوي ماتع، وبأدب نفيس في الوقت نفسه، بحيث جمع بين الأدب والتهذيب، لذا يرصّ (جاليليو) -حسب الكاتب- الأميرة منذ الوهلة الأولى في الأحداث، ويجعلها تقتنع بما يقول ويشرح، حول اكتشافاته العلمية التي تتماشى والمتغير العلمي الحداثي. فالعالِم لا يُقحِم الكتاب المقدس في أبحاثه، بقدر ما يهتم بما يشاهد ويُجرّب، أما الكتاب المقدس فيعطي الملامح الكبرى فقط لا الجزئيات. وبحسب (جاليليو) فالله الذي وهب الإنسان العقل والحواس، لا يمكنه أن يمنعه بعد ذلك من استخدامهما في تحليل ودراسة ما يوجد في الطبيعة، ولكن رجال الدين يخافون من حقيقة الاكتشافات التي ستقضي على مناصبهم، فيقول (جاليليو) مصورا الفكرة، ومعطيا لها مثالا عظيما:
    كما لو أن أحد الأمراء أو الأباطرة البيزنطيين، الذي ليس طبيبًا ولا معماريًا، لكنه يعرف أنه حر في إصدار الأوامر، فيسمح لنفسه بارتكاب ممارسة الطب، وإقامة المباني تبعا لنزواته، وهو يجلب بذلك الخطورة للمرضى المساكين، ويمهد للانهيار السريع للصروح.
    وبدماثة أيضا يتحدث (جاليليو) عن سلطة الكنيسة مستعطفًا إياها بإدراك الفرق بين السلطة واستعمال العقل في اتخاذ القرارات، وكم ستكون الحكمة آنذاك شديدة في التعامل مع النص الديني دون شخصنة بل خدمة للصالح العام، فالله خلق العالم للجدال والنزاع، وجعل الأشياء كلها في مكانها الدقيق، ويبقى على الإنسان أن يستخدم مداركه لفهم الارتباط بينها، وهكذا، حسب الكاتب، يصور (جاليليو) صورة أدبية وبلاغية عالية:
    حين يقارن بين إدراك الإنسان حريته مقابل استيعاب الخلق الإلهي البديع لها، وكون هذا الأمر ليس متعارضا أبدا لأن الله منبع كليهما.
    كان تعامل (جاليليو) مع أطراف عدة باحترام وأدب بداية مع الحاكمة ثم رجال الدين فالعلماء، وفي ختام المحور الأول يقدم الكاتب (محمد كزو) مثالا رائعًا ومعبرًا لرجال الدين -الذين يفسرون الإنجيل على هواهم ويُقصون باقي الآراء- صاغه (جاليليو) كما يلي:
    مثل أمّ تبحث عن طفلها بين ثنايا ثوبها الفضفاض.
    فهي ستجده لا محالة، ولكن بعد ضياع وقت وجهد كان بالإمكان استثمارهما في أشياء أكثر أهمية.
    بينما في المحور الثاني يرصد الكاتب مكامن الاستهزاء والسخرية في الرسالة، بحيث يظهر لنا (جاليليو) بشخصية الجارح، فقد “كان (جاليليو) ثائرا جارحا، ينتقد بشكل لاذع وبسخرية كبيرة، سواء الخصوم والمغرضين، أو رجال الدين المتعصبين للفكر الأرسطي على وجه الخصوص، بل حتى العلماء والمفكرين عامة”، فهذا التهكم الجاليلي حسب الكاتب له ما يبرره، لأن الجميع تراصوا ضده قاصدين إجباره على عدم إكمال اكتشافاته، لا لشيء سوى أنها تخالف عقيدتهم الأرسطية القديمة.
    وبما أن (جاليليو) تبث على مبدئه العلمي من خلال مشاهداته الفلكية، فإنه كان متجاهلا الذين يقِفون ضده، خاصة من رجال الدين المنافقين، لكونهم لا يقدمون أية دفوعات منطقية، بل سارعوا في نشر إشاعات مغرضة رغبة في هزيمته، وأذاعوا براعته في التنجيم وقراءة الطالع، و”أصبحوا من الوقاحة بحيث يأملون (…) أن هذه البذرة التي ألقت بجذورها في عقولهم الزائفة، قد تلقي بفروعها لتصل إلى السماء”.
    والنتيجة أن واجه (جاليليو) هؤلاء الوصوليين النفعيين وزاد من حدته الجارحة واستخفافه الشديد في تعامله معهم، لأنهم يمتلكون قوة الكنيسة وقوة السلطة في الدين والدنيا، فبالنسبة للدين يؤوّلون الكتاب المقدس على مقاسهم، وبالنسبة للدنيا يحاكِمون فورا كل من تجرأ على الخروج عن طوعهم، فيقول (جاليليو) مستهزئا:
    ويجب ألا أعيرهم أي اهتمام أكثر من هؤلاء الذين وقفوا ضدّي في السابق، والذين أضحك منهم دائما، لأنني واثق من النتيجة النهائية.
    وكان المحور الثالث في الكتاب يتناول شخصية (جاليليو) العِلمية، وهي في الحقيقة شخصية أكثر شهرة من السابقتين لارتباطها بالفَلك والفيزياء، وقد سعى (جاليليو) في الرسالة للتذكير منذ بداية الرسالة بأعماله العلِمية تحديدا، بمعنى أنه يبحث في العِلم لا الكتاب المقدس، ويستدل بالتجربة التي عزلها منهجيا مُحاكيا قوانين الطبيعة. وكانت اكتشافاته منافية للمفاهيم التي يؤمن بها رجال الدين منذ قرون خلت، ما جرّ عليه عداء مضاعفا، يقول (جاليليو) موجها كلامه للأميرة:
    لقد اكتشفتُ منذ بضع سنوات، كما تعلمين سموك جيدا، أشياء كثيرة في السماوات لم يرها أحد من قبل عصرنا هذا. وقد أثار إبداع هذه الأشياء عددا قليلا من الأساتذة ضدي، كما لو كنت أنا الذي وضعت هذه الأشياء في السماء بيدي من أجل إثارة الطبيعة واضطراب العلوم.
    وما للجملة الأخيرة من معان. كما لا يُخفي (جاليليو) اقتناعه بأفكار (نيكولاس كوبرنيكوس) حينما درس نتائجها العلمية البحثة، وجند نفسه للدفاع عنها، رغم عِلمه بالمصير المحتوم الذي ينتظره لو سار على الدرب. ولكن كان القرن السابع عشر ميلادي قرنا فاصلا للحسم الصعب والنهائي مع النظرية البطليمية القديمة، وكان (جاليليو) أحد أهم الركائز المساهمين في هذا الحسم بما قدّم حياته خدمة لهذا الانعطاف الحداثي العظيم في خدمة الإنسانية كلها.
    وعليه كان حماس (جاليليو) منقطع النظير لما يملكه من دفوعات قوية، وحججا دامغة على أفكاره العلمية، حتى أن المعارضين من رجال الدين كانوا يخشون الاطلاع عليها مخافة التأكد بأعينهم من خطأ ما يؤمنون به، يقول الكاتب (محمد كزو):
    والصواب، بحسب جاليليو، أن مهمة العالِم تعتمد على نقطة خطيرة جدا، هي أنه أثناء البحث والنقاش في المسائل الفيزيائية البحتة، يجب أن نضع جانبا سُلطة الكتاب المقدس المُستعملة لأغراض غير علمية، فما للسلطة من سلطان على الناس.
    بينما كان المحور الرابع والأخير حول شخصية أخرى لـ(جاليليو) في رسالته للدوقة (كريستينا)، وهي (جاليليو) اللاهوتي، التي اضطر أن يجسدها مرغما، لكونه اتهم بالخروج عن تفسيرات الكتاب المقدس لإصحاحين شهيرين هما: “يا شمس دومي على جبعون، فوقفت الشمس في كَبد السماء”. فكان لزاما عليه شرح المغزى والمعنى للإصحاحين، فيكون (جاليليو) قد اقتحم غمار التفسير والتأويل وهو العالِم الفيزيائي الفَلكي، فنجح إلى حد ما في شرح فكرة شساعة الدلالة في تصور النص المقدس، وعليه يكون من أوائل دعاة “الفكر التأويلي”، يقول الكاتب:
    بينما الأخطاء، وفق (جاليليو)، توجد في أذهانهم فقط، فالإنجيل لا يمكن أن يضمها إذا فُهم المقصود.
    إذ خاطب الله الإنسان ذاك الزمان، على اعتبار ما يفهمه ويدركه، بمعنى آخر ما وصل إليه السقف المعرفي لحظتها؛ واعتمد (جاليليو) في طرحه هذا على كلام واقتباس مجموعة كبيرة من رجال الدين على مرّ التاريخ، القدامى ومعاصيره، أملا في إظهار إيمانه وإلمامه بالشأن الديني، ومحاولة تجنب المزيد من التشويه والانتقاد المُسيّس.
    فتقمص (جاليليو) دور اللاهوتي، ودعا “الجميع لتدبّر مقاطع الإنجيل الشهيرة من سفر يشوع، ومحاولة تقبُّلها دون تغيير الفحوى الحرْفي لكلماتها، بمعنى خضوع الشمس لأوامر يشوع بالوقوف في مكانها حتى يطول اليوم كثيرا، وبالتالي فهي تتحرك”، ومن هذا المنطلق الديني تطرق (جاليليو) لتفسير الإصحاحين علميا شارحا أن حركة الشمس حسب (بطليموس) تكون من الغرب إلى الشرق في فَلك التدوير، أي عكس حركة القبة السماوية التي تُحدث الليل والنهار، ولو كان القصد الحرفي لكان الكلام أن تسرع لا أن تبطئ؛ فقوله تعالى: “في كبد السماء” معناه “وسط الكون”، فلو قصد الكتاب المقدس وقت الزوال لقال: في منتصف النهار، “وليس في كبد السماء، لأن المنتصف الحقيقي الوحيد لأي جسم كروي هو مركزه”. وعليه ناشد (جاليليو) اللاهوتيين إلى جعل باقي النصوص الغامضة حسب فهمهم، في شرح متناغم مع منهجه في التفسير ليزول الإبهام واللبس، سيما إذا رافقوها بعِلم الفَلك.

    وأخيرا، في خاتمة الكتاب تطرق الكاتب لأهم الاستنتاجات الكبرى من كتابه وكانت كالآتي: اعتماد شريحة كبيرة في عالَمنا العربي الإسلامي على حرْفية النصوص الدينية، مما يجعل التجربة الجاليلية، أُفقا ومخرجا يمكن الاستئناس به. وأيضا بداية العَلمانية بفصل الدين عن العِلم، باعتبارهما عالَمين مختلفين، فكان طلب الوضوح في الرؤية والحرية في العمل يتطلب فصلا بين العالَمَين. ثم الربط بين الدين والسياسة وظهور اللمسات الأولى في جدل الديني والسياسي، وكون السلطة من أهم موضوعات الحداثة في الزمن الحديث والمعاصر. وأخيرا مسألة الوساطة مع الله، التي ظهرت بقوة في المجتمع المسيحي، فكل شيء يمرّ عبر مؤسسة الكنيسة اتجاه الله، وأيضا يصل صداه داخل مجتمعاتنا الإسلامية، لوجود سلطة الفقهاء بشكل أو بآخر، وإن بدت أنها ليست كيانا مؤسّسيّا.