“الكرملي” لسميح مسعود.. السرد الروائي بموازاة التأريخ وكتابة الذات

“الكرملي” لسميح مسعود.. السرد الروائي بموازاة التأريخ وكتابة الذات


class="inline-block portfolio-desc">portfolio

text

    رشيد عبدالرحمن النجاب

    يعود الشاعر والروائي المبدع  سميح مسعود  إلى حيفا التي كانت ميناءه الأول يوم أطل على هذه الدنيا،  على ثراها وفي جوار كرملها، نما ونشـأ ودرس وتجول بين شوارعها، وساحاتها، وأدراجها            ( شارع عباس، وساحة الحناطير، ودرج عجلون)، وأطل على حركة الحياة فيها من نافذة بات إطارها جزءا من مقتنياته التراثية، ثم هاجرها حزينا متألما بفعل ما تعرضت له من التطهير العرقي،  فكيف لا يكون لحيفا هذا الحضور المكثف في أعماله وناتجه الأدبي والفكري؟! هو ذا يعود إلى حيفا بعد أن ربط وشائج القربي بين مسقط رأسه حيفا و قريته “بُرقه” عبر ثلاثيته “حــيفــا…بُرقـــــه- البحث عن الجذور” يعود مجددا ليتحدث عن حيفا وشموخ كرملها، وإطلالته الحضارية في مطلع القرن العشرين.  في حيفا كان الميناء، ومحطة قطار، وصحافة.
    الصحافة  إذن هي محور هذه الرواية يطل من خلالها إلى جانب صاحبنا  بطل الرواية “رشيد الكرملي”،  عدد من الشخصيات التي ذاع صيتها في المشهد الثقافي الفلسطيني في ذلك الوقت المبكر من القرن الماضي،  لعل ابرزهم الصحفي نجيب نصار  الذي أسس صحيفة الكرمل الحيفاوية،  وزوجته التي خاضت معه متاعب الصحافة، كانت هذه الصحيفة منارة  للتوعية والتثقيف، والعمل الإجتماعي الأمر الذي جعلها مثار غضب السلطات وبطشها من جمال السفاح وما تلاه من جيش الإنتداب البريطاني.
    مضى المؤلف في هذا العمل الروائي محاذيا للتاريخ ، موازيا له دون أن يثقل  خطى السرد بالمكون التاريخي، هذا القالب الذي قد يوحي بالجدية المفرطة ألبسه الكاتب طابعا حيويا من خلال  إدخال ملامح عاطفية عند الحديث عن علاقة نجيب بزوجته، لم تكن الرواية قصة من قصص الغرام، ولكن الحب كان حاضرا بين سطورها، وعلى امتداد صفحاتها وفصولها، متشكلا في صور عديدة تعكس معاني العناية، والرعاية، والوفاء، والانتماء، حتى الصداقة الممتدة عبر الأجيال كانت من ضمن معاني الحب ومدولاته، كيف لا ؟ والحب رديف الحياة.
    لا أود أن أخوض عميقا في أحداث هذه الرواية التي و إن كان رشيد الكرملي محورها وعنوانها،  إلا أنني أجدها تتحدث باسم الضمير الجمعي لهذه الفئة المثقفة الواعية، التي لا تقل أدوار أي منهم عن دور الشخصية الرئيسة،”الكرملي” الذي هو مثقف حيفاوي فلسطيني نشأ برعاية والدته التي  رعته وحيدة بعد الوفاة المبكرة لوالده، حرصت أمه على أن ينال تعليما متميزا ، وكان لها ما أرادت بفعل رعايتها الواعية واستعداد ابنها ورغبته في التقدم على هذا الدرب، إلى أن وصل إلى ما وصل إليه من دور في الحياة العامة، وقدرة على التنوير والتوعية لا سيما ما يتعلق بالمؤامرات المبكرة لبيع الأراضي للعدو من قبل العائلات اللبنانية و السورية.
    إلا أنني أستطيع أن أعد القاريء برحلة شيقة وممتعة عبر أسلوب شيق بسيط خالي من الزخارف وحافلة أيضا بالعبارات الرقيقة والوصف الجميل لمعالم الطبيعة، ولا عجب فلدى كاتبنا فيض من اللغة الشاعرية.
    تبرز في هذه الرواية مؤشرات حياة تتميز بالحضارة لا سيما في القدس، ومدن الساحل، وغيرها من المدن الرئيسة، فإضافة إلى الموانيء التي تصلها بأرجاء العالم فإن مدنها الرئيسة ترتبط بشبكة من السكة الحديد التي تجوبها القطارات وتربطها بمدن في الجوار مثل بيروت ودمشق والقاهرة، وصولا إلى الحجاز، وعلى متن هذه الوسيلة السريعة نسبيا في ذلك الزمن انتقل الناس،  والبضائع وحتى البريد والصحافة لتعزز التواصل وتساهم في نشر الوعي. وكانت بمثابة شريان اقتصادي.
    نقلت الرواية صورة الدور الذي تؤديه هذه الوسيلة التي شكلت شريانا اقتصاديا هاما للناس في فلسطين وبلاد الشام عموما، ووسيلة للتواصل بين الناس في هذه البلاد التي جعلت منها اتفاقيات التآمر أقطارا متعددة، وكانت النصيحة الخبيثة من لورنس بنسف هذه الخط بداعي قطع الطريق على العثمانيين جزءا من المؤامرة التي انعكس أثرها على حياة الناس في المنطقة كما صورتها بعض الفصول. ولم تكن قوافل الجمال بقيادة البرقاوي قادرة على تعويض الدور الذي كان يؤديه القطار  إلا أنه بذل جهودا مضنية حققت الكثير في مجال تزويد فلسطين بالقمح لا سيما في سنين الحرب إضافة إلى أدوار وطنية أخرى متعددة الأبعاد.
    إضافة إلى شخصيات الرواية الرئيسة والتي ورد ذكرها في السطور السابقة من هذا النص، فإنه لايمكن الحديث عن حيفا دون المرور بعدد من الشخصيات، لعل في مقدمتها  القائد ظاهر العمر الزيداني، فحيفا الحديثة تأسست عام 1761 على يد ظاهر العمر الزيداني لتحل محل حيفا القديمة القرية التي بناها الكنعانيون في القرن الرابع عشر  ق.م .
    ثم مطران العرب بطرس حجار الذي عاش في فلسطين منذ أن عين مطرانا في عكا بناء على طلب أهلها عام 1899 وانتقل لاحقا ليجعل حيفا مقرا لمطرانيته، هذا المطران المولود في لبنان طالما فاخر بانتمائه الفلسطيني فوفقا للمؤرخ جوني منصورفإن المطران حجّار عرّف نفسه بأنه عربي وفلسطيني فرح لفرح شعبه وحزن لحزنه طيلة أربعة عقود قضاها في فلسطين
    واستهجن حجار في شهادته أمام اللجنة البريطانية عام 1937 مطلب الصهيونية بوطن قومي في فلسطين، مشدداً على أن اليهود أتباع ديانة من عدة شعوب وليسوا قومية مستقلة، وأن “فلسطين للفلسطينيين”، وأن مزاعم الصهيونية باطلة.
    كانت زيارة الملك فيصل الأول لحيفا محطة هامة في الأحداث التي شهدتها فلسطين  بعيد معركة ميسلون ودخول فرنسا إلى سوريا،  وكانت لقاءاته في حيفا منابر للتعبير عن نقمة الناس، وعدم ثقتهم بالوعود البريطانية، وكان هذا لسان حال الناس في أرجاء فلسطين، ولم يكن شرق الأردن بعيدا عن هذه اللقاءات متمثلا في موقف واضح وصريح للشيخ مناور الزعبي ابن الرمثا الذي طالما ربطته بالناس في فلسطين علاقات انسانية و اجتماعية واقتصادية بل و قومية عربية ، وهو إشارة متجددة لطبيعة العلاقات بين الناس في بلاد الشام التي غدت دولا بعدا أن عاشت على مر القرون كيانا واحدا.
    شكل لقاء صاحبنا بطل الرواية بالوفد المقدسي الممثل للهيئة العربية نافذة لإلقاء الضوء على نموذج مختلف من التعامل مع القضية الفلسطينية، وخلافا للجهود التوعيوية بخصوص الخطر القادم الذي تمثله الصهيونية وتدعمه بريطانيا،  التي انتهجها الوسط الثقافي من خلال منبر جريدة الكرمل،  نرى عينات مختلفة من التعامل تتراوح بين التراخي والتشبث بالوعود البريطانية، والمؤسف أن يكون ثمة من تجاوز ذلك إلى خطوات أكثر تساهلا في التعامل مع العدو.
    هذه الرواية إطلالة على حيفا من على قمة كرملها، ومن عين عاشقة حرمت العيش في هذه المدينة،  فالشاعر والأديب سميح مسعود بعد أن تكحلت عيناه برؤية مدينته الأثيرة إلى قلبه عندما زارها بعد طول غياب ، يعبر عن هذا الشوق المستمر لحيفا من خلال ثلاثيته الجميلة، ها هو يعود إليها كاتبا وشاعرا ، فلعله يمني النفس لو عاش فيها عمره بدل أن يعود إليها زائرا، ومن خلال “الكرملي ” نجد أديبنا وشاعرنا يتماهى مع شخصية ثقافية حيفاوية، ومن خلاله يمتع نفسه بإطلالة على معشوقته من على كرملها مشاركا أهله و أصحابه هناك كل ماهو جميل من شجر البيلسان حتى بحرها الساحر.