“الموت يدخّن أيضًا” “يُغلقُ باب الليل على رائحة عطره ويمضي”

“الموت يدخّن أيضًا” “يُغلقُ باب الليل على رائحة عطره ويمضي”


class="inline-block portfolio-desc">portfolio

text

    عقيل منقوش

    عن دار الآن ناشرون وموزّعون صدرت المجموعة الشعريّة الثانية للشاعرة اللبنانيّة ماري جليل المقيمة في دولة كندا، وتمتاز الشاعرة بحرفتها المميّزة في الوصول إلى مناطق في الشعر تكون أغلب الأحيان صعبة على غيرها من بعض الشاعرات الآخريات، فالمجاز لديها واضح بقصديته وليس تهويمَا غير مفهوم ، كذلك المعنى الذي تحاول أن تجعل منه بعداً فلسفيّا عميقًا،
    تتكون المجموعة من ١٢٢ صفحة، أغلب قصائدها تتمحّور حول فكرة الموت بعيدًا عن قدريته وزمنه غير المعلومين باعتباره نهاية وحقيقة تكمّلان كل بداية، لكنّه فعل غير مرئيّ إلا بحدوثه الذي يسدل الستار على المشهد الأخير،
    كذلك تكتب عن الفقد والخسارة والغياب الذي يغلّفه العدم.
    في قصيدة : ” جثةٌ تحلمُ”
    تشير الشاعرة للموت باعتباره حركة فيزيائية تعبيريّة لكن له ملامح تتجسد لعينها من خلال حركته المارة وهو يقطع الطريق بسلطته دون تسميته بجنس من الأجناس، لتبقيه في المتخيّل الدائم الذي يراها بأشكال مختلفة ، ثم تعطيه وجهاً للدلالة على وجوده المادي حينما يتراءى لها في المرآة كما تقول في القصيدة:
    “الموت نفسه الذي رأيته البارحة
    يقطع الطريق على المارّة
    رأيت وجهه اليوم في المرآة
    كان صامتا
    وكنت أبكي
    كان الدمع في عينيّ
    يتساقط في عينيه
    ودموع الموتى ترتجف
    ولا تنهمر”
    وفي قصيدة: “صمت الحقيقة”
    ترفض ماري التراتيب التي ترافق طقوس الموت التي تنتهي بدفن الميت بقبر مع وضع شاهدة تشير إلى اسمه، ثمة احتجاح بسخرية لاذعة ضد فعل ما بعد الموت الذي لا يوازيه بالقوة والأثر الكبيرين كما جاء في القصيدة:
    ” على قطعة من رخام
    كتبوا عليها اسما ما
    اخترعوا تاريخا ناقصا
    رفعوا أيديهم إلى السماء
    بدأوا بالصلاة”
    مهللين مكبرين
    مطمئنين
    تخلصوا منك!
    وتنتقل من السخرية المأساوية هنا إلى فنطازيا تبتكر فيها موتا آخر يسعى أن يكون حيًا بمنأى عن الموت الأصلي الخامد
    كما في قصيدة: “سرُّ الظل”
    ” الجثث التي كنتم تنقلونها
    في الخفاء
    وقع من ظلالها شيء ما
    على الطريق
    خاف منه الموت وهرب”
    كذلك تسعى هنا أن تجعل له ماهية نشوء وتكوين وكأنه جسدٌ يستقيظ من سبات الطبيعة إسوة بالموجودات التي تتوقّف حركتها وديمومتها ليلاً لتنبعث من جديد كل صباح كما في هذا المقطع من قصيدة:
    “موت أكثر من عادي”
    “يستقيظ الموت من نومه
    من غياب قطرات الندى
    من صمت الماء
    وارتطام الصوت بالصدى”
    كذلك في هذا المقطع:
    “يغلق باب الليل
    على رائحة عطره ويمضي
    هو يعرف كيف
    يخرج منتصرا من نعشه ”
    ولا تنسى الشاعرة فجيعتها الشخصيّة بالموت الذي خطف والدتها والتي تجعل منه هنا رثاءً حزينًا بقصيدة قصيرة غاية في الروعة تنتهي بسؤال يرفض الاعتراف بحتميّة الموت والتسليم به كما في هذه القصيدة:
    “موت على خشبة العالم”
    “ماذا أقول لله يا أمي؟
    حين ترن ضحكتكِ في قلبي
    كأجراس العيد
    ولا أسمعها؟
    ثمة قصائد تحاول الشاعرة فيها أن تخلق ألفة بين الموت والأشياء من حوله كجزء من مشهديّة الكون ومعطياته الظاهرة بجمالها وقبحها معاً كما في هذا المقطع من قصيدة:
    “صراخ المرايا”
    ” بائس هذا النهار وكأنه في جنازة أنيقة ”
    أو في هذه القصيدة بعنوان :
    “فراشات الليل”
    “تضيء البيوت
    بأصواتها الملوّنة
    تلمع كأسهم نارية
    تعلو،
    تنفجر”
    أو في هذه المقطع من قصيدة:
    “دمعة حنجرة”
    ” كان موتا كافيا
    ليهدأ النهار”
    أو هذه القصيدة الغرائبية بعنوان :” دمعة الموت”
    المبنية باحكام وتكثيف عالين فنقرأ فيها تحوّل الموت من قوة وجبروت لا يشعران إلى كائن تجيش به العواطف حدّ البكاء والندم،
    “الفتاة التي كانت تقطع الطريق
    مبتسمة للمارة
    مطمئنة
    لم تكن تعرف
    أن الموت سيذرف عليها دمعة
    بعد حين ”
    ومن مأساة الموت كونها جماعية إلى العاطفي الشخصي الذي يسعى أن يدوّن جزء من ارهاصات الشاعرة وتقلبات حياتها، سواء مع الحبيب أو القريب اللذين ذهبا وغابا أو افترقا في طرق مختلفة ليظل منها ليس سوى الذكريات،
    كما في هذه القصيدة بعنوان: ” ابتسامة جرح”
    “حين تركنا الليل يغفو
    كنا
    وكانت الصحوة في جسدينا تترقرق
    حتى تكاد تمطر ”
    أو في هذه القصيدة بعنوان:
    “نوافذ غابت عن عيوننا الدهشة”
    “للنوافذ أحلامها
    للنوافذ عيون لا تنام
    أيضا
    تترك مسافة يقظة
    بين رأسها والأحلام ”
    قصيدة : “خلوة”
    “كعادتها كل مساء
    تنتظر أن تنام
    حتى تغادر المكان خلسة
    وتذهب للسهر
    في سرير عينيك
    عيناي”
    قصيدة: “طعم الصمت ”
    “مرّرت اسمكَ بالأمس
    على طرف لساني
    تذوقت طعمه
    بشهوة
    حتى ذابت حروفه في فمي
    فابتلعته ”
    وفي قصيدة : “يقين مشبوة”
    ثمة تعارض بين الاسم وصفته التي تنفيه ولا تؤكده في هذا العنوان حيث الجملة تدلّ على عدم الوثوق بالوضوح الذي تراه غموضا ً بوجه الآخر ،يتجلى بصورة عاكسة لشكله، والتي تشعره بحاستها كونه لا ينتمي لليقين القادم من أيامها،
    كما في المقاطع الآتية:
    ” أعلم أن لا شيء غدا
    وأن أطرافه بعيدة
    وأعلم أن الغموض في وجهه
    وضوح في عينيّ كثير
    كما أعلم تماما
    أن في كل تحد
    وقبل أن ينتهي المساء
    ثمة من سيقول لي:
    أحبكِ
    ثمة غد ما سيظل
    من لا يقيني ”
    ولعل قصيدة : “شهوة الحروف”
    من أكثر القصائد التي تحاكي الفقد بذكاء وشاعريّة ملفتة حينما ترسم صورة واقعية صافية، وسلسة لما بعد الموت كما الآتي:
    “لم يترك لنا أبي صورا كثيرة
    كان يعلم أن وجهه سيظهر
    في كل صورنا ”
    ولا بأس أن نختم هذه الكتابة بقصيدة:
    “سيمفونية العشق”
    فهذه القصيدة القصيرة والعميقة جدا بمعناها تلخّص لنا الخلل الهارموني الحاصل في تماثل هذا الوجود بعلة الكائن والتي تسعى هذه المجموعة الشعريّة الجديدة المثابرة أن تضع مفاتيح حروفها في أقفاله الموصدة والمحكمة أحيانا كثيرة والمفتوحة المهملة في أحيان أخرى قليلة،
    تقول القصيدة :
    ” هل ترى ما أراه ؟
    إن الإنسان وحده
    النوتة الشاذة
    في هذا الكون!
    ماري جليل صوت شعري يستحق الانتباه، تشتغل بصمت على ابداعها الرصين، أدواتها اللغوية والمعرفية كاملتان مما يجعلها تمضي بعيدًا بمشوارها الشعري اللافت.