موسى أبو رياش
كاتب أردني
في تناغم بين الشكل والمضمون تكتب براءة الأيوبي قصصها في مجموعتها الأولى «المسكونة… ظلال بين الواقع والخيال»؛ فبينما يسرد المضمون انكسارات الذات وخيباتها وتشظيها وضياعها وغربتها وهمومها المتراكمة المتلاحقة، جراء واقع عربي عبثي فوضوي مأزوم، يأتي الشكل ليكمل الصورة إذ تستخدم الأيوبي الفقرة القصيرة، والسرد الموجز، واللغة المكثفة الموحية والفاتنة في الوقت نفسه، في تقطيع وتسارع، يجبر القارئ لأن يكون جزءاً من الحدث/القصة، وربما يعاني مما تعاني منه شخصياتها.
يعاني الفرد العربي ليس الأمرّين فقط، بل مرارات كثيرة، ما أن تنفك عنه مرارة إلا وتتلبسه مرارة أشد منها، ولذا هو يحلم بأن يبقى على مُرّه لئلا يداهمه ما هو أمرُّ من مُرّه؛ ولا عجب، فمن تعود على المرّ سيتعايش معه وربما يستسيغه، وهل يوجد في واقعنا العربي إلا المرار نحتسيه صباحا مع فنجان قهوة بإرادتنا، ونتجرعه طوال اليوم رغماً عن أنوفنا؟ ومأساة الإنسان العربي أنه واقع تحت ضغوط من كل الجهات والقوى، وكلها تذيقه المرّ وتتفنن في تعذيبه، وتتلذذ بسماع أنينه، وتعشق رؤية دموعه النازفة من القلب قبل العين، فالعربي ضحية للسلطة الحاكمة، وضحية للمجتمع، وضحية للأقارب والزملاء، وضحية لنفسه، وربما يكون عدو نفسه بشكل أبشع من غيره؛ لأنه يعرف مكامن الألم، ومواطن الضعف، ومن أين تؤكل الكتف!
تستعرض هذه المقالة صور الذات وانكساراتها وخيباتها، في هذه المجموعة التي تتكون من سبع وعشرين قصة قصيرة، ضمن أربعة محاور:
السلطة
تعتبر السلطة الغاشمة كل من لا يسبح بحمدها عدواً لها، جاحداً لفضلها، كافراً بوجودها، ومن هنا، فإن حياة كل مخالف أو معارض أو حتى صاحب رأي مستقل تحت رحمة أذرع الحكومة وجلاديها.
في قصة «عودة» يتلهف مواطن للعودة إلى بلده، لكنها عودة محفوفة بالمخاطر، تنذر بالويل والثبور، ولذا فهو ينتظر بين الخوف والرجاء «أنتظر رجوعا قد لا يأتي، وأترقب مصير سلطة قلّمت روحي لتناسب قياسها، ثلمتني، وزرعت في داخلي فيض وساوس تحتاج دهراً لتبدأ ذوباناً بليدا». وتبقى المنافي هي الوطن إلى حين خلاص، وإن كانت بلا طعم أو روح، وما البديل عندما تكون «للأوطان أحيانًا رائحة رماد، وحسرة، وقبور؟».
يصف الحَكَّاء «المسكونة» قريته التي تشبه مقبرة للأحياء: «نقيم هنا بكامل فقرنا.. بعوز أنيق، وفاقة ترتدينا كستار.. من وفرة البؤس، لا تعثر على كائن إلا واعتنق ألف داء.. لم تبخس الحكومة علينا بالعطاء، بل منحتنا ما يحتم علينا تقديم شعائر المحبة لها، بل فروض العشق والهيام. وكيف لا.. وهي من أغدقت علينا حكماً يقضي بإعفائنا من ضريبة التعليم والسكن والخدمات! فلا مدارس أصلًا ولا مبان ولا عطاءات.. نُخلق كبهائم في زرائب محشوة بالدواب.. نكبر في ما يشبه كتل الطين، وندرس في حوار ترابية نتسكع فيها ذات ضياع وذات انصياع». إنها حياة على الهامش، بل في القاع، دون أي مقومات إنسانية، فلا كرامة، ولا وجود، ولا حياة. وماذا يُنتظر من سكان هذه القرية؟ وكيف يعيش هؤلاء؟ وفي أي عصر؟
المجتمع
يتنمر المجتمع في العادة على الضعفاء الذين لا سند لهم ولا مال، ويركنهم على الهامش، لا يتذكرهم إلا إذا احتاج إلى خدماتهم، وغير ذلك فهم لا شيء. في قصة «قربان» لا يأبه المجتمع بالفتاة القبيحة، ولا يعيرها أي اهتمام «لم يجد أحد وقتا كافيا للاهتمام بشأني. لا أدري.. أهو الانشغال فعلًا؟ أم أن فتاة قبيحة لا يمكن أن تستأثر باهتمام، حتى لو كانت مثلي في البذل والعطاء.. لطالما شعرت بنفور الأخرين مني، بامتعاضهم من لقائي، بوشوشات يتبادلونها بمجرد عبوري أو الحضور» هذا السلوك المجتمعي السلبي الأقرب إلى الاحتقار، يدمر نفسية فتاة في الثالثة عشرة من عمرها، وتؤكد ذلك بقولها: «في ركوني شعرت بخواء يتسكع داخلي، وبانطوائية تسري مع الدم في الوريد». لم تنل «مسعودة» حظها من الدنيا، فبسبب نصيبها الشحيح من الجمال، وفقر عائلتها المتوارث، أهملها الجميع، ولا يتذكرونها إلا حين ولادة طفل، فهي الداية الوحيدة لأطفال القرية، ويداها الخشنة أول من لامست أجسادهم الطرية، ومع ذلك لا يحترمون كبرها ويسخرون منها كلما رأوها «الكل وضعها في خانة الحاجة، وأخرجها من تصنيف الإنسانية!» وتتساءل: «غدًا، عندما ترحل.. هل سيذكرها تاريخ القرية كتراث عريق ومعلم ذي أثر؟ أم ستدفن سيرتها في تربة جرداء كنفوس عايشتها؟».
الأقارب والزملاء
يتعامل المرء مع الأقارب والزملاء من المسافة صفر، وهنا تكمن أهمية وتأثير السلوكيات البينية المباشرة، التي قد تكون موجعة جارحة في كثير من الأحيان. في قصة «فراغ» بعد تردد تفتح رسالة أتتها، فصدمها فراغها «أتت ذات بغتة، وأبت إلا أن تترك نارا ورمادا.. وقفتُ متأنقة بحيرتي.. ملتاعة.. ورحت أطوي خيبتي وجنوني» وأي سخرية أشد على النفس من رسالة جرداء، رسالة تستخف بك، وتشعرك بأنك لا شيء، ولا تستحق حتى حرفا، أو شخبطة دون معنى؟
تسترجع قصة «ذاكرة» شجون نزيل في منتجع صحي، كان وكان وكان، أما الآن فلا شيء «اليوم أنا هنا.. وحدي! لا أحد تراوده خطيئة زيارتي، أو حتى السؤال من بعيد.. ومن يهتم لرجل هرم، معتل، لا يملك من الدنيا سوى اسم بعثرته الريح فانتثرت حروفه غبارا؟» وقد كان من قبل مقصد الأقارب والأصدقاء في البيت والعمل، ولذا فهو يعيش وحشة الوحدة والخذلان، غريب كأنه مقطوع من شجرة! أحيانا، تكون الصفعة مزدوجة، فتحطم كل دفاعات النفس، وتحيلها هزيمة وذبولًا. في قصة «السيد (أ)» كانت تعاني من زميل لها في العمل، فظ التعامل، وحشي الصوت، غير مريح بالمطلق، وانتشلها من هذا الجو الكئيب السيد (أ) على صفحات مواقع التواصل الاجتماعي، فكان لها بلسما وملاذا من محرقة العمل، وكانت صدمتها قاسية عندما اكتشفت صدفة أن السيد (أ) هو زميلها الفظ! فتصرخ ملء روحها المجروحة، وتقول: «فلأمض في طريقي، ولارتشف خيبتي مرّة المذاق، فلا مسخ مشوه أكثر من الإحباط.. ولا أقبح من الخذلان» إنها لحظات قاسية، تهوي بها في الحضيض، وتتركها وحيدة في عراء الحياة.
النفس
عندما تكون في مواجهة نفسك، فالمعركة خاسرة، ونتائجها مدمرة، لأن ميدانها مكشوف دون دفاعات. في قصة «سوء طالع» يلازمها سوء الطالع باستمرار، حتى تعودت على ذلك، ولا تأمل تغييرا، ولم تجد إلا السخرية من نفسها لتخصصها في الخيبة والخسارات: «منذ فترة، صرت أسعد بكل فشل ينتابني، وأجالس ذاتي لأستهزئ من حماسي المشتعل، وصفعة أتت مدوية للمبتغى». وتضيف تجسد خيبتها: «لو سردت حكايا خيبتي كلها.. لأمطرت السماء عبرات وآهات.. ولقرأتم ما يفيض من روايات الخذلان».
يعاني «مخبر» من تأنيب الضمير والندم بعد تقاعده، عندما وضعه رؤساؤه في تجربة خوف قاسية؛ ليذوق بعض ما أذاقه للآخرين ظلما وعدوانا: «تجربة الخوف التي وضعني فيها رؤسائي في العمل عرتني أمام ذاتي؛ هي في نظري مزحة سمجة، اكتشفت خلالها كم كنت كائنا دخيلا على الإنسانية، وفارغا من أي نبض. أنا خائن للمشاعر، متواطئ مع السفه والدناءة. أنا أوضع من أن أتقدم باعتذار إلى كل من آذيته. أنا أضعف من أن أحتمل هذه الحسرة. أنا.. تلزمني طلقة واحدة، وينقضي الندم». هكذا صنف، يستحق أن ندعمه في قراره، لأن من يتقصد أذية المواطنين دون جريرة، خائن للوطن، خائن للضمير، خائن للإنسانية!
وبعد، فإن «المسكونة… ظلال بين الواقع والخيال» عمّان ـ الآن ناشرون وموزعون، 2020، 182 صفحة مجموعة قصصية متميزة بلغتها الجميلة المكثفة، ورمزيتها الدالة، وأسئلتها الشائكة، وعلى الرغم من سوداوية الظروف وسلاسل الخيبة والإحباط والخسائر، إلا أن ثمة أملا وبقعة ضوء تظهر هنا وهناك، تحاول أن تجد لها منفذا لتكبر وتنتشر.