“باسمة غنيم” ذاتُ الشِّعر الظامئ

“باسمة غنيم” ذاتُ الشِّعر الظامئ


class="inline-block portfolio-desc">portfolio

text

    “محمد محمد السنباطي”

    التقيتُ الشاعرة باسمة غنيم مساء السبت 30 أكتوبر 2021، في بيت ثقافة بلدتي شبراخيت حيث أقيمَ جانبٌ من “مهرجان الشعر العالمي” الذي يترأسه سنويًّا الإعلامي الشاعر محمود عبد الله شرف، وتكرمَتْ بإهدائي نسخة من مجموعتها الشعرية الجديدة “اقطفني مرتين” فقرأتها بما تستحق من اهتمام.
    وكأني بالشاعرة تعطي لمن تحبُّ أمْرَها الناعمَ اللامراوغ “اقطفني مرتين”، جاعلة منه عنوانَ مجموعتها الشعرية الثانية، بعد أن اعترفت في عنوان مجموعتها الأولى أنها تقطع وترًا لتزرع كمنجة! والمجموعتان صادرتان عن “الآن ناشرون وموزعون”. ولاحظتُ الزرعَ في الأولى والقطاف في الثانية، بل القطاف المضاعف!. ولم تتخفَّ عني هذه الجرأة الشفافة، الجرأة المتحدية، الجرأة المتصدية في العنوان اللافت، والتي استدعت لي من عالم الغناء الفرنسي المطربةَ جين مانسون لتصرخ في البراح الرهيب داخل صدري بأغنيتها الجريحة الشهيرة: “فلنمارس الحب قبل أن يقول أحدنا للآخر وداعًا” لتكون موسيقاها مصاحبة لقراءتي. أقول عنوان المجموعة الشعرية الأولى لباسمة جاء في صيغة المضارع التقريري الاعترافي التبريري أو التفسيري، فشاعرتنا تعلن على الملأ أنها وبلا مواربة، تقطع الآن وترًا، وأما هدفها فزراعة هذا الوتر في تربة الشعر أو في ساق دوحته ليغدو في التوِّ أو بعد حين آلةً تنضح بالموسيقى. ألم يقل بول فيرلين: الموسيقى أولا وقبل كل شيء؟! وها هي الكمنجات تتلاقح وتتلاحق وتعطي الشاعرة أمرها أو جمرها صائحة أو لاهثة “اقطفني مرتين”، وقد سبق للشاعرة الإيرانية فروغ فرخزاد أن أصدرت في إحدى قصائدها أمرًا ناصع الرغبة وإن غللته بحريرية مذهلة: “ضاجعني فوق بتلات وردة حمراء” أتذكر ذلك وأنا أقرأ متغلغلا أيضًا في أصداء صوت انذباح جين مانسون في أغنيتها الشهيرة تلك.
    لكنَّ أولَ ما ترسَّب في نفسي وأنا أنهل من أشعار باسمة غنيم جعلني أصفها بأنها ذات الشِّعر الظامئ! وأرى أن الحبيب المتخفي عنا إذا ما سقى الشِّعر كأس المحبة ستتمتع الشاعرة بالحياة:
    “شعري دعاء الغفران
    لكل عيوبي وظنوني
    فكفاك كفاك
    مكابرة
    وأطفئ ظمأه
    وأحيني”
    لكن العطش الباسمي له مظاهر كثيرة. ومنها:
    “ينسدل من ظلالي عطش لأناك…
    وأسقط في دهشة
    فيك تغويني..!”
    وأيضًا: “تلك الأسرة تفرد دفئها للغرباء
    أي توق فيها وأي عطش؟”
    وربما يكون هذا العطش هو ما دفعها لأن تقول:
    “اذهب بعيدا بعمق تفاصيل وجهك…
    حيث سحاب الله..”
    فالعطش المنسدل من ظلالها، هو ما دفعها لتذكر السحاب السماوي. وربما هذا العطش هو ما دفعها لترى السحاب في أصابع المحبوب:
    “أصابعك
    سحاب أبيض”
    وتقول:
    “يقيني إذا يممتُ
    نحو أنهارك
    فستلهث أيائلي
    عطشًا”
    بل إن العطشان أيضًا غصنها البائس! فهي القائلة:
    “وكأني بهذا الهوى
    يميل على غصن بائس
    يخضرُّ به
    ويورق”
    والشاعرة العطشى والعاطشُ شِعرها تتمنى لو تطفئ اللظى بكأس حزينة. تقول في “ثمالة”:
    “بودي لو أهز
    جذع قلبك
    ليتساقط منه
    صقيع النوى
    بودي لو أكمل
    تقويم غيابك
    بكأس حزينة
    تطفئ أفكاري
    فمن مثلي يا عزيزي
    يحتسيك لينسى!”
    وفي مقطوعتها “مكابرة” تقرُّ أكثر بظمأ شِعرها:
    “شعري دعاء الغفران
    لكل غيومي وظنوني
    فكفاك كفاك
    مكابرة
    وأطفئ ظمأه
    وأحيني”
    أي أنها ستحيا إن قام بإطفاء ظمأ شِعرها. ليس هذا فقط، بل وحتى رائحة الأيام مرتبطة بالعطش!
    “رائحة الأيام غبارٌ عقيمٌ جاحد
    خريفٌ فاضحٌ باصفراره
    إبرٌ مغروزة في رغوة الغيم لا يقظة فيها
    تصلي لعطشها وترجو شتاءك!”
    وقد أبدعت الشاعرة كعادتها في التقاط الصور! رائحة الأيام تتشيء إلى غبار تصفه الشاعرة بالعقم الذي لا ينجب الماء، وتصفه بالجحود الذي لا يروي من ظمأ. الغيم رغوة لا عطاء يرجى منها والإبر المغروزة فيها لا تتمكن من تصفية ما بها من سراب الماء. هنا التضرع والاستسقاء ورجاء قدوم فصل الرِّي. هذا الفصل الذي توقن الشاعرة أنه قادم:
    “الشتاء قادم
    ارجع إلي مع المطر
    فهو خير الغافرين”
    ولكن العطش يستمر بتوالي صفحات المجموعة، ونطالع في قصيدة “قدر”:
    “حبك يا قدري
    شمس ونهار
    ولا أرفض أن أعلن هذا
    لو أغمضت عينيك عني
    ولو أصبح محيط قلبك
    كأسَ ماءٍ لي لا تطال”
    ولكن ماذا تترجى الشاعرة لإطفاء لهب عطشها؟ نراها تقول في مقطوعة عُنوانها “الحب”::
    “أن أشربَ نبيذ آهاتي
    فأراك في كل رشفة
    تنزف في عروقي ثلجا
    فتفيض كأسك
    وينتفض نخيلي”
    وإذا كانت الشاعرة عطشى وشعرها ظامئ فإنها تدرك تمامًا أنهما الماء والري، ويمتلكان في جوفهما الينابيع، وفي سمائهما الغيوم الثقال المتخمة بالسواد الخصيب، أعني هي وشعرها، لكن الوقت المرجو لا يدنو في الزمن المنظور:
    “تعالَ نرسم على شفة الشتاء
    قصيدة تقول إننا المطر
    وغيماتنا التي جادت بسوادها
    أما حان لها كالفجر أن تنبلج؟”
    والشاعرة ومعها كل الحق لا ترى راويًا للظمأ سوى الحب. أليست هي القائلة في إحدى ومضاتها:
    ” مَثَلُ حبكَ كمثل قطرة أنبتت في الأرض كل شيء حي”؟
    وإذ وصلت إلى نهاية القراءة لم أجد بصحبتي لا جين مانسون ولا فروغ فرخزادة، بل شاعرة لها نكهتها الخاصة وعبقها الخاص، ولن أكتفي بقراءة مجموعتها التي بين يدي مرة واحدة ولا مرتين.