بروز الواجب وغياب القيم في “ولادة بلا رحم”

بروز الواجب وغياب القيم في “ولادة بلا رحم”


class="inline-block portfolio-desc">portfolio

text

    وليد خالدي
    كاتب جزائري

    رواية “ولادة بلا رحم” عمل سردي يحيلنا إلى ترسانة من القيم المعنوية المنتهكة، في ظل تآكل الواجب، وأفول القيم المتعارف عليها داخل المجتمع الواحد، أو المجتمعات البشرية برمتها، هذا الواقع الذي أطل برأسه من نافذة مظلمة هزت قلاع الطفولة، إلى درجة حرمتهم من مباهج الحياة؛ باتخاذ مسالك أخرى توجت بالتسكع في الشوارع المترامية الأطراف وسط المدينة، وتوسد الأرصفة عبر الطرقات المختلفة، وهي جريمة ارتكبت في حقهم جعلتهم يعيشون حياة قاسية على كل الأصعدة. ومن كل هذا حاولت الروائية من خلال رؤيتها أن تجمع بين التلاحم كقضية مركزية، تجسدت ملامحها الجوهرية في شخصيتها الرئيسية علاء، الذي يكون أشبه بالمصلح الاجتماعي، الذي يعايش الهموم التي تطال عصره، والضياع والتشظي المتمثل في المجتمع، إذ يكشف داخل المتن الحكائي عن كل صنوف الانتهاكات البشرية التي أجهزت على أنساق القيم الإيجابية بأشكالها المتعددة.
    ومما لا يدع مجالا للشك، ونحن نتنزه في أزقة «ولادة بلا رحم» أن عملية التبئير التي تتناسل فيها خيوط السرد مشكلة بذلك قطب الرحى داخل خطاب الحكاية، أفرزت لنا في واقع الأمر رؤية سردية أماطت اللثام عن الطاعون الذي تحمله الحروب معها بدرجات متفاوتة، تبدت في مجموعة من الأساليب والممارسات التي خلفت وراءها اضطرابات وتوترات قادت البشرية إلى حالة من الضعف والتفكك، حيث شكلت في مساحة الحدث انتكاسة حقيقية على المستوى المادي، من خراب ودمار وخسائر لا تحدها حدود، أما على المستوى المعنوي فالآثار الجسيمة التي تطال الجوانب السيكولوجية المحاطة بمجموعة من الأمراض الهستيرية، وهنا، الروائية تغوص في عمق الجراحات الإنسانية، لتصور لنا مشاهد دراماتيكية مشتعلة بالأسئلة الوجودية، لذا، يطالعنا موضوع اليتم كحالة متشظية، تعمل على احتواء الكينونة من منظور سلبي، يزعزع استقرارها ليضعها في بوتقة القلق الأنطولوجي «لطالما تساءلت في خلواتي، ماذا لو لم يذهب والدي لجبهة القتال؟ ماذا لو عاد إلينا مثل كثيرين ممن عادوا من الحرب؟ لم تكن والدتي حينها مضطرة لتحمل ألم المخاض وحيدة في غرفتها بين يدي القابلة، لم أكن ساعتها لألقب باليتم منذ اللحظة الأولى لولوجي عالم الأحياء».
    والمهم في هذا السياق، أن هذه الطفولة الثائرة على هذا الواقع المعيش، وجدت نفسها قابعة في مستنقع أكسبها هوية جديدة تحت طائل مجموعة من الظروف المزرية بتداعياتها المتباينة، الأمر الذي أودى بها في أن تعيش أحلاما يستحيل أن تتحقق في الواقع، فأمل عودة والدها بات حبيس المخيلة والذاكرة، وأن موته كان من بين الأفكار المرفوضة إطلاقا من لدنها، لكن نستحضر في هذا الشأن المثل القائل: تجري الرياح بما لا تشتهي السفن. وعلى هذا الأساس، كان الزمن في صيرورته وإيقاعاته الجديدة المتواصلة في تمددها وانصهارها داخل أدغال الواقع؛ كفيلا في إحراق كل مرايا الأشواق والأمنيات، بأن تلج عالم النسيان، هذا النسيان الذي يعمل جاهدا على رسم ملامح تكون أكثر واقعية في قبول الراهن، والإقبال عليه تعسفا وظلما وعدوانا، تقول الساردة بضمير المخاطب على لسان شخصيتها «لا أذكر تماما الزمن الذي تخليت فيه عن التشبث بأمل عودة والدي من الجبهة. كنت أرفض فكرة موته هناك. كم حرصت في كل ليلة على تخيل وجهه وهو يلج باب منزلنا، يحيطني بذراعيه الكبيرتين، يصب في روحي حنان الأب الذي طالما افتقدته. كانت الأعوام الطويلة كفيلة في إخماد تلك الأحلام».
    والجدير بالذكر أن هذه الطفولة المضطهدة عكست حقيقة وصمة عار ظلت في سيرورتها عالقة في جبين المجتمع؛ نتيجة غياب الأسئلة الأنطولوجية المحركة لعجلة الحياة، الأمر الذي يسوقنا إلى اللحظة التي أعلنت فيه الطفولة صرختها المدوية في عالم يسوده الجشع والأنانية والتعلق بالذات؛ لأن وجه العالم لا يكف عن التحول، فهو «مدهش منذ قدم غائر في ذاكرة الوجود، هو هكذا لأنه يختلف دائما، فيكتسب ملامح جديدة لا تتعرف عليها مرآة الثبات. العالم رغم تقدمه في العمر يظل ساحرا لأن قوانينه تسمح له بالتجدد، الذي ضمن له بقاءه إلى الآن، ويضمن له استمراره في الركض صوب غزالة الآتي التي يحب» على حد تعبير الناقد الجزائري محمد الأمين سعدي، فعملية التفكير الواعي، من خلال العنونة التي بين أيدينا «ولادة بلا رحم» ملفوظ لغوي يعكس كل ما من شأنه أن يضعنا ضمن آفاق جديدة، إذ تجد ملاذها في عالمها الخاص، الذي تحيا في كنفه وحضنه، معبرة الكينونة عن آلامها وأوجاعها وأحلامها وتطلعاتها من جهة أخرى، وتأسيسا على ذلك، أراد بطل الرواية علاء أن يعيد للحياة نبضها، مستلهما ذلك الأوكسجين من رئة الوجود، حتى يعيد للذات وهجها، والوجه المشرق في هذا السلوك والتصرف البراغماتي، يندرج ضمن فلسفة حاملة لمفاهيم الديمومة والاستمرار، من خلال التكافل والتضامن النابع من تلك الولادة المقطوعة الرحم، وهذا ما يعكسه المقطع السردي الآتي «كانت تلك لحظة أعلنت فيها ولادتي من جديد».-
    (حاولت الرواية قدر المستطاع أن ترينا الواقع عبر صورة بانورامية، تجسدت في رسم وجه الطفولة المشردة والمقهورة والمحرومة، من خلال رصد تلك الأجواء العائمة التي تتلاشى في ضوئها كل المعاني الإنسانية التي أفرغت من معدنها النفيس ومحتواها الأصيل.)
    وقد عبرت هذه المقطوعة السردية عن الولادة التي أحيت الضمير الخامل فاشتعلت عن آخرها، الولادة التي جعلت من بطل الرواية علاء رجلا شهما في مواجهة التحديات والصعوبات، التي رفعت من قدره بأن يرتاد مصاف الإنسانية في أبهى صورها، ولادة سيحل وجه الصبح في أكنافها، بالتقاط الطفولة التي لفظها المجتمع بحيث تركها تعيش واقعا متصدعا، وإزاء هذه المشاكل الرئيسية أصبح من الواجب من منظور علاء مرافقة أطفال الشوارع، الذين خلع عنهم لباس الطفولة؛ بسبب التهميش وضنك العيش واضمحلال الشرط الإنساني، وتجلى ذلك في ربط جسور التواصل بالاقتراب منهم أكثر للتعرف على أحوالهم الشخصية، النفسية والاجتماعية والاقتصادية والثقافية، وفي ظروف مماثلة لهذا المعنى، نخص بالذكر، شخصية الطفل وائل بائع السجائر، وكان طفلا كما وصفته الكاتبة زهراء طالب حسن، على لسان بطل الرواية علاء لم يتجاوز العاشرة من العمر، أشعث الشعر، قذر البشرة، يرتدي ملابس باتت من القذارة والقدم ما يجعلها جديرة بأكوام القمامة، ومن المؤكد أن هذه الخطوة أثمرت من خلال المونولوج الداخلي، الذي ترعرع في حضن اليقظة المنبثقة من تلك الرؤيا، التي آتت أكلها عندما احتكمت إلى الأبعاد الروحانية في توقدها على حساب المصلحة الشخصية «شعرت بالعار يسري في شراييني بعدما رق قلبي لأولئك الأطفال المعذبين في تشردهم، تأخرت كثيرا في مشاعري تلك! شعرت بيدي ملوثتين وقد اشتركتا في جريمة اضطهاد طفولتهم. فمن يقف مكتوفا عاجزا، بل من يستنكر وجود تلك الوجوه البائسة وينزعج منها مشارك بالجريمة حتما مع سبق الإصرار. كانت رياح الاستنكار تعصف بأفكاري، تقلبها رأسا على عقب، تدني بعيدها وتقذف قريبها، تفجر براكين كانت خاملة، تذيب جبالا جليدية تكومت فوق قلبي. حاولت التوصل إلى هدنة مع روحي الثائرة بأن أطمر أفكاري وأنتبه لعملي وأجتهد فيه متناسيا الخيانة البشرية التي تشهدها الإنسانية..».
    حاولت الرواية قدر المستطاع أن ترينا الواقع عبر صورة بانورامية، تجسدت في رسم وجه الطفولة المشردة والمقهورة والمحرومة، من خلال رصد تلك الأجواء العائمة التي تتلاشى في ضوئها كل المعاني الإنسانية التي أفرغت من معدنها النفيس ومحتواها الأصيل، ويبرز هذا بجلاء، في عدم انسجامها مع الواقع، في ظل الممارسات اليومية، وتتمظهر هذه الفكرة من خلال الظلم والحرمان والتشرذم والمجاعة، تقول في هذا السياق «مع أولى بشائر الشمس، حيث تبدأ العصافير زقزقتها، فتح عينيه منتبها إلى عالم لا يشبه عالمه. بدا فزعا، اتسعت عيناه دهشة بينما أطبق بكفه على فمه، وكأنه يمنع صرخة كادت تتفجر منه راح يحك شعره بيده الأخرى، وكأنه يحفز ذاكرته التي أصابها الصدأ». وتبعا لذلك، كخلاصة ضاغطة، أن هذه الحركة الفاعلة والحيوية في استنطاق الواقع المعيش بكل أمانة وصدق من قبل الروائية زهراء طالب حسن؛ يجعل العمل الفني يتجاوز مجالات الاختزال، ويتعلق الأمر، في تلك الانبناءات السردية المنضوية تحت حواف العرض والتمثيل والرمز والفعل الدرامي، كاشفا هذا الأخير عن كل الوجوه التي تقفز على ثنائية الوجود والعدم، بمعنى، القضاء على سياسة الحجب والتمرير بتعبير جاسم سلطان، وأمام جملة من القناعات، فرصد مثل هذه الظواهر الاجتماعية، من شأنه أن يفتح مستجدات للتغيير في شكله المادي الملموس، إذ يقذف بنا في أجواء ترسو على واقع أفضل ينم عن مستقبل مشرق داخل حركة الواقع الاجتماعي، ولن يتأتى هذا الغرض إلا في ظل حضور المنط الواعي المتيقظ المتشبع بالأبعاد القيمية التي تحكمها الاعتبارات الإنسانية الكبرى.