يقارب الباحث والناقد الأردني الدكتور غسان عبد الخالق في كتابه “بلاغة السلطة”، البلاغة السياسية بمعناها الثقافي والحضاري العام، بدءاً من الدولة والمذهب، فجدل السلطة والسلطة الموازية، مروراً بـبلاغة الشارع، والبحوث التطبيقية في النقد الثقافي.
يتضمن الكتاب الصادر عن “الآن ناشرون وموزعون” (2024)، إشارة ومفتتحاً وتمهيداً بلاغيّاً وثلاثة فصول، حمل الأول عنوان “دفاعاً عن شرعية الدولة العباسية: قراءة تحليلية في رسائل إبراهيم الصولي”، والثاني: “دفاعاً عن عروبة الدولة العباسية: قراءة تفكيكية في (البيان والتبيين) للجاحظ”، بينما جاء الثالث بعنوان “دفاعاً عن بلاغة الدولة العباسية: قراءة ثقافية في مقدمة (أدب الكاتب) لابن قتيبة”.
ووقف الباحث في التمهيد البلاغي على الدّلالات البلاغية السياسية في النثر العربي، مشيراً إلى أنه لا بد من تجاوز مركّب النقص ومشاعر الذنب أمام البلاغة الغربية، والعمل على استنباط المطلوب من النصوص العربية، وفق سياقاتها التاريخية والسياسية والفكرية والأدبية، موضحاً أن “سجع الكهان” في العصر الجاهلي، مثّل البلاغة الأكثر سطوة على الناس، لأسباب أسلوبية ونفسية.
وأوضح عبد الخالق أن النثر الإسلامي تصدّى لسطوة الكهّان عبر بلاغة الإيقاظ؛ بالتركيز على وحدة الموضوع، واجتناب السجع العشوائي، وسهولة الألفاظ، وربط الخطابة بأيام الجمع والأعياد ومواسم الحج، أما في العصر الأموي فمثّلت البلاغة السياسية الخط الأول من خطوط الصراع الذي كان دائراً في الدولة، وفي العصر العباسي مثّل عهد المتوكّل الذي امتد خمسة عشر عاماً، “مختبراً تاريخيّاً وسياسيّاً وفكريّاً وبلاغيّاً مكثّفًا واستثنائيّاً”، وعكست الجهود البلاغية لإبراهيم الصّولي والجاحظ وابن قتيبة دفاعاً عن شرعية وعروبة وبلاغة الدولة العباسية.
في الفصل الأول، أكد الباحث أنه رغم كثرة الفوائد التي يشتمل عليها “كتاب الوزراء والكتّاب”، فإن التلازم الشديد بين الخلافة العباسية والكتابة الديوانية من جهة، وخطورة الأدوار التي اضطلع بها الكتّاب في هذه الدولة من جهة ثانية، يمثّلان أبرز الحقائق التاريخية والسياسية والبلاغية، وهذا التلازم وهذه الأدوار أكدا أيضاً ما سبق لعبد الحميد الكاتب أن نصّ عليه بخصوص حيوية الوظيفة التي يضطلع بها الكتّاب، إلى درجة القطع بأن موقعهم من الخلفاء هو موقع أسماعهم التي بها يسمعون، وأبصارهم التي بها يبصرون، وألسنتهم التي بها ينطقون، وأيديهم التي بها يبطشون، وكأنه قد رأى بعين بصيرته ما سوف يُضاف إلى الكتّاب من مهام استشارية وتنفيذية، فضلاً عن مهامهم التعبيرية.
ويلقي الفصل الثاني الضوء على طبيعة بنية الدولة العباسية في عهد المتوكّل، وعلى شخصية الجاحظ المركّبة، وعلى منهجية “البيان والتبيين”. وفكك الباحث فيه آليات التلقّي التي أسهمت – بفعل “نسق التواطؤ” وفقاً لتعبيره – في إعلاء “البيان والتبيين”، وحجْب كثير من المآخذ عليه.
وفي السياق، درس عبدالخالق مركز خطورة هذا الكتاب البلاغية الجدالية، الذي يتمثل في “باب العصا” وتوابعه، مقدماً تصوّراً يفسّر الفوضى المنهجية التي اعترته، مع استعراض المآخذ والتناقضات والمفارقات اللّافتة فيه، مبرزاً في الوقت نفسه ملامح النجاح الذي حققه الجاحظ على صعيد “تقويض الأُطروحة الشّعوبية، وعلى نحو جِدالي مدروس”.
وفي الفصل الثالث عاين عبد الخالق النثر السياسي في العصر العباسي الأول بوجه عام، وسلّط الضوء على مقدمة “أدب الكاتب” لابن قتيبة بوجه خاص، من منظور النقد الثقافي، وأوضح أنه على الرغم من أن العصر العباسي الأول يمور بالنصوص النثرية التي يمكن تحليلها من منظور ثقافي، فإن مقدّمة “أدب الكاتب” تحديداً تمثّل بياناً صريحاً وحازماً بخصوص أزمة النثر السياسي العباسي، مشفوعاً بالأمثلة والأسماء، فضلاً عن التطوع لإيجاد المخرج المثالي لهذه الأزمة.
ورصد الباحث الملامح الجمالية العامة في مقدّمة “أدب الكاتب”، مثل: الإسهاب، والاقتضاب في التحميد، والإسراع في الوصول إلى الغرض الأساس، والوضوح الذي لا يحتمل اللبس، إلا أن عنايته انصبّت على إبراز النسق العام المضمر في هذه المقدّمة؛ ممثلاً في إدانة عجمة وركاكة البلاغة السياسية للدولة العباسية.
نُشر في (وكالة الأنباء العمانية)
27/5/2024