صدام الزيدي
شاعر وصحفي
على شرفة الأطلسي، في ساحل “طنجة” المغربية، يقبض سيف الرحبي على جمر الكتابة مبتدئًا كتابه هذا، المحتشد بالمكان والأصدقاء والرموز وأسئلة الانصهار العربي، من مشهدية هروب أهل المغرب من حرّ القائلة في ذروة صيف ملتهب إلى الماء، حيث يلتقي البحر المتوسط بالمحيط الأطلسي، وحيث توالت أسفار شاعر كان للمغرب نصيب كبير منها، إذ زار أصيلة والرباط والدار البيضاء وفاس ومراكش، في أوقات سابقة، تلبيةً لدعوات ثقافية، لتكون زيارته لطنجة، قادمًا من مطار “أورلي سود” الفرنسي، ليستقر به المقام أولًا، في ضاحية “رأس سبارطيل” التابعة لطنجة.
في تلويحة العنوان الرئيس للكتاب، يستعيد سيف الرحبي، رمز الطائر (الحكيم) الذي لا يطير إلا ليلًا، مستفيدًا من الفكرة الذي يذهب هيغل لتوكيدها، وهي أن الفلسفة والحكمة قدرهما أن يطلعا من بين براثن الظلام والتردي.
تضمن الكتاب توليفة من أدب الرحلة والمقالة بلغة لم تخلُ من دفقات الشعر وحيرة الفلسفة وأسئلة العدم والاشتباك مع الآخر سواء كان شخوصًا أو أمكنة، إذ يفتح الرحبي بابًا واسعًا للسفر في أغوار المكان، على أنه يخوض في غمار الراهن السياسي والثقافي العربي، مستعيرًا أجنحة طائر الفلسفة (بومة منيرفا) التي كلما أرخى الليل سدوله، طارت وفردت جناحيها في الأجواء.
مغترفًا من الفلسفة والتاريخ والشعر والفنون، يؤنسن الرحبي لحظة انهيار عربية واضحة لا غبار عليها، مثيرًا أسئلة الكتابة وذكريات الترحال ومدونة التشظي، من أقصى المحيط إلى أقصى الخليج، متوغلًا في المكان راصدًا تحولاته، وراسمًا أحلام من صهرتهم الحياة، فباتوا يركضون في كل اتجاه، رغبة في تأمين لحظة عصيبة، وتعلقًا بخيط نجاة مهترئ، معلق على حافة اليوم الطويل.
منيرفا هي إلهة العقل والحكمة عند قدماء اليونان. وأما العبارة/ العنوان “بومة منيرفا”، فيرمز بها هيغل وعدة فلاسفة إلى مصطلح الفلسفة، عمومًا، لميلها إلى العزلة والعيش في الأماكن المهجورة والخروج ليلًا محتجبةً ومتواريةً عن الأنظار.
تتضمن مواد الكتاب نصوصًا تترجم شغف شاعر مسكون بروعة الجغرافيا ولا يجد مفرًا من مكابدات يوميات سفر وإقامة لا تنتهي. يحاور الكاتب الأسلاف الذين كانوا على هذه الأرض هنا أو هناك، كما أنه يحاور الأمكنة ويستنطقها لتقاسمه الحيرة ولتمنحه فسحة يلتقط فيها أنفاسه المتعبة فيما يترك لمخياله الشعري تأثيث كتابة تمتد حتى ما بعد الحدود الممكنة للأفق البشري.
نص جديد، طازج، له أجنحة، يغوص في الأنحاء وفي الأمداء، قلِقًا ومغامِرًا ومتأمِلًا، نعثر فيه على الشعر والسرد والسيرة والنزوع إلى أفضية النور، من بين دروب الظلام، حينما يبتكر الرحبي أسطورته الخاصة ويستدعي رمزه الخاص أيضًا، في سياق الخلق الكتابيّ الإبداعيّ.
أما عن الكتابة فـي الأزمنة الصعبة، فيتساءل الرحبي في عنوان أحد مقالات الكتاب (افتتاحيات كتبها وتصدرت أعدادًا من مجلة “نزوى”): أما زالت بومة منيرفا تستطيع التحليق في الظلام؟، وهو هنا يرمي بحمولة ثقيلة أعياها السؤال فتضاعفت حيرتها، في اتجاه مثاقفات مترنحة، وأفضية تتماوج في المجهول.
“ليل طويل”
“في ليل المسافة الطويل”، يتماهى الرحبي مع صيف المتوسط والأطلسي، متأملًا الوجوه والأجساد والجبال والتلال والأمواج والقوارب والسفن العملاقة، كلها تلامس وترًا في روحه المنهوبة بالمكان والركض إليه، فيما يسافر في أرض الله، فاتحًا أبواب الدهشة وراسمًا حيرة الفلاسفة على كل شبر مرّ عليه في البحر واليابسة.
يبرع سيف الرحبي، في كتابة نص طويل، مؤثث بالشعر والحنين ومحاورة الآخر، سواء كان بشرًا أو حجرًا، ومستحضرًا أسلافًا ورموزًا وأمكنة وشخصيات من الماضي والحاضر، إذ يكتب مقالة هي في صلب أدب الرحلة، وينجز قصيدة، هي ذروة الشغف بالمكان والافتتان به، والحزن عليه من وعثاء اليد التي ينبغي عليها أن ترعاه وتهتم به…
“شغف بالفلسفة”
يكشف الرحبي في سياق تدوينه لرحلاته في المغرب، أنه وجد في المغرب والبلاد المغاربية عامة، ما لم يجده في المشرق: ذلك الشغف حدّ الهوس والجنون بالفنون والفلسفة، الطليعي منها واللامألوف الذاهب صوب المغامرة والخطر والمجهول. هوس عبّر عنه أصحابه كتابة وسلوكًا، حياةً وموتًا. أحيانًا يفيض هذا الهوس والاندفاع بالمعرفة على الكتابة فتتراجع هذه إلى آخر الهموم وهواجسها.
ويضيف: كم من مثقف مفعم بالقراءة المبحرة في شتى المعارف والأنماط التعبيريّة، يزهد بالكتابة والشهرة، فتتحول هذه الحصيلة المتراكمة إلى حياة وأسلوب حياة، إلى خطاب يومي شفوي، يرفد الثقافة بهذا العمق الزاخم أكثر مما يكتب. هذا الرافد من روافد هذه الثقافة، يصب في متنها العريض بأسمائه البارزة في ساحة الثقافة والفكر العربييّن.. فقد أعطت هذه المناطق في الثلاثين سنة الأخيرة وأمدّت ثقافة العرب وفكرهم الذي وصل في بعض أقانيمه إلى التنميط الأيديولوجي وضجر التكرار العقيم، بكل ما هو جديد، مبعث سجال مضيء.. الأسماء في هذا المنحى من فرط إلحاحها وحضورها، ليست بحاجة الى إيراد وتسطير..
ويخصص الرحبي مقالة عن فاضل العزاوي، وفي السياق تتبع حزمة رسائل إلى أدباء وكتاب عرب، تم تداولها معهم في منصات التواصل وعلى تواصلية شبكة الويب، وفيما يستنطق الأمكنة ويحاورها، يعرج على ذكريات في بغداد ودمشق وحديقة لوكسمبورغ في باريس، وثمة مقالة عن “نزوى” المجلة التي يرأس تحريرها وتعد نافذة عُمان الثقافية على العالم، وبوصفها مشروع/ حلم “الحرية والإبداع”.