منال العبادي
تأريخ الجغرافيا والموروث الشعبي
في رواية “فاطمة بين البارود والسنابل” للكاتب الأردني الدكتور محمد عبدالكريم الزيود (الصادرة عن دار الآن ناشرون، 2021) تُعدّ عملاً روائياً متميزاً يجمع بين السرد التاريخي والحكاية الإنسانية الشعبية، حيث تنسج خيوطاً درامية بين الماضي والحاضر، وتوثّق تحولات مفصلية في المجتمع الأردني عبر عقود من الزمن، من منتصف الأربعينيات حتى الثمانينيات. الرواية لا تقدم سيرة فردية لبطلة اسمها “فاطمة” فحسب، بل تصبح مرآة عاكسة لتاريخ وطن بأكمله، بكل ما حمله من نكبات وحروب وتضحيات.
في عنوان رواية فاطمة البارود والسنابل”، تكمن المفارقة في الجمع بين كلمتين تحملان دلالات متناقضة:
البارود الذي يرمز إلى العنف، الحرب، الدمار، والصراع والى الدفاع عن الأرض والعرض ايضا فذات الكلمة تحمل النقيضين حسب طريقة استخدامها .
ورغم وجود البارود والسلاح الا أن الوطن في تلك الحقبة لايزال تحت سطوة الاستعمار.
والسنابل التي ترمز إلى السلام، الخصوبة، الزراعة، والحياة والعطاء كما أنها تعبر عن الاستغلال من قبل الاقطاعيين .
فرغم السنابل ووجودها لكن لازال الفقر موجودا.
لعب الكاتب هنا على
التضاد الرمزي لكلا المفردتين والجمع بين “البارود” (التفجير والموت) و”السنابل” (النماء والخصوبة) ليُظهر لنا صراعًا بين قوى التدمير وقوى الحياة، مما يخلق تناقضًا دراميًا يجذب القارئ وكانت هذه الجرعة التشويقية والتسويقية الأولى للرواية .
وجعل ايضا من الثنائية في الرواية عنوانا للصراع الداخلي أو الخارجي للشخصية الرئيسية (فاطمة) بين العنف والأمل، أو بين الحرب والسلام، خاصة وقد كانت القصة تدور في بيئة قروية تشهد صراعات اجتماعية واقتصادية وسياسية .
وعزز الكاتب السياق التاريخي و الاجتماعي ، فأن “البارود” يرمز إلى الثورة، بينما ترمز “السنابل” إلى الأرض والهوية التي يُدافع عنها.
:
فتُثير هذه المفارقة فضول القارئ لمعرفة كيف تتعايش أو تتضارب هذه العناصر في القصة، مما يعمق الأبعاد الرمزية والموضوعية للرواية.
اما بالنسبة للتفاعل العضوي بين المكان والتاريخ والأحداث فقد كانت الرواية تأريخا للجغرافيا وتأريخا للمكان ولحقبة زمنية كاملة فذكرت أحداثا تاريخية بحذافيرها .
إن الرواية العظيمة هي التي تدمج المكان والتاريخ والأحداث في عمل واحد، لتصنع عالمًا روائيًا رغم تخيله يبدو حقيقيًا هذا التفاعل يجعل القارئ يعيش داخل النص ويعايش أحداثه وشخصياته، ليُعيد اكتشاف ذاته من خلال عوالمه.
إن الإطار الحيّ للرواية هو حضور المكان
والمكان في الرواية ليس مجرد مسرح للأحداث، بل هو كيان حي ينبض بالذكريات والصراعات. قد يكون المكان مُعبرًا عن الهوية مثل المدن القديمة (القاهرة في “زقاق المدق” لنجيب محفوظ، حيث يصبح الشارع أو البيت رمزًا للانتماء أو الاغتراب.
وقد يكون مُحمّلاً بالرمزية كالصحراء في “موسم الهجرة إلى الشمال” للطيب صالح، التي تُمثل العزلة والاصطدام بين الثقافات.
أو تكون فاعلًا في الحدث كما في السجن في “الأيام” لطه حسين، حيث يصبح المكان شريكًا في تحدي الشخصيات.
لكن المكان(مدينة الزرقاء وقراها وخاصة حي الغويرية ) في رواية فاطمة ليس مسرحا للحدث وانما هو تأريخ للمكان وما حدث عليه .
السؤال هنا هل حول الكاتب المكان من بطل صامت كما في روايات “واسيني الأعرج” عن الجزائر، حيث تدخل الأحياء الشعبية والمدن المُدمرة في حوار مع التاريخ إلى بطل ناطق مصور ومؤرخ حيث أضاف له لسان ولغة لها صوت باستحضار شخصيات الرواية على المكان.؟!
ثم قام الكاتب ببناء الأحداث بخاصية (الفلاش باك) او السرد الاسترجاعي فكانت الأحداث تبدأ من نهايتها عودة للماضي .
وعمل ذلك على تفاعل الشخصيات مع الزمان والمكان ليكون حدثا متميزا.
مع العلم ان الأحداث في الرواية تُبنى على التناقضات بينها
فمرة بين القدر والفرد كما في موت حمدان في ليلة عرسه
ثم التقاليد والحداثة مثل صراع الأجيال في تلك الغجرية المتمردة وفي المقابل شخصية صبحا المكافحة.
وجمع بين الذاكرة والنسيان كما في أحداث الحرب عام ١٩٤٨ الى ١٩٦٧
وقد كانت الرواية ممتلئة بالتفاصيل اليومية المتراكمة لصنع جسد الرواية جامعا فيها كل ماسبق.
بعد ذلك دمج الكاتب التاريخ مع المكان والأحداث ومن خلال الذاكرة الجمعية والصراع
خلق الكاتب إطارًا زمنيًا يُحدد مسار الأحداث حيث بدأت من منتصف اربعينات القرن الماضي الي الثمانينات راصدا فيها صراعات وتحولات مفصلية في تاريخ الدولة وهي المجتمع الكبير ثم على مدينة الزرقاء وقراها كمجتمع أصغر.
وجعل الكاتب التاريخ مادة للتفكيك والنقدحيث أعاد كتابة ونقد التاريخ على لسان ابطال روايته المهمشين والمطحونين تحت رحا قمع الفقر والصراعات الاجتماعية.
فكان أداة لاستحضار الذاكرة في أحداث اللجوء والنكبات مثل توثيق مجزرة (الشيخ جراح) حيث أصبح الماضي عبئًا يُلاحق الحاضر وكان نقطة تحول نحو الايجاب او السلب حسب منعطفات الأحداث المتداخلة في الرواية .
وبهذا وبناءا على ماسبق لقد صهر الكاتب روايته بموروثها كاملا ليخلق تاريخًا موازيًا، ودمج الواقع بالتخيل ليكشف لنا عن حقبة تاريخية مهمة من خلال عين الكاتب الأدبية .
تميزت الرواية بحبكة مترابطة، تجمع بين البعدين الزماني والمكاني بسلاسة. اعتمد الكاتب أسلوباً سردياً تقليدياً يمتزج فيه الوصف بالحوار، مما أعطى النص حيوية وقرباً مشابها للواقع. ومع ذلك فقد رفع الكاتب وتيرة المشاهد التراجيدية (كموت حمدان في ليلة زفافه، أو انتحار سلمان الراعي)،
جاءت اللغة بسيطة معجونة بنفحة شاعرية تتناسب مع طبيعة الحكاية الشعبية حيث استخدم الزيود مفردات محلية (كـ”الكدح” و”السنابل” والبيادر ) لتأصيل البيئة الأردنية، مما جعل الرواية سهلة التناول لدى جميع القراء.
فكانت الرواية توثيقا اجتماعيا وتعزيزا للخطاب الوطني من خلال توضيح دور القوات المسلحة الأردنية ودورها الكبير في الدفاع عن الوطن والقضية الفلسطينية.
وبالرغم بأن الكاتب على تمجيد صورة المرأة الصابرة (فاطمة، صبحا)، إلا أن الرواية لم تمنحها صوتاً تحررياً، بل أبقتها في إطار “المناضلة الصامتة”.
فاطمة بين البارود والسنابل” (الأردن) عمل أدبي مخلص لروح التاريخ الأردني، ويُعدّ إضافة جادة وحديدة للأدب العربي الذي يتناول قضايا الهوية والذاكرة المجتمعية.
(منال العبادي، صحيفة المراسل، 7/6/2025)