موسى إبراهيم أبو رياش / ناقد أردني
«تنازلات»، مجموعة قصصية للقاصة الأردنية سمر الزعبي، تضمنت ستًا وعشرين نصًا قصصيًا، متنوعة الموضوعات، اقتنصتها الزعبي من واقع المجتمع والحياة، وبعضها مما يمور في داخلها ويؤرقها. ولفت نظري في هذه المجموعة القصص التي كان للشر فيها نصيب كبير، وقد أحسنت الكاتبة صنعًا بتصوير مشاهد الشر ووصفها، وهي لم تتخيل أو تتكلف، بل هي مشاهد مألوفة مُعاشة، يعاني منها المجتمع، وسردها قصصيًا بهدف قرع جرس الإنذار، وتوجيه الأنظار لمن يهمه الأمر، وقليل ما هم. الشر ليس طارئًا على البشر، بل ولد معهم، وأول تمظهراته قتل قابيل لأخيه هابيل، ومن يومها كان للشر النصيب البارز والسطوة والسلطة، وإن كان يتخفى خلف ألف قناع وقناع، ولكنه الشر، ولا تخدعنا المصطلحات البراقة، فجوهر الشر واحد، وإن كان مقترف الشر ليس شريرًا بالضرورة، لأن الخير والشر متلازمان في النفس البشرية، يظهر هذا ويتوارى ذاك أو العكس، والإنسان الخيِّر فيه شر لم يجد الفرصة للظهور أو لم تكن الظروف مواتية، ولكن من المؤكد أن كل إنسان قد ارتكب فعلًا شريرًا وإن كان صغيرًا بسيطًا، وإلا لن يكون إنسانًا. تتناول القصة الأولى «عدسة» لقطات من مشكلة اجتماعية، تبدأ صغيرة ثم تتطور وتنداح، ففي القصة يضرب الرجل زوجته، فتترك بيتها إلى بيت أهلها، فيذهب الأخ ليتفاهم مع الزوج، ولكن يبدأ السباب والشتائم، ويتطور إلى تضارب وكسر أيادي. هذه المشكلة إلى هنا عادية، وأفعال شريرة مُدانة، لكن المؤلم أن يحدث كل ذلك بمرأى من الجيران والمارة ولا يتدخل أحد، فالكل متفرج لا يعنيه الأمر، وكأنه يشاهد فيلمًا سينمائيًا على الهواء مباشرة، وعندما تدفع النخوة أحدهم للتدخل، يوقفه أبوه ويؤنبه. إنها الروح الإنسانية المتآكلة، وعدم الشعور بالمسؤولية الاجتماعية، والنأي بالنفس عن كل ما قد يسبب لها الأذى ولو كان على حساب أجساد تمزق وأرواح تزهق، إنه أحد أوجه الشر، فعندما لا تتدخل لوقف الشر وكفه وأنت تستطيع، فأنت تقترف فعلًا شريرًا لا شك فيه. يؤدي الخطأ الطبي لطبيب التخدير في قصة «غلطة» إلى شلل المرأة على سرير الولادة. صحيح أنه خطأ طبي، ولكن نتيجته لا تختلف كما لو كان الأمر متعمدًا، وما وقع على المرأة شر كبير وأذى لا يُرجى علاجه، وقد يجد الطبيب في القانون منفذًا، ولكن القانون نفسه في بعض الدول يجرمه ويعاقبه، ويحمله وزر عمله؛ لأنه ارتكب فعلًا شريرًا دون قصد. تتناول قصة «يحيا العْقَال» ظاهرة باصات الكوستر في الأردن، والسلوكيات المشينة لبعض السائقين، مثل تشغيل أغاني هابطة بكلمات بذيئة تخدش حياء الرجال والنساء على حد سواء، وعندما يطلب منه البعض أن يوقف الأغاني، يتبجح ويزداد بذاءة، وينضح قذارة، ولا يتوقف إلا تحت ضربات «العْقَال» من يد رجل كبير السن. إن هكذا تصرفات بحاجة إلى لكمة عندما لا تجدي معها الكلمة، ويصدق فيهم المثل «ناس تخاف ما تختشي». وقريب من هذه القصة قصة «أنا مسكين»، التي تسلط الضوء على التصرفات القذرة لكنترول الباص، الذي يعرف بأنه «مساعد سائق»، وهو في الغالب القائد الفعلي للباص، حيث يجمع الأجرة، ويتحكم أحيانًا في جلوس الركاب، ويطلب من السائق التوقف أو التحرك. بعض هؤلاء يفجر بسلوكياته السيئة، ولا يتورع عن الإهانة والسباب والتهكم وخداع الراكب الغشيم وعدم الوصول إلى نهاية الخط وو….، ولا يأبه بأحد ولا يحترم سنًا أو يخجل من امرأة كبيرة السن، ولكن للفتيات الجميلات كل الدلال ويحرص أن يوفر لهن المقاعد وإن على حساب الركاب الآخرين، وهم لا يتوقفون عن تصرفاتهم الرعناء عندما يجابهون بالاعتراض، فيتحول الباص أحيانًا إلى ميدان صراع يرعب جميع الركاب وخاصة الأطفال والفتيات. إن سلوكيات سائق الباص في القصة الأولى والكنترول في القصة الثانية، سلوكيات شريرة يفاخرون بها، ويعتبرونها من مظاهر رجولتهم، وفرض مكانتهم. ومع أن القصتين تصوران مشاهد واقعية، إلا أنه يمكن قراءتهما على أنهما قصتان رمزيتان لبعض مظاهر السلطة صغرت أم كبرت. في قصة «كبرت»، يتمرد الطفل على كونه غطاء لأم عاهرة، يحميها من أعين الرقباء ورجال الأمن، فوجود طفل في السيارة معها ومع رجلها ليلًا، يبعد عنهما الشبهة، ولكن الطفل عندما يكبر لا يطيق لعب الدور القذر، خاصة وأنه كان يتعرض للضرب والركل، فيقتنص فرصة نزول الرجل، ويجلس أمام المقود، ويحرك السيارة، وينطلق، ثم يقفز، تاركًا السيارة نهبًا للصخور، بمن فيها. هي قصة شر من كل الأطراف، وما فعله الطفل انتقام لكبريائه وكرامته ولما تعرض له من أذى، ولكنه من وجه مقابل، فعل شرير بحق العاهرة، إنه الشر عندما لا يكسره إلا شر آخر، وثمة تساؤل: هل ما فعله الطفل خير أم شر؟؟ بعيدًا عن منطوق القانون، تبقى الإجابة نسبية لها عديد الأوجه والتبريرات.
يهاجم النمل في قصة «غريم» كل شيء حلو في البيت على الرغم من كل الاحتياطات، وفي أول احتفال لرجل البيت، الابن الأكبر للعائلة، يفسد النمل فرحتهم ولهفتهم لتناول قالب الكيك الذي ينتظرونه على أحر من الجمر، فما كان من الفتاة إلا أن هاجمت نملة لأول مرة وداستها بعنف. النمل هنا لا يمارس شرًا، وإنما يقوم بما جُبل عليه، ولكنه بالنسبة للأسرة أفسد فرحتها، وأتلف قالب الكيك المنتظر، هي بالتأكيد لا تعتبره شريرًا، ولكن ما قام به عمل شرير.
كما أن الفتاة بقتلها النملة فعلت شرًا بالنمل، وفعلته لأول مرة لأنها تؤمن أن قتل النمل فعل شرير بالتأكيد. ويمكن أن تقرأ القصة على أنها رمزية، لمن يعيثون في الأوطان فسادًا ونهبًا وعدوانًا. في قصة «تنازلات»، يحرق الزوج كتابات زوجته التي عملت عليها سنوات طويلة في وقت تقتنصه وسط أشغالها الكثيرة. ما قام به الزوج فعل شرير، ربما انتقامًا وغيرة، فقد ضاع تعبها الطويل في طرفة عين. ولكن في المقابل، ربما فعل خيرًا بمنح الخلاص للشخوص الورقية التي عاشت في ظلام درج في خزانة البيت، صحيح أنها احترقت، ولكنها رأت النور لحظات على الأقل. ثمة شيء مختلف في قصة «وأخيرًا»؛ فأحد الزعران يسكت عن عهر زوجته في بيته، لأنه لم يعد ينفعها كرجل إثر تعرضه لطعنه سكين، وكان يمارس نشاطه في السرقات وفرض الأتاوات والخاوات، وطلق زوجته بعد وفاة «الختيار» الذي كان يأويه في بيته. إنها تركيبة شر غريبة، فالأزعر تعرض لفعل شرير عندما طُعن بسكين، وهو شرير بدوره، وزوجته شريرة بلا شك، وعمل الخير الوحيد الذي فعله الأزعر هو إيواء «الختيار»، ولكن ربما هذا خير ظاهر، وهو يبطن أمرًا آخر، فقد ترك له «الختيار» أرضًا ودارًا ونقودًا، فهل فعله خير أم شر؟؟ هو سؤال إشكالي لا يمكن الإجابة عنه بسهولة. في قصة «مؤامرة» هناك من ألقى قطعة صابون على الأرض، مما أدى إلى زحلقة السيدة، فجرحت لثتها بنواة تمرة كانت تلوكها، وكسر طرف أحد الأسنان. الفعل بالتأكيد غير مقصود، وقد يكون لعب أطفال، ولكن ما آلت إليه النتيجة يحوله إلى فعل شرير، وإن كان من أطفال أبرياء، فالبراءة لا تمنع من اقتراف فعل الشر بحسن نية. تتعرض الفتاة المتأملة بحفلة عرس في قصة «المقامة الذهبية» للخداع من قبل خطيبها المنتظر، عندما لبس كل أساورها وعقودها وخواتمها الذهبية متظاهرًا باللعب والمرح، ثم هرب بها، مخلفًا لها الحسرة والخسارة وضياع الأحلام. إن الخداع شر، وهو هنا ثلاثة شرور على الأقل لا شر واحد، فالاستيلاء على الذهب شر، وخداع الفتاة شر، وكسر قلبها شر. لا يملك الرجل في قصة «وجه آخر» الجرأة للاعتراض على سلاطة لسان مديره أو إزعاج زميله في المكتب أو رزالة كنترول الباص، وكان يستكين طلبًا للسلامة، ولكنه في لحظة فاصلة، زاحم لركوب الباص وطالب بحقه في إرجاع الباقي الذي كان الكنترول يتغافل عنه، واعترض على مديره، وحصل على علاوة، وأوقف صوت الراديو بغضب، فشعر بالفرق، وعاد إلى بيته منشرحًا، وتحسنت علاقته بزوجته. ما فعله المدير والزميل والكنترول هي مظاهر شريرة وإن بدت صغيرة، ولكنها شر على كل حال، ولم يوقفها إلا الجرأة والمطالبة بالحق بقوة، وهكذا الشر لا يوقفه إلا قوة تغالبه. في قصة «جنس لطيف» تصوير لقاعة النساء في حفلة زواج، وما يحدث فيها من كيد وغيرة وحسد ومناكفات تؤدي إلى تأزيم الحفلة، وبداية قلقة للعروسين. هي مظاهر شريرة مصغرة، ولكن نتائجها سيئة في الغالب إن لم تعالج بالحكمة وحسن التصرف، وقد تؤدي إلى شروخ في الحياة الزوجية، وفساد العلاقات بين العائلات. إنه الشر الصغير الذي ينمو ويكبر ويتمدد. ثلاث فتيات في قصة «رابعهن قلم»؛ الأولى تزوجت واختفت، والثانية ماتت إثر انفجار، والثالثة اغتصبت جماعيًا. لا شك أن التفجير والاغتصاب من أقسى وأعنف أعمال الشر التي لا يختلف عليها أحد، وهي من أحداث الساعة في أماكن عدة، فالحروب منتشرة، وأحداث التفجير هنا وهناك، وحوادث الاغتصاب لا تنجو منها منطقة في العالم. إنه الشر عندما تشتد سطوته وجبروته، ويجد له أنصارًا وأعوانًا. تراقب الفتاة في قصة «شونيكا» بعض الأطفال في مثل سنها، يعذبون قطة ويجرجرونها ثم يعلقونها، ويبدأون بسلخها حية، ويتمادون بتصوير ما يفعلون، وينشرون الفيديو تفاخرًا ومباهاة. إنه فعل شرير مغرق بالوحشية والقسوة وانعدام الرحمة وإن خرج من أطفال، فهؤلاء نتاج مجتمع أفرز هكذا أعمال إجرامية شريرة، وهو المسؤول أولًا وأخيرًا. القصة الأخيرة «قيامة»، قصة رمزية مميزة، حيث يتوقف أهل الإبداع عن الكتابة بسبب الفقر والبطالة والفساد، فيستغل الجن الوضع، ودخلوا مجال الكتابة، وعرفوا ما فيها من قوة وسلطة، وحاربوا كل إنسي يهم بالكتابة، وقتلوا، وحرقوا، ولم تنج إلا كاتبة واحدة أحبها جني فأخفاها، وولدت طفلًا حملت به من إنسي قبل المحرقة، والجني يظنه ابنه على شك، فكسبت وطفلها قوى خارقة من الجن، فقادا ثورة على الجن، وإعادا للقلم البشري ألقه وقوته. هو الشر والأذى والإقصاء والقتل الذي يتعرض له حملة القلم عندما يعارضون أو يتمردون أو يكشفون مظاهر الفساد ويطالبون بالإصلاح والعدالة، فالسلطة، أي سلطة هي الجن الذين لا يرضون إلا بالخضوع لهم والتسبيح بحمدهم، وعدوهم الأكبر هم حملة الأقلام لما للقلم من قوة وسحر. وبعد؛؛؛ فإن «تنازلات، الآن ناشرون وموزعون بدعم من وزارة الثقافة-عمّان، 2017، 174 صفحة» هي المجموعة القصصية الأولى لسمر الزعبي، وصدر لها أيضًا مجموعة «شيء عابر». نالت جائزة رابطة الكتاب الأردنيين في حقل الرواية، المركز الثالث عن مخطوط «مدائن الندم»، وجائزة سواليف الأدبية في القصّة القصيرة، المركز الأوّل عن قصة «عدسة». ولها مشاركات ثقافية مختلفة ومتنوعة