تناقضات المجتمع في رواية “سجين الزُّرقة” لشريفة التوبي

تناقضات المجتمع في رواية “سجين الزُّرقة” لشريفة التوبي


class="inline-block portfolio-desc">portfolio

text

    الباحث خليفة الحوسني

    وأنا أدلفُ من باب صالون مكتبة قرّاء المعرفة، بعد الانتهاء من جلسةٍ حواريةٍ حول مجموعةِ قصص (موناليزا الموصل) بإدارة متميزّة من د/ غنية الشبيبي، قالت لي الأستاذة/ شريفة (اقرأ سجين الزُّرقة)! وكانت تريد بإشارتها هذه أن تدلل على أنه ليس بالضرورة أن من يكتب عن الفئات المهمشة بعمقٍ وتفاصيل دقيقة، قد مر بتجربة أليمة مُرَّة، وهي مسألة قد أجابت عنها في أثناء الجلسة ردًا لسؤالٍ طرحته وقد أثار حفيظة الحاضرين، وقد أجمعنا ليلتها بأن ذلك ليس شرطًا حيث إن هناك أدواتٍ يمكن للكاتب -إذا تملَّكها- أن يَخرج بعمل روائي بديع عن أولئك الذين لا يلتفت إليهم، ولا لمعاناتهم، وآلامهم، يتمثل ذلك في التخييل السردي، وسعة الأفق، وتراكم المعرفة، وقد وعدتها حينذاك أن أقرأ الرواية، بالرغم من اشتغالي بالدراسات العليا.

    اليوم أفرغ من قراءة الرواية بتأنٍ واستمتاعٍ لتفاصيلها، وأقول معلقًا: إن التفتيش في القضايا المجتمعية المسكوت عنها، والاقتراب من التابوهات التي تحيطها القدسية والحساسية المفرطة، أمر يحتاج معه الكاتب إلى الجرأة والكثير من الإخلاص، يمكنانه من حمل الفأس لتهشيم الجاهليات، وفي تصوري قضية زنا المحارم، فئة مجهولي النسب، اللُقطاء، أو (أولاد الحرام، والغبون، والنغول) كما يصفهم المجتمع، هي من القضايا التي تتطلب قدرًا عاليًا من الشجاعة لمناقشتها، لا سيّما في مجتمعٍ تسوده ثقافة العيب التي رفعت يدها عن التصرف أمام ما يستجد في العالم من أفكارٍ، وثقافاتٍ، وأحداث.

    تتحدث الرواية عن آثار جريمة زنا المحارم، ومدى تقبّل المجتمع لأمٍ وولدها غير الشرعي، ومصيرهم في مجتمع محافظ على نقائه العرقي، وما يتعرضون له من معاملة سيئة بسببِ ذنبٍ لا يد لهم فيه، بين نظرة الاستعطاف والازدراء، فشمسة بنت راشد أختٌ لثلاثة أطفال، ابتلع البحر أباها في رحلة صيد بحثًا عن لقمة عيش كريمة، أقيم العزاء حدادًا عليه بعد انقطاع أخباره، تزوجت أمها من رجلٍ بلا إنسانية؛ أملًا في أن يكون عونًا لها على تربية شمسة وإخوتها، إلا إنه كان بخلاف ذلك، يتسلل ليلًا لغرفة شمسة يهددها ويعتدي عليها جنسيًّا، وهي في السابعة عشرةَ من عمرها، لتلد طفلًا تسميه راشد، أبيض البشرة، له عينان واسعتان، وأنف حاد، وشفتان صغيرتان، ووجه دائري، وشعر أسود ناعم، ربّت أبنها خمسة أعوام، أُخذ منها بعد ذلك وظلت تراقب ابنها مدة ثلاثين عامًا، مطلعةً على معظم تفاصيل حياته، ومنها علاقته العفيفة بمريم، أودع راشد دار الأيتام بعد أن دخلت أمه محبسها لتقضي فيه محكوميتها لعشر سنوات، لأن الفعل تكرر أكثر من مرة، ولم تخبر أحدًا بما حدث، وأنها حاولت الإجهاض بتناول الأعشاب والأدوية التي أعطاها زوج أمها، وأنها كانت مدركةً لما حدث معها، قضت منها سبعُ سنين ونيّف بعد صدور عفوٍ عن بعض المساجين.

    أُمُّهُ من اختارت له هذا الاسم: “وربما لو كنت لقيطًا من لحظة ولادتي ستمنحني الدولة اسمًا آخر يدل على وجودي الآدمي في هذه الحياة، وحتى اسم الأب الذي منحتني إياه الدولة كهدية أو هبة ليس مميزًا، فمن السهل اكتشافنا من أسمائنا فقط، من السهل تعريتنا وكشف عوراتنا المخبأة بثياب الوهم الفضفاضة، فنحن لم نكن سوى غلطة، لحظة نزوة وتفريغ شهوة من جسد إلى جسد، وكنا دليل الإدانة لجريمتهم التي ارتكبوها في الخفاء، لذلك سارعوا بالتخلص منا كي يكملوا حياتهم وكأن شيئًا لم يكن، تاركين لنا مواجهة مصيرنا مع مجتمع بأكمله، ليعاقبنا ويجعلنا ندفع ثمن جريمة لم نرتكبها، وإثم لم نقترفه، فيطلق علينا من الألقاب ما يحطُّ من قيمتنا الإنسانية (لقطاء، أولاد زنا، أولاد حرام، غبون، نغول ..إلخ)”، أعانَ راشد في رحلة البحث عن أمه وحبّه لمريم الفتاة التي رأى فيها أمه، صديقه سالم ذو البشرة السمراء، الذي استخدم كمحرك ديناميكي للرواية، سالم الذي وجد في علبة كرتون أمام إحدى المستشفيات، دخل الدار وهو ابن يومين، اطلقت عليه الممرضة اسم سالم؛ لأنه سلم من الموت، وقد كانت حياته أشد بؤسًا من حياة راشد؛ إذا لم يتلقَ المعاملة الحسنة في الدار، ولم يرغب أحد باحتضانه من الأسر التي حرمت الأطفال، وهذا يعكس التمييز الذي يمارسه المجتمع دون وعي وفي حالةٍ من اللاشعور الجمعي، وإنه لمن المخيف حقًا أن يدوس الإنسان على عقيدته نظير شهوة جامحة، ثم يعمد لرمي ملاكٍ صغير على قارعةِ شارع مكتظ بالعابرين؛ لإخفاء جريمته باسم العيب والمجتمع!

    إلا إن سالم أدرك شروط اللعبة وقواعدها في الحياة، وقرر أن ينجح لنفسه؛ لأنه أحبها، أحب سواد جلده، تقبّله برضى، تقبّل عدم شرعيته وتصالح مع خذلانه، فلم يعش الوهم الذي عاشه راشد، تفوق في دراسته وحصل على ما كان يتمنى، بعثه دراسية لأمريكا على أمل ألّا يعود لوطنه، خرج سالم من مجتمعه وولى وجهه شطر أمريكا، على عكس راشد المغلف بأمل رجوع أمه ولقائها، يخاطب راشد يومًا محاولًا دفعه للهجرة إلى أمريكا: “اترك كل شيء وراء ظهرك وتعال، ليس هنا ما ستحزن عليه، ليس هناك ما ستشتاق إليه، اهرب من كل شيء، فهنا لن يعرفك أحد، سوى بالوجه الذي أردت أن يعرفوك به، انفذ بجلدك إلى فضاءات لا تطالها أعين المتربصين”، وما أصعبه من شعور أن يبتعد الإنسان عن بلاد شعر أنها ليست له، رغم أنها أعطته كل شيء، لكنها في المقابل لم تعطه أمًّا، أو أبًا، أو عائلة!

    عاش راشد في دار الأيتام بلا أبٍ ولا أمٍ ينتمي إليهما، بعد أن غادرت أمه مركز التوقيف إلى السجن المركزي لقضاء محكوميتها، قاطعةً عليه وعدًا بالعودة إليه وأخذه بعد الخروج من السجن، وقد عاش 30 عامًا على أمل لقاء أمه، يقوده لهدفه رائحتها العالقة باللحاف، ويبحث عمّا يدله عليها، صوتها، ودموعها العالقة بالوسادة، والهدايا والألعاب التي تصل إليه في الدار بأوقات ومناسبات مخصوصة وتفاصيل تشي أن بالخارج من يهمه أمره، أحب لاحقًا مريم التي رأى فيها أمّه، فخاض تجربة الحب المستحيلة لأمثاله، حلمٌ ما لبث أن تلاشى بعد أن سمع رفض زواجه منها: ” أبوي يقولك إحنا ما نزوج بناتنا غبون، وإذا شافك مرة ثانية تمر قريب البيت راح يشتكي عليك “، بعدها قرر الهروب لحياة أخرى؛ تلبيةً لدعوة صديق عمره سالم الذي سبقه بالرحيل لأمريكا، وفي الطائرة التي استقلها، وبين السماء والأرض تسرد لنا الكاتبة تفاصيل الرواية من خلال ذاكرة أم راشد التي دونتها في رسالة وصلته قبل سفره بيوم واحد في ظرف مغلق لم يفكر في فتحه إلا بعد أن استقر في مقعده بالطائرة.

    تتحدث الرواية عن بعض تفاصيل ما يدور في دورِ الأيتام، لتلك الفئة المبتورة الصلة بنسبها بترًا لا التئام فيه؛ بسبب ذنبٍ لا يد لهم فيه؛ والكشف عن تفاصيل ما يدور خلف تلك الأسوار، وكيف يفكر أولئك في العالم الخارجي وكيف يتصورنه، ونظرات الآخرين لهم، ونعوتهم الموجعة، وما يكتظهم من مشاعر وهواجس، وعلى الرغم من أن سجين الزرقة أول مولود روائي للكاتبة -بحسب تصوري-، إلا إنها استطاعت أن تسرد بأسلوب يصل بك إلى القوة والإبهار والمتعة، وربما كل من قرأ الرواية أو سيقرأها مستقبلًا لا شك أن تغيّر شعوره ونظرته تجاه هذه الفئة؛ إذ إن المجتمعات الخليجية عمومًا تنظر إليهم بالنظرة ذاتها، نظرة الاحتقار والازدراء، ولا ريب أن الرواية صاحبتها حكايات ثانوية بخلاف الحكاية المركزية المتمثلة في بطلها راشد؛ إذ سردت الكاتبة بين ثنايا الرواية قصصًا لسجينات يمكن أن تكون مشروع رواية قابلة للكتابة، ولن تسلم الكاتبة من تُهمة أن لتجربتها الشخصية وعملها الوظيفي واطلاعها الميداني أثر في تشكيل الرواية، مع العلم أنها وضعت صك براءتها القانوني بامتياز في العتبة الأولى للرواية، نافيةً التفكير بواقعية الأحداث:” كل ما ورد في هذه الرواية من أحداث وشخصيات هو من خيال الكاتبة، وإن صادف تشابهًا مع الواقع فما ذلك سوى محض صدفة”، وضمن تناوب سردي شيَّق بين راشد وأمه تستعرض الكاتبة روايتها بأسلوب قوي ومؤثر، كُتبت بلغة متوازنة وأسلوب لا يستفز القارئ أو المجتمع، ويجعله يتعاطف مع القضية، سعيًا منها لإيصال رسالة، فعلًا عشت غربة أبطالها، وتألمت لمآسيهم، مع وجود بعض الملاحظات التي لم يسلم منها أي منتج أدبي.

    وقد سبق لي أن قرأت رواياتٍ أُخر متشابهات تتحدث عن معاناة مجهولي الأبوين، إذ إن الأدب العربي عمومًا تناول هذه المسألة الحساسة، بل إن أحد المنتمين لهذه الفئة أخرج عملًا أدبيًا معتبرًا في شكل سيرة ذاتية، تمثلت في رواية (سعودي، ولكن لقيط) للكاتب/ سمير محمد، إلا إن ما لفت نظري ضمن الرواية يتمثّل في التعرية المتوالية لتناقضات المجتمع الذي يدعِ الطُهر والعفّة، وهو أمر في الحقيقة كان يستفزني منذ السنوات الأولى للجامعة، ولم أفتأ الحديث عنه مع الكثير من السخرية؛ إذ تعجبت ولا زلت من التناقض الغريب للمجتمع، عندما يحنُّ الواحد منهم على طفلٍ يتيمٍ مجهول الأبوين، يسكن ما اسمته الحكومة بدار الأيتام، وفي الوقت نفسِه يحتقره ويعامله بازدراء حال مغادرته للدار واستئناف حياته، ويجرده من كل حقوقه الإنسانية، ويجعله يدفع ثمن ذنب لم يرتكبه، إنه مجتمع غارق في نفاقه وفي تناقضاته، بين ما يعتقد به وبين ما يفعله ويمارسه، فما أكثر أولئك الذين يحرصون على إرسال الهدايا إلى أطفال الدار، بل يذهبون بأنفسهم لإيصالها والحرص على اللعب وملاطفة أبناء الدار، يمسحون على رؤوسهم، ويمنحونهم من العاطفة المؤقتة التي ربما تكون مزيّفة طلبًا للأجر كما يقولون، ثم يلتقطون بعض الصور لهم وهم داخل الدار أو في ممراته لينشروها على وسائل الإعلام ومنصات التواصل، كي يعرف الناس أنهم منحوا الأيتام عاطفة المشفق القوي على الكائن الضعيف، لكنهم في الحقيقة لا يقتربون منهم، لا يحضرون أطفالهم ليعلبوا معهم، يخافون كثيرا من كلام الناس؛ فيتركونهم مع المعاناة ومع الفقر العاطفي الذي يغرقون فيه، قليلٌ من يذهب لاحتضان طفل حتى من أولئك الذين ضاقت بهم السبل للإنجاب، ليعوضوا شعور الحرمان بطفل صغير من الدار، وإن حدث الاحتضان يومًا فإنهم يشترطون أن يكون صغيرًا جدًا وأبيض في معظم الأحيان!

    إن الكثير من أحداث الرواية تخفي تناقضاتٍ وانساقًا مضمرة يرزح المجتمع تحت وطأتها والمرأة على وجه الخصوص، ومن جملة التناقضات:
    – عندما قال القاضي كلمته في أن التهمة ثابتة على زوج الأم، وهي الزنا بالمحارم وممارسة هذا الفعل مع قاصر، وأن التهمة لها عقوبتها المشدّدة والمغلّظة في الشرعّ والقانون، وبالرّغم من بشاعة الجرم الذي قام به دون أن يخشى الله، أو يخاف عقوبته، ودون أن يفكر ولو للحظة أنها فتاة يتيمة وفي مقام ابنته، وأن ما فعله يهتزّ له عرش الرحمن لفظاعته وبشاعته وقذارته، وهو الرجل الملتحي الذي ما فاته فرض من فروض الصلاة، والذي يخاف الله ويخشاه، يصّرخ من داخل قفص الاتهام أنه برئ وأن ما يقال عنه كذب وافتراء، ” لقد بدا مقنعًا وهو يتحدث، مستخدمًا ذلك الأسلوب المغلّف بغلاف الدين، مستعينًا بآيات من القرآن وبعض من أحاديث الرسول، يتحدث بصوت متباكٍ بنبرته الحزينة العطوفة، لقد أخبرهم أنه يعاملني كابنته، لكنه عجز عن تربيتي التربية الصالحة، وأن ما أتّهمه به باطل وكذب”.
    – المجتمع الذي لا يرى الإنسان إنسانًا إلا من خلال قبيلته ونسبه وحسبه، زاعمًا أنه مجتمع النزاهة والعفة، وما أكثر الملوثين فيه، وما أكثر الخادعين لتلك المغفّلات الباحثات عن وهم الحب والأسرة، مجتمع يدّعي البياض رغم سواد أفعاله، وهوس المجتمع الغريب بمسألة الأصول والقبائل، خذ مثلًا عندما وجَد راشد وظيفة ساهمت الحكومة في توفيرها له وهو بين زملاء العمل: “إنهم لا يكتفون بالسؤال عن الحال فقط، بل يتتبعون الاسم كاملًا، وما يتبعه من تفاصيل أخرى، وبعد ذلك يبحثون عن أشخاص في المنطقة التي أتيت منها، ويسألون عن أسماء وأشخاص بعينهم حتى يعرفوا كل شيء عنك، ليقولوا لك أنت من أيّ عائلة، فلا شك أن فلانا عمك أو خالك، وكثيرًا ما سمعتهم يتحدثون عن شخص معين هم كانوا يضحكون معه قبل قليل، ولكن لمجرد أنه ابتعد قليلًا، يبدأون بالتشكيك في عراقة نسبه وحسبه، وأنه (ما قبيلي)، وذلك ما يجعلني ألوذ بعزلتي وأهرب من مثل هذه التجمّعات قبل أن يسقط الثوب الذي أستر به عدم شرعيتي”.
    – من التناقضات ما كنت أتصوره عن ملائكية دار الأيتام، الذي ينبغي أن يكون حاضنًا للأسود والأبيض، ولكل من هم فيه، فالرواية تسرد جانبًا من تفاصيل الدار قد لا تختلف كثيرًا عن المجتمع الخارجي، إذ إن معيار الجمال والقبح يحتم كيف تكون المعاملة، كمعاملة بعض المشرفات للأطفال الذين لم يرزقهم الله ملامح جميلة مختلفة عن غيرهم، مع أن كل من في دار إخوة مجهولو النسب، إلا إن معاملتهم لم تكن متساوية، وأن معيار التفاضل بينهم هو لون البشرة، وهو المعيار ذاته الذي وضعه المجتمع، كحال اللوحة التي تعلو الدار كتب عليها (دار الأيتام)، أي إن الدولة قد أسمتهم بالأيتام كي تخفف العبء عنهم: “فقط الدولة خففت من وطأة الاسم علينا عندما سمتنا الأيتام”، وفي المقابل نجد أن المجتمع يسميهم باللقطاء، والغبون، وأولاد الزنا ..، فيطلق عليهم من الألقاب ما يحط من قيمتهم الإنسانية؛ فهنا نجد مستوياتٍ ومسمياتٍ تعطيهم المعنى ذاته وتشعرهم بالمذلة والعار،” أركّز على كلمة دار الأيتام في اللوحة الكبيرة المعلقة أعلى البوابة، هل نحن أيتام حقًا، أم أطفال غير شرعيين، أليس اليتم شيئًا مختلفًا عن أطفال السفاح في نظر المجتمع، اليتيم يجد من يشفق عليه، ومن يحبه، ومن يرحمه، ومن يعتبره طريقًا إلى الجنة، أما نحن فلا أحد يقترب منا، بل يحتقروننا، فنحن نحمل نجاسة أبائنا وأمهاتنا “.
    – تناقض الطائرة:” في الطائرة رجل أربعيني يجلس بالقرب من امرأة ثلاثينية كما أظن، من الواضح أنها ليست زوجته، أدركت ذلك من اهتمامه وحرصه الشديد على الالتصاق بها، وإمساك يدها طوال الرحلة، كانت تميل برأسها على كتفه، يقترب من وجهها كثيرًا وكأنه على وشك تقبيلها، وحينما أُحضر الطعام كان يُطعمها بيده، ذلك ما يؤكد لي أنها ليست زوجته، فما وجدتُ زوجًا منذ بدأت أعي الحياة في بلدي ملتصقًا بزوجته كل هذا الالتصاق في مكان عام، بل أكثر الأحيان كنت أميّز الأزواج من صمتهم على الطاولات في المطاعم، وما كان يفعله بعض المسؤولين مع بعض الفتيات اللاتي يبحثن عن ترقيات سريعة، أو الحصول على حوافز ماليه “.
    – قصة العم سليمان حارس دار الأيتام: ” عرفت من عمي سليمان أن لديه ولدًا وبنتًا قد تزوجا، البنت ذهبت مع زوجها، والولد ظل في البيت حتى بعد زواجه، وقد كانت حياته مستقرة حتى توفيت زوجته فتركته وحيدًا مع زوجة ابنه التي بدأت تسيء معاملته في غياب الابن، فلم يكن يستطيع أن يخبر ابنه بما يحدث، يخبرني أنه حتى الطعام ما كانت تأتي به إليه، بل تضع له دلة القهوة والتمر منذ الصباح وحتى المساء، وأنه أصبح معزولًا في بيته، لا أحد يسأل عنه، فبدأ يبحث عن عمل لكي يبدد الوقت ويبتعد عن سلطة زوجة ابنه، .. خصوصًا أنهم في الدار كانوا يبحثون عن رجل كبير في السن بعد أن حدثت مشكلة من الحارس الأول الذي اكتشفوا أنه كان يتحرش بالأطفال الصغار وطُرِد ..، حينما أخبر ابنه أنه عثر على وظيفة حارس بدار الأيتام، وأنه سينتقل هناك، فرح الابن وكأنه كان ينتظر مثل تلك اللحظة، ومنذ ذلك اليوم لم يأتِ لزيارته سوى مرتين.”
    – قصة (مروة) الموقوفة على ذمة التحقيق: “مروة تجاوزت العشرين من العمر بقليل، لها قوام ممتلئ، كان وجهها أصفر شاحبًا، لها عينان واسعتان مكحولتان، وشفاه ممتلئة، دخلت المركز في قضية زواج غير شرعي والهرب من البلاد، فهي وقعت في حب مدرّسها هندي الجنسية الذي كان يدرّسها اللغة الانجليزية في أحد المعاهد، ولأنها ابنة أحد المشايخ في البلد كان من المستحيل أن يتم الزواج بينها وبين ذلك المدرّس حتى وإن كان مسلمًا، فلم يكن هناك حلٌّ سوى أن تسرق جواز سفرها من دولاب أمها وتسافر معه إلى الهند دون أن تخبر أحدًا، وهناك تزوّجها وفق التقاليد الهندية، بقيت هناك أكثر من سنة ..، حينما أتت مروة كانت حاملًا في الشهر التاسع، أخبرتني أنها تنتظر مولودة أنثى، استمر وجود مروة ما يقارب الأسبوع، كانت تأتيها زيارات من أهلها، لكنها بعد كل زيارة تعود تبكي، لأنهم كانوا يساومونها على الطلاق من زوجها، أو التخلي عن طفلتها بعد الولادة ..، تنازل والدها عن القضية بشرط أن تُمنح البنت لأبيها ويتم تسفيره من البلاد دون رجعة، ولم تعد إلى السجن منذ ذلك اليوم”.
    – هشاشة المرأة التي تتمثل في موقف شمسة عندما أمرها زوج أمّها أن تقول للقاضي أن المزارع الآسيوي هو من اعتدى عليها، فوافقت ولم تجرؤ على قول الحقيقة، بعد أن اعتدى عليها جنسيًّا، ومعيار شرف المرأة المتمثل في عدم خروجها من المنزل كما جاء على لسان جدة راشد، عندما علمت بحمل ابنتها سفاحًا، وكأن التي تخرج من المنزل وتخالط المجتمع الوظيفي أكثر عرضة للضياع من فتاة المنزل المنطوية على نفسها، ونظرة المجتمع للمرأة المطلقة، بمعنى أنه لا يحترم المرأة المطلقة بقدر ما يحترم المرأة الصابرة المطيعة والمحترمة لزوجها المنحرف والمرتكب لأبشع الجرائم؛ فالمرأة عليها أن تكون مطيعة لزوجها مهما كان حاله، خوفًا من المجتمع الذي لن يمنحها الاحترام إذا أصبحت مطلقة، وتبرير خيانة الرجل لزوجته وكأنه فعلٌ بُطوليّ: “الرجال ما يعيبه غير جيبه” ولو جاء بأبشع الجرائم؛ فالعتب يُلقى على عاتق المرأة.
    وبعد قراءة هذا العمل أتساءل: هل ما يزال بيننا لقطاء، أبناء شوارع، وهل تزايد عددهم؟ هل هناك إقبال على احتضانهم؟ وما المعالجات التي يمكن أن نتحدث عنها في مجتمع المدينة الفاضلة؟ أليس من حقهم أن يحيوا حياة طبيعية كباقي البشر؟ كما أني أفكر جديًّا في استقطاع بعضًا من وقتي أقضيه مع أولاد دار الأيتام وبراءاتهم، وعلى أقل تقدير أن أدخل البسمة على شفاههم، وأن أحكي لهم بعض الحكايات التي أجيد سردها، داعيًا الله أن يكف الناس عن إحضار الأطفال إلى العالم بهذه الطريقة غير الإنسانية، وألا يجعلوا أنفسهم مطايا لشهواتهم، وأخيرًا أرجو إيلاء هذا الموضوع الاهتمام الأكبر والعناية المستحقة من قبل المختصين ومؤسسات المجتمع المدني.