رنا حتاملة
إنها مصارحة الانسان مع أحلامه وآلامه وخوفه ورغباته. نعم، استطاعت الروائية الأردنية هيا صالح ايصال ما يمكن من هذه الفلسفة، والأسئلة الوجوديّة، التي خاضتها بسردية قوية، بأسلوبها المتفرد، وبنسج الحبكة والحوار المتناسق مع اللغة الحميمة التي تنسل إلى الوجدان كالموسيقى.
يجد القارئ الكتاب ملجأً لتحرره، كماهو الرسم للرسّام، والموسيقى للعازف والمتذوق، والكتابة للكاتب..وهكذا تكون كينونته التي ترتقي في تأملاته ومخيلته وتفكره، فتأخذه تصوراته الخاصة.. نحو ما يمكن من الحياة. ربما يكون هذا في عوالم لا تدركها القيود فـ”الإنسان كائن بائس لأنه لايقوى على العيش بحرية ومن غير قيود .. الأنسان عبدٌ؛ إن لم يجد القيود يصنعها بنفسه.” تنرسم شتى الاحتمالات والأفكار المتغيرة في ذهنه، أهوعبدٌ للذاكرة اذن؟ كما نعرف أيضا أن الذاكرة معرضة للمحو، والتكرار، والتنبؤ، والتصّور، والمصادفة، والأسطورة، والمخيّلة، والطاقة التي توطد الرابط بين الماضي والحاضر، كما بين الظاهر والباطن.. نسيج الحياة التي نظن أنها تنتهي بحقيقة الموت كانتهاء أي شيء مادي، وننسى أن الروح حين ترتقي تعود بإيقاعها، وصوتها، ورائحتها، ولونها .. نعم، إننا في هذا الكون الواسع نبني جسوراً عديدة. فهل كان هذا هو الجسر الذي تقصده هيا (جسر بضفّه وحيدة) ؟
يمتلك المرء أحياناً قدرات هائلة في اجتياز جسر واقعه أو(غربته) في الواقع، وملامستة لجوهر النفس، وهي الأصدق والأقرب لسكينة روحه.
أفتح الكتاب بعد أن أتأمل غلافه جيداً ثم أقرأ؛ “تبدأ غربتك الداخلية بعد أن تدرك بشكل واضح أن لا شيء في الخارج يمكنه منحك السّكينة، أغلق الرواية هنا، ثم أضعها في درج مكتبي.”، أعترف بأنه نصّاً صريحاً في خطابه وعمق معناه، لقد كانت نفسي مطواعة لذات الفعل، حيث أغلقت الرواية تماماً وأعدتها إلى الجانب من سريري. ثم ماذا؟ .. أسأل! كيف للكاتبة أن تضع مدخلاً ذكياً كهذا لروايتها؟ هل يؤخذ القارئ بهذه القوة من المصارحة، ويستهدف ليكون بطلاً في رواية يجهلها، كما تفعل هذه الرواية في داخلها؟
تبدو الرواية سهلة في تناولها، ولأن الاحداث تدور في الزمن الحاضر، كما تذهب إلى أثر الماضي الجميل، أو إلى سحر الفانتازيا العجيبة في الرؤية الممكنة، أحداث تتداخل لذكريات، وأسئلة، وشجن الحوار، وصراعه بين خيال، وواقع بطلة الرواية، وهي المحرك الأساسي في كل هذه الأحداث، تعيش سامية مع زوجها المهندس المعماري المعروف باسم “صلاح” في عمّان، فرغم حبه واهتمامه بها، إلا انها لا تبادله ذات المشاعر، فهي لم ترى به إلا ذلك الرجل الذي تحتاجه فتتزوجه ليعيد لها توازنها، ويقلل من حدة جنونها، ويرتب فوضاها، ويحتويها ويعوضها عمّن فقدتهم، كما يشكل لها ولأطفالها العائلة والمستقبل. تعرفت عليه بعد تخرجها من الجامعة أثناء عملها الأول في أحد الشركات. ففتاة التصوير”سامية” تنحدر من أسرة فلسطينية لاجئة، وقد هجّرت قسراً بعد النكبة، ليستقر المقام بهم في العراق. يتزوج والدها من أمها العراقية، فهي لم تنجب منه إلا ابنتها الوحيدة سامية، وذلك لمشاكل صحية منعتها. ولدت سامية في الموصل، وترعرت مع والديها في شقة جميلة، تتذكر طفولتها وهي تصفها بالحياة ؛” العراق بلدي والدماء التي تسري في عروقي ممزوجة بمياه دجلة لم أفكر أثناء طفولتي لحظةً أنني أنحدر من أسرة فلسطينية لاجئة، كنت أعتقد أن جميع البشر عراقيون، ويعيشون حياة تشبه حياتي؛ شقة صغيرة وأنيقة، تتوزّع على جدرانها التحف الخشبية، وكل قطعة أثات فيها موضوعة في مكانها المناسب، جيران متحابّون، شوارع نظيفة، ومدرسة مريحة، ومساءات تفيض بالبهجة .. ماذا يريد المرء أكثر من ذلك؟!”
.. تنظر في الصورة المحتجزة في شاشة الحاسوب، فتأخذها الذكريات إلى جسر الموصل العتيق الذي يعلو نهر دجلة، ويشكل معبراً بين ضفتيه. لقد دمرته الحرب كما دُمرت الكثير من الجسور في العراق. وهكذا تقاطعها الموظفة في الاستديو وتعطيها مغلفاً لرسالة من شخص مجهول ..” ما زال عطركِ يملؤني.. يجتاحني، ثم يتبخّر كل شيء وتبقين أنتِ.. هذه الحقيقة التي أعيشها منذ افترقنا.. ولأعترف لكِ أنها أقوى من الزمن”. فتجد أنه قد دون في أسفل الرسالة وبخط صغير من رواية (جسر بضفّة وحيدة). تسأل نفسها من يكون هذا الرجل؟
تنقلب الأحداث في الرواية من واقع السؤال، إلى واقع المجهول، فأنا أسميها لعبة الشغف.. فولوج سامية إلى المقهى المهجور والهادىء ليس سببه الفضول لمجرد اكتشاف ووصف الأحداث في مكان كالمقهى، لأنه كان لابد من الروائية أن تجد المساحة للمجهول لتحتوي به حجم السؤال، بمشاعره الحقيقية، حتى لو كان مجرد اختراعاً من المخيلة، فالنتيجة هي البحث خارج الأطر، ونبش لرؤى جديدة في الحياة، قد تكون أبعد مما كنا نعتقد، لاننا نبحث عن الحياة التي نريدها حقاً، أليس هذا ما يتم تجاهله في واقعنا الداخلي؟
لا يوجد متعة في الحياة دون وجود حافز لها، حتى الألم يحتاج إلى حافز، فما دام الانسان حيّاً لا بد له أن يتألم.
إن الحب والحرب، حافزان حقيقيان لإحياء الألم الذي لا ينتهي إلا بالموت. فالموت اذن هو حقيقة الوجود في هذه الحياة بشتى متعها.
وهنا في الملموس بين يدي أجد تناقضاً مدهشاً بين الغلاف الأمامي والغلاف الخلفي للرواية “صورة فوتوغرافية لظهر فتاة شابه، تشي بالغموض والرومانسية، ليست ثمة رابط بها مع النص المقتبس من الرواية، في الغلاف الخلفي :
“أتخيل أنني أفتح حقيبتي وأخرجُ منها مسدساً كاتماً للصّوت، لا أعرفُ كيف وصل المسدّس إلى حقيبتي، لكنني أعرف أن الخيال يمكنه أن يحقّق لي كلّ ما أُريد …رصاصةٌ واحدة على رأسِه كافيةٌ لإسكات صوته البغيض… سأمسحُ بصماتي عن المسدّس وأضعه في يدِه ليبدو أنّه أقدم على الانتحار، ثم أذهب إلى عملي وكأن شيئاً لم يكن، وعندما تحقّق الشّرطة معي سأنكر علاقتي بمقتله، ولن يتمكّنوا من إدانتي، لأن ما نقترفه في الخيال لا يقدّم دليلا علينا.”
فما الرابط بين الرومانسية والغموض والخيال في الجريمة؟
أنها الجريمة التي صنعتها الحرب على جسرغيرمرئي ، ليكون موضع لاحتمالات الوهم لتسلب حقيقته، فلتذهب الإنسانية إذن نحو الجمال وملامسة ضوء الموت في الخيال ..
أنها الأبدية والسكينة وهذا ما نسميه المتعة.
حلقة البحث عن الوجود حقاً متعة، حتى النهايات!
“مؤخراً، لم أعد أؤمن أن العين تأتينا بالنبأ الصادق، لأن الشيء الذي نراه الآن ليس هو نفسه بالضبط، فقد قطع رحلة طويلة داخل أجهزتنا الحيويّة قبل أن نعي وجوده وماهيته، فإذا كنا غير قادرين على الجزم بأن ما نراه الآن حقيقة، فكيف يمكننا الزعم بوجود شيء اسمه “حقيقة”؛ وجودنا الهشّ وتجاربنا التي نستقيها مما هو خارج نطاق إدراكنا ووعينا، وذاكرتنا المخادعة ومشاعرنا المختلطة.. إنّ تخلّصنا من الأيمان بالحقائق يمنحنا الحريّة.”
ألتمس في الفصل القبل الأخير جسر النور، قلقاً ما. رغم هدوء الأحداث وانسيابها برومانسية كالقمر، كنجوم السماء الليلكية، قبل غروب الشمس وأشراق السعادة والحب في يوم آخر جديد، حيث تتحرر الكلمات في النصوص، وتصبح الشخوص أكثر أقتراباً من النهاية المؤكدة ، من سيقطع الجسر؟
مزاجي رائق اليوم .
- سامية هل تأتين معي إلى الجسر؟
- نعم، أحب أن أكون معك في أيّ مكان.
تمتدّ الطريق وتعلو الموسيقى فأتذكر مقولات ” كارمن” :
” عندما تعتقد أنّ الحب أصبح بحوزتك، يرحل .. وعندما يرحل يُحكم قبضته عليك.. الحب مثل طفل غجريّ لا يعرف أيّ قانون.. الحب مثل طائر مشاكس. لاأحد يستطيع ترويضه”.
وهكذا فأن الوصول لضفة الجسر الوحيدة، باتت حتميّة، “الإيمان بالحب.. أوهو الإيمان بالرؤية كي نرى” وإلاّ لما وجدنا يداً تساعدنا على النهوض عن أريكة الأرق، والتقلب، وعدم النوم، ذلك بسبب الضوء الذي ينسل من النجم البعيد، كالسهم كقوس المطر، حاد كجسر عبور.. بدون أي خوف نعبره، وتتضح الرؤية، لنرى من نحبهم ولا نفارقهم (هي متعة الأبدية والسكينة).