“مهدي نصير”
رواية «حارسة» هي الرواية الثانية للدكتور عبد الهادي المدادحة بعد روايته الأولى «كِرك موبا»، وفضاء الروايتين هو العشق العميق للكرك وقلعتها حيث احتلت الكرك وجغرافيتُها وإنسانها وأهلها البسطاء كامل سردية هاتين الروايتين اللتين احتفيتا بالمكان والإنسان الأردني، صدرت هذه الرواية «حارسة» عام 2022 عن الآن ناشرون وموزعون وتقع في 178 صفحة، حيث أهدى الدكتور المدادحة روايته إلى أهل حارسة – الكرك وإلى صديقه الدكتور باسم الزعبي.
حارسة-(الكرك) وحارسة بنت برجاس المحمد العودة الحارسي بنت حارسة-(الكرك) الفنانة التشكيلية خريجة معهد الفنون الجميلة بروما والتي تُحضِّر لمعرضها الفني الاول في باريس وهذا المعرض الذي يحمل اسم «وجوه حارسة»: وجه أبيها برجاس القوي النبيل والعروبي الناصري والنائب في البرلمان الاردني والوجه الذي يحبه كل اهل حارسة -(الكرك) والذي يتعرض لمحاولة قتل في اثناء هبة نيسان عام 89، و وجه الربَّان ابو احمد بائع الفلافل اليافاوي الهارب من بطش الانجليز بعدما هرَّب السلاح للثوار الفلسطينيين، ويوسف ارتريان الصيدلي الارمني الذي هرب أبواه من بطش الأتراك من اورفا عام 1916 وأصبح علماً من أعلام حارسة يحبه جميع أهلها، ووجه باتع الخشمان صاحب أول مقهى بحارسة والذي كان يحمل برجاس هو وعبد الرزاق السقا على ظهرهما في المظاهرات ضد حلف بغداد عام 58، عبد الرزاق السقا هذا الحارسيُّ الأصيل والبسيط والذي صفع المخبر أبو الشامة الذي كان يطارد شباب حارسة اليساريين ويشي بهم والذي دفعه للرحيل مهزوماً من حارسة خزياً من أفعاله بعد صفعة عبد الرزاق السقا وتحدي البرجاس له أمام أهل حارسة، كل هذه الشخصيات التي سكنت حارسة وأصبحت حارسية -(كركية) إشارة عميقة على مدى عظمة الكرك وتسامحها ومقدرتها على صهر الجميع في حبها وبوتقتها، في لوحات حارسة بنت البرجاس جعلت خلفية كل صورة من وجوه حارسة جزءً من قلعة الكرك واذا وُضعت هذه اللوحات معاً تظهر قلعة الكرك بكل أبهتها وتاريخها وكأنها تقول هؤلاء الرجال هم قلعة حارسة-(الكرك).
هذه الرواية نشيدٌ حارسيٌ للكبرياء والاصالة والوعي الذي تختزنه الكرك أم المدن الأردنية العريقة والنبيلة والعتيقة والمتجددة دائماً، وسأقرأ هذه الرواية ضمن المحاور التالية:
أولاً: الشخصية الرئيسية في هذه الرواية هي شخصية «برجاس ابن محمد العودة الحارسي» السياسي والمثقف الذي يقرأ المتنبي وأحمد شوقي وعرار وابراهيم طوقان والذي له محاولات شعرية ومخطط تكتشفه حارسة ابنته لكتابة رواية تؤرخ وتوثق لحارسة وتاريخها، برجاس المحامي خريج كلية الحقوق في دمشق والذي يفتتح مكتباً للمحاماة في وسط حارسة للدفاع عن أهلها وشبابها، برجاس العروبي الناصري والذي يصبح نائباً في البرلمان الأردني عام 1967 والذي يتزوج من شريفة العامري وتنجب له أبناءه الأربعة: ناصر المتدين (والذي سماه برجاس تيمناً بجمال عبد الناصر) والذي يصبح رئيساً لبلدية حارسة، وكريم الذي يصبح مقاولاً، وإبراهيم البعثي العروبي، وأسامة الطبيب الشيوعي وخريج الاتحاد السوفييتي والذي يفتح الأفق أمام شقيقته حارسة لقراءة الأدب العالمي: الأم لغوركي والأخوة كرامازوف لدستوفسكي والشيخ والبحر لهمنغوي وثلاثية نجيب محفوظ وو، أما حارسة ابنة برجاس الوحيدة والتي سمَّاها على اسم مدينته التي يعشقها لتكون عريقةً مثلها وحارسةً لقيمها وأصالتها لذلك أرسلها لتدرس الفنون الجميلة (الرسم) في معهد الفنون الجميلة في روما، هذه العائلة التي تضم الاسلامي والبعثي والناصري والشيوعي كانت إشارةً على خصب مجتمع حارسة –(الكرك) وانفتاحها على عروبتها وانتماء أبنائها لهذه العروبة، حبكة الرواية تقوم على محاولة اغتيال برجاس بعد خروجه من اجتماع لليساريين والقوميين أثناء هبَّة نيسان عام 1989 ووقوعه في غيبوبة طويلة.
ثانياً: تتكون هذه الرواية من 27 مقطعا يحمل كلّ مقطعٍ منها عنواناً فرعياً وتمهيدا تارةً يكون شِعراً لشعراء أردنيين وعرب وعالميين وتارةً حكمةً أو عبارةً ذات مضمون يتعلق بالمقطع الذي يليه، مثلاً تم تمهيد أحد المقاطع ببيت شعر للشاعر الأردني الكركي صيام المواجدة ومقطع آخر بمقطع شعري لعبد الرزاق الربيعي وثالث لتشيخوف ورابع بآية كريمة من القرآن الكريم..
ثالثاً: ليس هناك راوٍ واحدٌ بل هناك رواةٌ متعددون في هذه الرواية، فكلُّ فصلٍ له راوٍ وهؤلاء الرواة هم: حارسة، شريفة العامري زوجة برجاس، المحقق حابس، المخرج فراس الذي يُعدُّ فيلماً توثيقياً لوجوه حارسة، العقيد أبو الشامة المخبر والذي يصبح مديراً لشرطة حارسة، طبيب الأسنان الشيوعي صالح خريج الاتحاد السوفييتي وأحد ضحايا المخبر « أبو الشامة « والذي يأتيه ليعالج أسنانه ويدور بينهما حوارٌ حول دور المخبر في تخريب مستقبل كثير من الشباب، كلُّ هؤلاء رووا كلٌ من زاويته ورؤيته وجهاً وجانباً من سيرة حارسة وجانباً من سيرة البرجاس.
رابعاً: كانت لغة الرواية لغةً مشرقةً فصيحةً عاليةً وبسيطةً بدون تكلفٍ وبدون بلاغةٍ مجانيةٍ لا تحتملها لغة الواقع الذي ترصده هذه الرواية.
خامساً: العم مسلَّم وأسطرته وتزويجه من جنية فائقة الجمال وربط ذلك بخدمته لمقام الولي العجمي وكراماته والذي اتفق أهل حارسة على تبجيله واحترام مقامه وتقديم ما يحتاجه هذا المقام من خدمات، ولكنهم اختلفوا على أصله فبعضهم يقول أنه من بقايا الصليبيين الذين نفاهم بطرك القدس لهرطقته وجاء وأقام بحارسة وبعضهم يقول أنه وليٌ صوفيٌ، وآخرون يبحثون عن أصولٍ له أسطورية، ولكنه كان شخصيةً شكَّلت مع شخصيات ومكان وتراث «حارسة» خارطةً للحياة في هذه الحاضرة الأردنية العربية الخالدة.
سادساً: تنوعت الشخصيات الحارسية ببساطتها وكبريائها وانتمائها لحارسة وانتمائها لأمتها الأكبر ومشروعها السياسي وتحدياتها وتضحياتها فكانت شخصيات الرواية شخصياتٍ واقعيةً نعرفها ونراها ونحسُّ بوجعها ومعاناتها وأحلامها: كانت شخصيات البرجاس وشريفة العامري وحارسة وناصر وكريم وابراهيم واسامة والعم مسلَّم وباتع الخشمان وعتيق الجزار وعبد الرزاق السقا ويوسف ارتريان والياس دمتري والعقيد أبو شامة والمحقق حابس وشقيقه ورد والمتطرف الديني مصعب والذي تبين أنه من ضرب البرجاس بالنبوت في محاولةٍ لقتله والذي يهرب بعد انكشاف الجريمة إلى أفغانستان مع ورد، والمخرج فراس والولي العجمي وطبيب الأسنان صالح والدكتور مشعل والنجار هاكوبيان، والربَّان أبو أحمد، كلُّ هؤلاء هم حجارةُ قلعة حارسة وحرَّاسُها والذين رسمت وجوهَهم النابضة بالحياة حارسة البرجاس ووثق لهم المخرج فراس في فيلمه الوثائقي عن وجوه « حارسة «.
سابعاً: بدأت الرواية بمقدمةٍ كتبتها حارسة البرجاس مهَّدت فيها ورسمت خطوط حركة الرواية، واختتمت الرواية بالمقطع الأخير الذي ترويه أيضاً حارسة البرجاس والذي يحمل عنواناً ذا دلالةٍ: العنقاء والذي تم تصديره بالآية الكريمة «لا تدري لعلَّ اللهَ يُحدثُ بعدَ ذلكَ أمرا» الآية 1 من سورة الطلاق، وتختتم حارسة هذا المقطع وتختتم هذه الرواية بصحوة البرجاس من غيبوبته وتصرخ مناديةً على أمِّها شريفة العامري: أمي.. البرجاس عاد».
في هذه الرواية تمتزج الجغرافيا بالتاريخ ويمتزج المكان بالإنسان، وعندما يمتزجان وينصهران تُصبح قلعة الكرك شخصيةً حيَّةً تتحرك ويصبح الإنسان حجراً ثابتاً وخالداً من حجارتها، ولا ولن تملك قوةٌ في الأرضِ والتاريخ على فكِّ عُرى امتزاجهما الخالد.