“خبر عاجل”: الواقع والخيال في رواية نضال الصَّالح

“خبر عاجل”: الواقع والخيال في رواية نضال الصَّالح


class="inline-block portfolio-desc">portfolio

text

    أحمد ابو سليم
    شاعر وأديب

    قد يكون من العسير على روايات الحرب بالذَّات أَن تتغلَّف بمنطق الارتداد الذَّاتيِّ، الَّذي ينصُّ على وحدانيَّة التَّجربة إلى تلك الدَّرجة الَّتي تجعل من النصِّ أُحاديَّ التأويل، وتؤدِّي أَحياناً إلى إجهاض النصِّ حيث يصبح من العسير على القارئ تأويل النصِّ بما يخدم  الرُّؤية المتعدَّدةَ الطَّبقات –إن جاز التَّعبير- الَّتي  تجعل النصَّ صالحاً للتَّعميم، حيث يعجز عن أَن يصبح إنسانيَّاً قادراً على بلورة التَّجربة الذاتيَّة لتصبح تجربة عامَّة، من هنا يمكن القول عن بعض النُّصوص إنّهاَ مغرقة في الذاتيَّة، عاجزة عن بلورة التَّجربة وإعادة إنتاجها بما يخدم التطوُّر البشريَّ سواء على  مستوى الذَّات الفرديَّة، أَو  الذَّات الجمعيَّة، أَو حتَّى ما بعد ذلك.
    إن معظم روايات الحرب عادة ما  تحمل سمات الحرب: التَّعدُّد، التناقض، عبثيَّة الموت، الانشطار النَّفسي والجمعي، رائحة البارود، مستوى  الصَّوت العابر لقدرة الأُذن على الإصغاء، ما يشوِّش على قدرة  القارئ عادة من  التَّواصل مع  النُّصوص، حيث تتعدَّد الأَصوات، وتختلط، وترتفع، وتنخفض دون ترتيب مسبق، وحيث لا مكان للشَّخصيَّات العابرة  لمنطق الحرب، فكلُّ شخصيَّة هي شخصيَّة ميتة مع وقف التَّنفيذ.
    من هنا، من هذا المنطلق، لا يمكن محاكمة نصوص الحرب بالمنطق ذاته، والقياس على المسطرة ذاتها  الَّتي  تقاس عليها النُّصوص الأُخرى، فنصوص الحرب عادة تتفلَّت من القانون العامِّ، وتدخل في  نطاق قانون ما هو متاح، قانون البقاء فقط، وقد تذهب أَحياناً إلى تبرير الحرب، كحرب أَخلاقيَّة، وتبرير الموت من أَجل الحياة، وتذهب إلى أَبعد من ذلك، حيث يتجرَّد الواقع من واقعيَّته، وتختلط الخطوط بين ما هو واقع، أَو ما يمكن أَن يكون واقعاً ومتخيَّلاً، فيتفوّق الواقع فيها على الخيال.
    يقدِّم نضال الصَّالح رؤية واعية لذلك الفرق بين السِّيرة الذَّاتيَّة والرِّواية منذ البدايات، حيث “لا شيء ينتهك قيمة العمل الرِّوائيِّ مثل وفائه المطلق للسِّيرة الذَّاتيَّة لكاتبه” ص 35 وحيث “يعني أَن يتجاوز الشَّخص فرديَّته ليصير دالَّاً على نموذج” ص 39.
    إنَّ الحرب مغرية إلى تلك الدَّرجة الَّتي يمكن لها فيها أَن تستدرج الكاتب ليكتب يوميَّاتها على حساب الرِّواية، من هنا يبيِّن الكاتب الكامن خارج النصِّ سواء كان ذلك نضال الصالح بنفسه، أَو بطل الرِّواية أحمد ضمن الرِّواية أَو رواية الرِّواية، في التَّوضيح الأَوَّل: “إنَّ أَيَّ تشابه بين شخصيَّات الرِّواية والواقع ليس محض مصادفة، على الرُّغم من أَنَّ مجمل محكيِّ الرِّواية تخييل بامتياز” ص7
    ومجمل ما يُراد من هذا القول إنَّ الواقع يختلط مع المتخيَّل إلى ذلك القدر الَّذي لن نستطيع الفصل بينهما، أي إنَّ المتخيَّل هو متخيَّل بذلك القدر الهائل الَّذي يحاول فيه أَن يجاري الواقع ويصل إلى عنفوانه، وذلك شأن الحرب بالذَّات، أَي إن الحرب تنتج واقعاً أَشدَّ قسوة من أَيِّ تخيُّل ممكن، لكنَّ الرِّواية تتملَّص بذكاء من يوميَّات الحرب وتذهب إلى رصد أَبعادها، وظلالها وانعكاساتها، وإلى ذلك التشظِّي الَّذي أَنتجته سواء بين الواقع والخيال، أو بين الماضي والحاضر، أَو بين التَّاريخ والجغرافيا، أَو بين أَحمد وهشام، أَو بين كليهما وجمان، أَو بين العائلة الواحدة، أَو بين حلب وضواحيها، أَو بين الجدِّ المتنبِّي والواقع، أَو بين المتن وما هو خارج المتن في بنية الرِّواية، وهذا ما ذهب إليه الكاتب، في محاولة لتقديم شكل متناغم مع محتوى الرواية.
    وسيعيد على لسان د. هشام، مرَّة وراء مرَّة ذلك التَّداخل بين الواقع والخيال، واستحالة الفصل بينهما، وضرورة أَن يقف الرَّاوي على مسافة واحدة بين كلِّ المتناقضات كي لا يصبح شاهد زور على التَّاريخ.
    ثمَّة تداخل ذكيٌّ في العمل، مبنيٌّ على رواية الرِّواية، والرِّواية هي الواقع بحدِّ ذاته، وكأَنَّنا هنا أَمام مجموعة من المرايا لا تعكس الوجوه فقط بل تعكس المتناقضات، حيث تختلط المتناقضات بذلك القدر الَّذي ينتج واقعاً موضوعيَّاً، فيه التضاد هو الأَساس، كيف لا ونحن أَمام رواية الحرب، والحرب هي أَصل التضادِّ وأَشدُّ تجلياته عنفاً.
    إننا أَمام نصٍّ يشترك فيه كاتبان، هشام وأحمد، كلٌّ يرى الواقع من زاوية مختلفة، لكن من الواضح لمن يدقِّق في أَعماق النصِّ أَنَّنا أَمام شخص واحد متشظٍّ يحاول أَن يلملم شتات الواقع وشذراته كمن يجمع صورة “بازل” في محاولة لفهم هذا الواقع.
    إن الواقع -الأَشدَّ تخيُّلاً- أَي واقع الحرب بحاجة إلى تفكيك واع من أَجل إلقاء نظرة على أَعماقه كي يصبح بوسعنا أَن نفهم تلك الأَسباب الَّتي جعلت هذا الواقع في لحظة ما حتميَّاً، أَو ممكن الحدوث، وبذلك ستصبح الحرب في رواية خبر عاجل مجرَّد ظلٍّ للرِّواية، متلازم مع الحدث، مرافق له، وستتوجَّه الرِّواية إلى تفكيك نتائج هذه الحرب.
    فما الَّذي “يدفع الإنسان إلى نقل بندقيَّته من كتف إلى كتف آخر بين غمضة عين وانتباهتها؟ المال؟ الشَّهوة إلى السُّلطة؟ الثأر؟” ص 74
    إن الذَّهاب إلى ماضي حلب سواء على لسان د. هشام أَو على لسان أَحمد، لم يكن محض صدفة، وحضور المتنبِّي الطَّاغي، الجدِّ الأَوَّل، كلُّ ذلك كان مجرَّد مقارنات ما بين الماضي والحاضر، فهل يمكن أَن يكون الحاضر هو الابن الشرعيُّ لهذا الماضي؟ وهل يمكن أَن يكون الحاضر امتداداً حقيقيَّاً لماضي حلب؟
    ثمَّة انقطاع ما، فجوة، أَو تحوُّل، فهل هو تحوُّل ثوريٌّ أَي طفرة طبيعيَّة أَم إنَّ الأَمر يتعدَّى ذلك؟
    ” ما من قوَّة تحمل مدينة على الثَّورة إذا لم تكن المدينة نفسها تريد ذلك” ص 31.
    لقد حاول المسلَّحون في أَطراف حلب تصدير الثَّورة لحلب، فحلَّ بها الخراب، وذلك نتاج طبيعيٌّ للتَّناقض بين رؤية حلب المدينة للواقع، وما يراه لها الآخرون، من هنا حاول نضال الصَّالح أَن يحدِّد ذلك الانقطاع بين الماضي والحاضر، ومآلات هذا الانقطاع، ونتائجه الوخيمة.
    ثمَّة أَثرياء حرب، وطائفيَّة بغيضة، وغلاء فاحش، وفقر مدقع، وحصار مهول، وموت بلا ثمن، ثمَّة خطوط طوليَّة وعرضيَّة أَصبحت تفصل لا بين البشر وحسب إنَّما بين وعي البشر بالواقع، وتمترسهم وراء هذا الوعي الزَّائف، إنَّه سؤال الرِّواية، وهو سؤال الثَّورة الَّتي كان عزُّ شقيق أَحمد مخلصاً لها حتَّى النِّهايات، وقد يكون قد دفع حياته مثل عشرات الآلاف الآخرين ثمناً لها.
    إن كانت الأُمور تقاس بالنَّتائج، فعلينا أَن نحدِّق طويلاً في النَّتائج كي نفهم أُصول الواقع، وعلاقته بنا…
    فهل كانت الثَّورة ثورة بالفعل؟ ذلك هو السُّؤال الَّذي علَّقته الرِّواية في نهاية المطاف أَمامنا.