خديجة مسروق
كاتبة من الجزائر
“المكان لا يكون مكانا إلا باختراق الشخصيات له”. هذا ما يقوله حسن بحراوي. شخصيات السرد تجعل المكان عنصرا ديناميا فاعلا، وللمكان دلالة رمزية لا متناهية في السردية العربية.
“خبز وشاي” للروائي أحمد فراس الطراونة صدرت طبعتها الثانية عن “الآن ناشرون وموزعون” بالأردن (2023)، تجري أحداثها في فضاءين متباينين، فضاء المقابر حيث يمتزج فيها غبار الموت بطعم الفقر، وفضاء عمّان التي جمعت المتناقضات.
يغوص الطراونة في عمق المجتمع للكشف عن بعض مظاهر الفساد الذي ينخر جسد الوطن.. الوطن الذي أصبح هزيلا بفعل الذين يمارسون الرذيلة على أرضه ويستبيحون حرمته دون وازع أخلاقي.
ويعود زمن الرواية إلى خمسينيات القرن الماضي، اعتمد فيها الروائي على تقنية الاسترجاع بنسبة كبيرة. بسردية عذبة يقف الروائي موقف الناقد للواقع المزيف بلمسة ساخرة، وقد وظف فيها خياله الخصب الذي جعله يجوب الكون بذاكرة مطلقة لصياغة أحابيل روايته.
هي سيرة “أبو وئام الكركي” تصوّر صراع البطل “أحمد” مع حياة البؤس والفقر. وحين جرب أن يحطم سلاسل الفقر ترميه الأقدار بين أحضان شيخ المسجد “جعفر” الذي أقنعه بأن الحل هو الجهاد، فيورّطه في الانضمام إلى جماعة إرهابية لينتهي به المطاف إلى كهف الزنزانة.
تتكون شخصيات الرواية الفاعلة من: أحمد، وأبو أحمد، وأبو خليل، وخالد، ويوسف أستاذ التاريخ، وجمال المختص في الآثار. أحمد، الفتى الصغير، كان يرافق والده (أبو أحمد) الذي يتوسل الحياة في المقابر. “أبو أحمد” يعمل حفارا للقبور بحثا عن الآثار، يساعده في ذلك شقيقه “أبو خليل” الذي كان يعتني بما يعثر عليه “أبو أحمد” من كؤوس وتيجان وخواتم وجماجم، كي يبيعاها لسماسرة الآثار بثمن زهيد لتوفير الخبز والشاي لعائلتيهما.
عنوان الرواية (خبز وشاي) يحمل في معناه صفة تدل على الفقر المدقع. كان أبو أحمد وأبو خليل حين يرخي الليل سدوله يتوجهان إلى الخربة، يباشران عملهما تحت ضجيج أرواح الأجساد التي تنام تحت التراب. تتراءى أرواح الموتى أمام الفتى “أحمد” أطيافاً، تسأل حفاري القبور عن الذي منحهم الحق في السّطو على ممتلكاتهم واستباحة عوراتهم.
بعد الخدمة التي قدماها للوطن، يقول أبو خليل لأبو أحمد أن لا أحد يتذكرهما كبطلين، بينما الأبطال في دول أخرى تُصنَع لها التماثيل.
يوسف يُدرّس أحمد مادة التاريخ. يعلّم تلاميذه الوطنية نهارا ويمارس الرذيلة ليلا. يمتهن السمسرة. يشتري من “أبو أحمد” الآثار بثمن قليل ويحقق من ورائها أرباحا. و كان جمال، المختص في الآثار، انتهازيا أيضا، يمارس النصب على “أبو أحمد” و”أبو خليل” ويتاجر في كنوز المقابر.
الطمع حين يتغلغل داخل الذوات الجشعة، تمضي في إرضاء نوازع الشّر الذي يستفحل داخلها. يستحوذ “أبو خليل” على إبريق الزجاج ذي الوجوه الأربعة التي تحمل صور ملوكا رومانيين، بعد أن عثر عليه “أبو أحمد”. ثم يخدع أخاه ويقتل حلمه على مذبح الجشع غير آبه بالأخوّة. مات “أبو أحمد” بسبب خيانة أخيه..
يصف الروائي مشاهد الفساد الذي يؤدي إلى التخلف بقوله: “أصبح المشهد أبخس من الخبز والشاي، فقر مدقع في كل شيء. ألا ترى أن حالنا كلها أصبحت في شح؟ فقر في السياسة، فقر في الوعي، فقر في الثقافة، فقر في الإبداع، فقر في الإنجاز. مشهد فقير لا يرتقي لوجبة خبز وشاي” (ص144)، ما يفسر أن الوضع يحتاج إلى سنوات ضوئية حتى يتغير.
للفساد أوجه متعددة ومظاهر مختلفة وفظيعة. يتحدث الطراونة عن الفساد الأخلاقي والاجتماعي. “أبو خليل” يسطو على تعب أخيه سارقاً الإبريق الزجاجي، الذي كان بالنسبة له صفقة تجارية مربحة.
الفقر ليس حجة للسير في درب الفساد. كان “أبو أحمد” و”أبو خليل” يتماديان في استباحة الآثار التي تكتنزها أرض البلد، يتحججان بذريعة آثمة قائلَين أنهما دافعا عن البلد في الماضي ولهما الحق الآن في الاستفادة من خيراته للحصول على الخبز والشاي.
الفساد السياسي الذي تعرضت له الرواية، يتمثل في استغلال المسؤولين وظائفهم في الدولة لتهريب كنوز البلاد دون رقيب. ويجرنا ذلك إلى الوقوف على فساد الإعلام الذي يفتقد للمصداقية. هي أزمة الوعي. الوعي الغائب: “ألا ترون أننا نظلم عمّان حينما نطلق عليها صفة المدينة؟”. الطراونة يرى عمّان مجرد قرية كبيرة. فالمدينة بحسب رأيه ليست بالبنيان، إنما بوعي من يسكنونها.
وترتبط أزمة الوعي بموقف النخبة ورأي المثقفين. عن أزمة المثقف يتكلم الروائي مستشهدا بقول “ريجيس دوبريه” بأن المثقف بائع للأوهام، ويركز على وهم النخبة ووهم الحوار ووهم الحداثة ووهم الحرية ووهم الهوية، وهو ما يعكس وضعية المثقف العربي اليوم الذي يتميز بازدواجية الرأي وتذبذب الموقف وغياب الموضوعية. وبالنسبة للطراونة، لا وجود للمثقف الحقيقي في المشهد الثقافي العربي.
أما فساد التعليم، فتشير إليه الرواية في الحديث عن رسوب عدد كبير من الطلبة كل عام. أحمد عندما تطلب منه والدته بأن يكمل تعليمه يرد عليها: “عن أي تعليم تتحدثين؟، عن مدرسة لم ينجح فيها طالب واحد؟”.
“أحمد”، الفتى الصغير بطل الرواية، ظل يشعر بالنقص والازدراء حين يشاهد أصدقاءه يشترون ما يشتهون ويلبسون أثوابا وأحذية لماركات عالمية وهو لا يستطيع. يقول: “لقد مللنا حتى الحلم في أن نغير هذا الكابوس. ألسنا بشرا يا بشر؟ أليس لنا الحق في أن نأكل كغيرنا من الناس: زيت وزعتر. شيء آخر اسمه جبن، حبة زيتون، بيضة؟ هذا ظلم، وهذه ليست حياة، هذا موت بطيء” (ص73).
إنها قسوة الحياة ومرارة القهر وظلم البشر. فكر “أحمد” في الانتقام من عمه الذي سرق نصيب أبيه من ثمن الإبريق.. يسير الأخَوان “أحمد” و”خالد” في خطين متضادين. أراد كل منهما التخلص من حياة الفقر التي لا تتجاوز الخبز والشاي. “خالد” يقرر الالتحاق بالعسكرية، بينما يجد “أحمد” نفسه ضمن مجموعة إرهابية، تدّعي محاربة الفساد وإعلاء كلمة الله في الأرض. وكان “أحمد” يرى عمه “أبو خليل” هو عدوه الحقيقي ولا بد من الانتقام منه..
ولمّا احتدم الصراع بين أبناء الشعب الواحد، التقى “خالد” و”أحمد” على ساحة المعركة. “خالد” عسكري يدافع عن أمن البلد، تقع عيناه على أخيه “أحمد” وهو في صفوف الإرهابيين.. جرى الدمع من عينيهما دماً، وبدا الجرح غائراً في قلب “خالد”، فسال نزيف الحسرة تحت قدميهما. قال “خالد” لأخيه عبارة مدوية: “نحن نلتقي كأعداء، وأمنا تموت من قهرها علينا، وأبو خليل يتلذذ بعذابها. من فعل بنا ذلك؟”.
“خبز وشاي” رواية تكشف عفونة الواقع الذي تتسبب به يد البشر. حين يغيب الوازع الأخلاقي يبيع الإنسان وطنه وأهله وضميره لتحقيق مآربه الشيطانية.
يحكي الطراونة عن تناقضات الواقع العربي، وعن الظلم وغياب العدالة الاجتماعية في بلدان شعارها المساواة بين الجميع. وتتسم هذه الرواية بجمالية الوصف وبلاغة السرد واللغة الفنية الرشيقة، ويبدو فيها الروائي متحكماً في خيوط السرد، متمكناً من ترويض الأفكار وصياغتها في أسلوب فني ساخر، بما يقنع القارئ بسهولة بأن أحداث الرواية انعكاس حقيقي للواقع.
نشر في (الرأي الأردنية)
23-6-2023