بديعة النعيمي
“زوائدي كثيرة ومنتشرة فوق مختلف أصقاعي ،فأنا أملك ستة عشر إصبعا موزعة بالتساوي بين قدمي اليمنى وقدمي اليسرى،أضف إلى ذلك الغرابة التي تطبع مشيتي بحيث أعجز تماما عن السير سريعا بطريقة ملفتة ومثيرة للشفقة ممن يملكون قلوبا بيضاء ،وما أقلهم!”
هكذا يعرف غريب بطل رواية ربطة عنق للكاتبة براءة أيوبي عن نفسه. غريب الذي لم يستطع طيلة صفحات الرواية بسبب اغترابه أن يشكل هوية ذاتية متجاوزا تشوهه وإعاقته البدنية بسبب نظرة المجتمع وعدم تقبله له بل وتعرضه للتجاهل والتهميش والنفور منه حد الإقصاء خارج دائرته من قبل أفراده.
وحسب قيس النوري فإن الاغتراب ” الانسلاخ عن المجتمع والعزلة أو الانعزال والعجز عن التلاؤم والإخفاق في التكيف مع الأوضاع السائدة في المجتمع واللامبالاة وعدم الشعور بالانتماء بل وعدم الشعور بمغزى الحياة”
وتفتتح الكاتبة عملها بوصف الاغتراب الذي شعر به غريب عندما طلب منه الأستاذ أسعد في أول يوم دراسي التقدم نحوه والوقوف أمام زملائه ليروي ما فعله في العطلة الصيفية بلغة فصيحة ففي ص١٢ ما جاء على لسان غريب ” المسافة تراءت طويلة،واحتاجت مني عناء في السير وعزيمة لمواجهة هواجسي وخوفي وخجلي من مظهري شبه الآدمي..” فهل طلب بسيط كهذا يحتاج لهذا الكم من الشعور بالخوف والعزيمة لولا أن غريب يواجه مشكلة الاغتراب في مجتمع يرفضه بالرغم من أن الوضع الطبيعي أنه كأي فرد آخر ينتمي له؟ لكن غريب يفتقد الانتماء لجماعة الرفاق والتقبل من الآخرين والنجاح الاجتماعي وخصوصا بعد ما حصل له أول يوم دراسي من استهزاء من قبل الطلاب ويتضح هذا للمتلقي ص١٦ ما جاء على لسان غريب” جعلني أعتنق يقينا أنني في اختلافي كائن مستهجن مرفوض وحتما لا مكان لي فوق تراب هذه الأرض”
والمتتبع لأحداث العمل يجد بأن غريب حاول قهر انفصاليته وعزلته عن الآخرين بدمج نفسه باحثا عن الأمان بين بشر ينتمي إليهم ذلك لأن الإنسان بطبيعته كائن اجتماعي ينتمي إلى الجماعة ويشعر معها بالتحانس والتوحد ويلتمس فيها القبول والتقدير لكنه كان يفشل في كل مرة بسبب نظرتهم إلى اختلافه وعدم تقبلهم لتشوهاته بل وكان يقابل بالاحتقار. فنجده في ص٢٠ يقول “كي أحيا بسلام،ليس علي اعتزال البشر” لكنه يرجع بسبب ازدراء المجتمع له ليعترف ص٣٦ ” أنا مستهجن بفعل تشوهاتي الجسدية المقززة والنتيجة واحدة..احتقار وتهكم وانتباذ ،يا له من مجتمع مريض” فغريب يرجع سبب ما هو به إلى مجتمع مشوه ومريض يرفض تقبله كفرد منه.
بات يحاول الهروب منه حتى عن طريق إغماض عينيه والهروب من الواقع والالتجاء إلى الخيال ففي ص٤٤” أغمضت عيني لأقيم حاجزا بين روحي وواقعي ولأعتزل بشرا ما كنت يوما منهم ولا هم تقبلوا انتمائي إلى سلالتهم” “رحت أفكر في البحر والشاطئ والأصداف” بهذا كان يعوض اغترابه عن واقعه.
ويزداد اغنراب البطل عند دخوله مرحلة المراهقة حيث تعد الصورة الجسمية لأي شاب من الأمور المهمة التي تشغل باله في فترة تتسم بالحساسية العالية من حياته فكلما كانت الصورة متطابقة مع معايير الجسد المثالي كلما أشعره ذلك بجاذبيته الجسدية وشعوره بالرضا وعكس ذلك هو الصحيح وهذا العكس كان عائقا أمام غريب منعه من إشباع رغباته والرضا عن جسمه وتحقيق التوافق مع نفسه ومع الآخرين. ويتضح هذا ص٥٣ على لسانه عندما أتم الثامنة عشر من عمره ” جميع أقراني في المدرسة تبدلت ملامحهم وتغيرت معالم تكوينهم الجسماني ،منهم من أضحى بطول فارع غزا به قلوب الفتيات وعقولهن..إلا أنا! ما زالت الدمامة ترتديني”.
وغريب الذي كان ينظر إلى نفسه ويقزمها بناء على نظرة المجتمع الذي ينتمي إليه ولم يمنحه الثقة بنفسه وذاته أدى إلى عجزه عن تكوين هويته فاغترابه كان على علاقة طردية مع رفض المجتمع له.فالهوية هي الشفرة التي تمكن الفرد من معرفة نفسه عن طريق علاقته بالجماعة التي ينتمي إليها وعن طريقها يتعرف عليه الآخرون باعتباره منتميا إليهم لكن هذه الجماعة رفضت غريب فغدا بدون هوية. ويتضح هذا للمتلقي ص١٠٩ على لسان غريب عندما أحجم عن إخبار العم عبدول عن مكان إقامته في الجنوب” أرغب بالبقاء وحيدا وبعيدا عن أي ارتباط يذكرني بهويتي الأولى التي لم تمنحني أي معنى للإنتماء”. ويتضح بالتالي تقزيمه لنفسه ص١٣ فعلى لسانه” كم أنا قبيح” وفي ص١٢ ” الزائدة الأخرى أحملها فوق خاصرتي اليمنى حيث تقبع كتلة لحمية ضخمة ترفع مؤشر قبحي إلى أعلى المستويات”. فأن يتهم الإنسان نفسه بالقبح فهو أقصى درجات التقزيم.فمن الذي دفع غريب لذلك؟ من المسؤول؟من المسؤول عن هذه الحساسية الزائدة والانطواء والعزلة والقلق والإحباط بل والإيمان الدائم بنظرية المؤامرة حتى مع من كانوا يخلصون له حيث نجده يشك بالعم عبدول الذي ما فتئ يقدم كل ما هو جميل له إلى العم شملول الذي كان بطل حلمه عندما دخل غيبوبته وحتى جديلة التي أحسنت إليه ووليد والغول اللذين أخلصا له فما كان منه إلا النكران تجاه الجميع والنظر بعين الحسد نحوهم ففي ص٨٠ على لسانه” لن تستحيل نظرية المؤامرة رمادا في ذهني المتمرد مهما تفانى البعض في مواساة وجعي ولملمة أحزاني”. حتى أمه لم تسلم من عقد نقصه في حياتها ،فمن ولد هذه العقد ؟ هذه الأسئلة تطرحها براءة الأيوبي بشكل موارب عن طريق إسقاطها على انفعالات بطلها ولواعج نفسه وهواجسه تجاه كل شيء.
دفعت براءة أيوبي بطلها إلى السفر لتقنعه بأن المجتمع هو المجتمع ولن يتغير في الأغلب في نظرتهم لتشوهه حيث حاول أن يغير من سلوكاته لمواجهة المواقف الجديدة في حياته بعد انتقاله إلى مدينة الجنوب وكذلك تقبله لنفسه وللآخرين وشعوره بقيمته وحريته. وقد تركت الكاتبة المجال لبطلها أن يكتشف بنفسه بأن قناعتها صحيحة. ويتجلى هذا ص١٤٠حينما قرر أن يخرج من الفندق ليبحث عن مطعم يتناول فيه طعامه في مدينة جديدة لا يزعجه أحد أو يتطفل عليه أو يرفض تشوهه ” سأجلس وسط الجموع بكل ثقة دون أن أقيم أي اعتبار لحماقات البشر” وهنا كانت صدمته حين أخبره موظف المطعم بأن لا أمكنة شاغرة في المطعم ص١٤٥ فعلى لسان الموظف”سأجهز وجبتك لكنك لن تتمكن من تناولها داخل المطعم الطاولات كلها محجوزة” فتزداد حالة الاغتراب أكثر فأكثر بعد رفض الموجودين لوجوده في المطعم وهنا يلجأ إلى الماضي حيث ذكرياته مع أمه ملجأه وأمانه ليخفف من حدة اغترابه في مجتمع جديد رفض وجوده ففي ص١٦٤ على لسانه” لا أستطيع سوى أن أستحضر طيفها وأجمع أجزاء ذاكرتي معها لأصنع منها شبه حياة”.
وياتي أيضا عدم تشكيل الهوية في فشله في المجال الاجتماعي الذي يتفاعل معه حركيا حيث الزوائد اللحمية للبطل كانت معيقة لحركته وبالتالي عدم مشاركته للفعل البدني وقد تجلى ذلك حينما شحن برفقة وليد والغول البضاعة على زورقه دون أن يتمكن من حمل الصناديق كالآخرين ،فشعر بأنه مهمش مما زاد في اغترابه وحقده عليهم.
من خلال غريب أبرزت براءة أيوبي المشكلات التي تعاني منها هذه الفئة المعوقة وتتمثل في عدم الثقة بالنفس وعدم شعوره بإنسانيته كما والشعور بالخجل وبالتالي الاغتراب.
أما ربطة العنق التي رافقته طيلة صفحات الرواية وكان قد أعجب بها ذات وقت حينما لفتت نظره تلتف حول ياقة قميص الأستاذ أسعد فقد كانت من وجهة نظرة هي سبب هيبة الأستاذ ونفوذه عند طلاب الصف ففي ص١٥ على لسان غريب” صارت ربطة العنق في نظري أيقونة للنفوذ وسلاحا لمواجهة كل متغطرس وعديم الشعور” وبقيت بظنه هي السلاح وسبب احترام من قبل الآخرين لو أقدم على وضعها حول عنقه.
رافقته ربطة العنق الحمراء التي أهدتها له أمه ذات مساء طيلة صفحات الرواية في واقعه وأحلامه فكلما هم بارتداءها أحجم. إلى أن أتى الوقت حيث لفها حول عنقه عند قبر أمه لأنها الامان الذي يستحق أن يرتديها بحضورها.
ربطة عنق ربما حملت بين طياتها رسالة واضحة للفت نظر المجتمعات لهذه الفئة المهمشة المهشمة للعمل على دمجها اجتماعيا لتصنع منها فئة تعيش حالة توافق بين مكوناتها البيولوجية والسيكولوجية.
نشر في (الحوار المتمدن)
8-7-2023