مجدي دعيبس
روائي أردني
”رسولة العطر” مجموعة نصوص للكاتبة الأردنية أمل المشايخ، وظفت فيها الأغنية والأسطورة والتناص وتنوُّع الأسلوب والدراما، واتَّسمت هذه المجموعة ببساطة الألفاظ وتزاحم الصُّوَر لإشباع المعنى. كما عمدت الكاتبة إلى الإشارة لأعمال زوجها الشاعر الراحل عاطف الفرّاية، ولم تكن هذه الإشارة اعتباطيّة، بل من باب التوظيف الذكي لصنع المفارقة. وتجدر الإشارة هنا إلى أنَّ “رسولة العطر” حازت على جائزة ناجي نعمان الدوليّة للإبداع للعام 2021.
نبدأ من حيث قالت الكاتبة في المقدمة: “بعضها (أي بعض النصوص) كان من اللاوعي في حديث عن الغياب قبل أن يكون، لذا التقت مع نصوص عن الغياب بعد أن كان”. ربّما يكون هذا نوع من التخاطر وتقاطع الأفكار مع الغيب. لا أعرف إنْ كنتم قد صادفتم شيئًا من هذا القبيل، لكنّه أمر يحدث ولا أقول إنّه يحدث كل يوم، بل أقول لو حدث مرّة واحدة في الحياة فهو الدليل الدامغ بالنسبة لي أنّه يحدث؛ ربّما مردّ هذا من واقع تجربة شخصية، وربّما لأنّني أكتب الرِّواية وخيال الرِّوائيّ يميل إلى الحركة والفعل والإزاحة، وليس كخيال الشعراء الذي يقترن بالتّأمُّل والمسافة والاسم. وما دمنا نتحدَّث عن اللاوعي دعوني أبسِّط أمامكم الملاحظة البسيطة التالية التي شدّت انتباهي في “رسولة العطر”، وهي تكرار كلمة الغياب ومشتقّاتها (غاب، الغيب، غيابك، تغيبين، تغيب..). وقد قمتُ بإحصائها لأنّ علم الإحصاء يساعدني في فهم أشياء كثيرة ووجدتها اثنتين وأربعين مرَّة، وهو رقم ملحوظ لكلمة واحدة في مجموعة اتّسمت نصوصها بالقصر وبلغ عددها مئة نص.
وعودًا على اثنتين وأربعين مرَّة، فبرأيي أنَّ العقل الباطن أو اللاوعي كان وراء هذه المصادفة المدبّرة؛ تبدو لنا بريئة وخالية من القصديّة، لكن هناك في واقع الحال مَن كان يعمل بالخفاء ومن وراء الكواليس ويحثّ القلم على تصوير حروف الغياب بطرق شتّى، فجاء هذا الهاجس من اللاوعي ليعبّر عن حالة معاشة من الحب والحنين والألم.
وقبل الحديث عن التناص وتوظيف الأغنية والأسطورة وتنويع الأسلوب والدراما وبساطة الألفاظ وتزاحم الصور، لا بدّ من التّطرق لعنصر جاذب ومهم في هذه النصوص ألا وهو الصدق، وهو كما أراه ليس ما يقترفه الخيال بنيّة مبيّتة وتطويع قسري، بل هو ما نقول عفو الخاطر تحت وطأة شعورٍ مُلحٍ، فنتحرّر من الخيال المسيّس أو الخيال المؤدّب ونطلق ذواتنا على سجيّتها بلا رتوش أو تقديم وتأخير وتبديل وحذف وإضافة. فيأتي القول مثل الطفل لحظة الولادة صارخًا صافيًا نقيًا حتّى وإن علاه السائل الذي كان يتحوصل به في رحم أمّه. في نص بعنوان “حنين”(ص19) تقول الكاتبة: ”كلهم جنحوا إلى حياتهم وضحكاتهم وألوان الطيف كلها/ وأنا أيضًا ها إنّي أجنح لحياتي معك/ أقتات الحنين/ مذ ذلك اليوم/ بعض الحريّة ألم/ وبعض الأحلام أمنيات/ أتنفّس الذكريات/ ويهرب منّي قوس قزح”. وفي نص آخر بعنوان (الضّفّة الأخرى) تقول: “يقولون إنّك هناك/ على الضفة الأخرى/ متى يا الله سأعبر النهر؟”.
ومن الملاحظات الأخرى في بعض النصوص هو تزاحم الصور لإشباع المعنى والاتِّساق مع الدفقة الشعوريّة المرافقة، ونرى هذا في نص مثل “شفق”(ص14): “الشفق الأحمر عنوان الغياب/ مهرجان الرحيل/ موئل الشمس/ سمفونيّة القمر/ رفيق التائبين/ صديق العاشقين/ سر السكينة/ حيرة الطفولة/ في الذي كان/ والذي سيكون”.
استخدمت الكاتبة التناص الديني لتعميق الصورة التي تنحتها من مكوّنات عدّة. هذا التناص يحيلنا إلى صورة مقابل صورة، فيظهر علينا ما غفلنا عنه واضحًا جليًّا؛ نلمس الوردة ونبصرها ونشمّ رحيقها في الوقت عينه. تقول في نص بعنوان “ميلاد”: “لا، لم يضعوا الشمس في يميني/ كلا، ولا وضعوا القمر في يساري/ ولم أهلك دون هذا الأمر/ ولكن حين أشرقتَ من الغيب/ أظهرَه الله.. في يمناي نبتت ياسمينة/ وفي يسراي شمخت نخلة”. وتقول أيضًا في نص بعنوان “ابتسامة”: “وحين انتبذتَ مكانًا قصيًّا/ ما زلتُ أراك هناك/ من بعيد أراك/ من قريب أراك/ تطلّ عليّ وتبتسم”. وقد يكون التناص مع الفكرة كما ورد في “ثمار العمر”: “أنا من عهد نوح أغنّي/ هربتُ من ذات غصن حملَته الحمامةُ/ حين فرّتْ لتحمل خبر الأرض”.
وهناك أيضًا تناص غير ديني كما في نص بعنوان “أمي2”: “هل كان ذاك الشاعر يعنيكِ حين/ غنّى للموج الذي لا يبلغ حدّه؟/ يا حمدة/ تلك قصّتك/ حمدة يا كل الأمهات/ حمدة يا كل العاشقات”. وفي نص آخر بعنوان “أمي3”: “يغنّي لك الشاعر/ حين يحنّ إلى الخبز/ وأغني أنا/ أحنّ إلى فومك وبصلك وعدسك/ وأحنّ إلى العتبة في ذاك الزقاق/ وجلسات الرفيقات على عتبة البيت/ حين مرّ الحبيب/ وأشتهي بكاءً على صدركِ/ أحنّ إلى حبّات المطر في شارع بيتنا الخلفيّ/ وأحنّ إلى عطر الأرض المنبعث/ من ثوبك المفتوق عند باب المخيّم”.
وعمدت الكاتبة إلى توظيف الأغاني والأسطورة لإضفاء شيء من الرقّة أو العمق على النص. وقد تحمل هذه الأغاني مدلولًا أبعد ممّا نرى في النص بالنسبة للكاتبة والمكتوب إليه، ولكن لم تسعفنا الإشارات لالتقاط هذه العلاقة إن وُجدت. في نص بعنوان “سباق” تقول: “كان العاشق يسأل: أيّنا يحبّ صاحبه أكثر/ كانت تلك الأغنية الحبيبة تجيبه: عدد حبات المطر/ عدد رمل الصحاري/ المطر يكفّ اليوم عن إجابة الأسئلة/ والصحراء محض غبار”. وفي نص بعنوان “أغنية” تقول: ”هذا الصباح كنتُ أدندن/ بأغنية كنتَ تشاكسني بها:/ آخد حبيبي أنا يمّه/ آخد حبيبي يا بلاش/ كنتَ ترقع ضحكة حين أقول:/ غازلة له يمّه بيدي الطّاقيّة/ وازّاي يمّه ما يلبسهاش”. وفي نص آخر بعنوان “هنا الحياة” تقول: “فرح الحقول في هاتيك الدروب ما زال يسأل:/ كلّ دا كان ليه؟”.
ويظهر توظيف الأسطورة لخدمة بناء فكرة النص وتجذير المعنى في “طائر الفينيق” وأيضًا في نص ”باندورا” حيث خالفت الوقائع وفتحتْ صندوق المسرّات بدل صندوق الشُّرور بحسب ما جاء في الأسطورة الإغريقيّة. وهناك نصوص أخرى يظهر فيها هذا التوظيف سواء على مستوى الصورة المفردة أو بناء القصيدة بشكل عام كما في نص “جلجامش”(ص45). وجلجامش أسطورة أو ملحمة سومريّة من بلاد ما بين النهرين، كتبت باللغة المسماريّة على اثني عشر لوحا حجريًّا. وهي مادة مغرية للشعر بسبب خصوبة شخصيّاتها التي توزَّعت بين الآلهة وأنصاف الآلهة والبشر، كما أنّ فكرة البحث عن الخلود بحدّ ذاتها فكرة شعريّة غنيّة. وربّما نورد شيئًا عن أحداث هذه الملحمة حتى نتمكن من تفكيك النص. تحكي الأسطورة قصة الملك جلجامش وهاجس الخلود الذي سيطر عليه. كان جلجامش مكروهًا من شعبه ومغترًّا بقوّته وحدث أن سمع عن شخص عظيم الهيئة يسكن الغابة مع الحيوانات التي ألفته وألفها ويُدعى أنكيدو، فقرّر أن يصارعه حتى يثبت أنّه الأقوى. أرسل إليه إحدى خادمات المعبد وهي على درجة عالية من الجمال حتى تفتنه فيواقعها وتنفر منه الحيوانات لأنه حينها يصبح مدجّنًا وليس بريًّا مثلها. يتصارعان وتكون الغلبة لجلجامش لكنّه يتّخذه صديقًا ونديمًا. يسافران لمواجهة خمبابا وحش الغابة ويقتلانه. تسمع به عشتار وتُعجب ببطولته فتخطب ودَّه لكنّه يصدّها. تستعطف أباها الإله آنو حتى ينتقم لكرامتها. يرسل الثور المقدَّس لقتله، لكنَّ جلجامش يصرعه بمساعدة صديقه أنكيدو. تقرّر الآلهة أن تنتقم لمقتل الثور المقدَّس فتُنزل المرض على أنكيدو ويموت لأنه إنسان كامل من جهة الأب والأم، لكن جلجامش كان إنسانًا من جهة الأب فقط أمّا أمُّه فقد كانت من الآلهة. بعد موت صديقه يدرك أنه سيموت هو أيضًا في يوم ما، فيترك مدينته والأسوار التي باشر ببنائها ويبدأ رحلة البحث عن الخلود. ينتهي إلى رجلٍ يدلُّه على عشبة تعيد له الشباب. يخوض معاركَ كثيرةً وينجح أخيرًا في الحصول عليها، وخلال رحلة العودة إلى مدينته تظهر أفعى وتسرق العشبة السحريّة منه. يصل مدينته خالي الوفاض لكنّه عندما يرى الأسوار العالية يدرك أنّ الخلود يأتي من خلال الأثر الكبير الذي يتركه الإنسان خلفه. ونقرأ في نص جلجامش حيث تقول المشايخ: “هو الذي رأى/ هو الذي سمع/ جلجامش هو حين قطع الفيافي والقفار/ جلجامش هو حين خاض جزر الدّم والمحار/ جلجامش هو حين كُشفت له الحقيقة/ حين هُتكت له الحجب/ وحين رأيت عينيك/ نافذتان هما/ بحران هما، شمسان…/ رأيت ما وراء الوراء/ رأيت قلب القلب/ لستُ جلجامش/ ولم تأكل الحيّة غرسي/ حين زرعته في قلبك/ ولكنّني/ أنا التي رأيتُ/ أنا التي سمعتُ”. وهذا توظيف جميل وحيوي ومختلف.
كما عمدت الكاتبة إلى الإشارة لأعمال زوجها الشاعر عاطف الفرّاية رحمه الله، ولم تكن هذه الإشارة اعتباطيّة، بل من باب التوظيف الذكي لصنع المفارقة، وظهر هذا في نصوص كثيرة مثل: ”أربعاء” حيث أشارت إلى قصيدة (سيرة ذاتيّة للقميص) وقصيدة (بركان الحمام)، وهناك إشارة إلى مسرحيّة (عندما بكت الجمال) في نص بعنوان “اغتراب”، وهناك نص بعنوان “الراعي النرجسي” وهو اللقب الذي أطلقه عاطف على نفسه في وقت ما. كما عمدت المشايخ إلى إيراد مقطع كامل من شعر الفرّاية في نص “قال وقالت2”.
اعتمدت الكاتبة على بساطة الألفاظ والبناء اللغوي المتيسّر لتوصيل المعنى المُراد، ونوّعت بين الأساليب الخبريّة والإنشائيّة من أمرٍ واستفهام ونداء وتمنّي وتعجُّب وقَسَم حتى تخرج من مطبّ النغمة الخبريّة المتكرِّرة والمملّة. في نص “شهرزاد” تقول: “أنا لستُ شهرزاد/ هو ليس شهريار/ فلماذا يصيح الدّيك على سوري كل صباح؟ كم قلتُ أنا لستُ شهرزاد! وكم تجاهلتُ شهريار! ولياليه الألف!”، لكن هذا لم يمنع ظهور بعض الألفاظ التي حادت عن هذا الصِّراط وهي قليلة جدًا مثل “الشماريخ” و”شجرة الزّقوم” و”الضّيزى” و”الهسيس” و”السِّدرة” و”اليباب” و”المزون”. كما استخدمت أحيانًا أفعالًا غير شائعة لتجديد اللفظة والتركيب مثل “يسّاقط” و”يتعمشق”، وفي مواضع قليلة جدًا استخدمتْ تراكيبَ عاميّة مثل “رقع ضحكة”. وكل هذا من باب تنويع المبنى اللفظي والإيقاعي لخدمة الصورة وخلخلة السّائد والخروج من عباءة الشائع والمستهلك.
ومن الأمور الأخرى التي اشتغلتْ عليها الكاتبة النص الدراميّ الذي يعتمد على شاعريّة المشهد والحركة بما فيها من إيماءات تشي بطبيعة العلاقة والمشاعر وتورط الأفعال في مدلولها النفسي والمعنوي. انظروا نص بعنوان “أشياء صغيرة”(ص113): “تأسرني الأشياء الصغيرة في علاقتنا/ كأن تأكل نصف تمرة وتترك لي النصف/ وتعدّ لي شطيرة من الزيت والزعتر/ فأنساها وتتبعني كأب لحق بصغيرته/ في روضتها الأولى/ يقبّل رأسها/ يراضيها/ فتختبئ وراء الباب/ كأن أخرج غاضبة فتقف بالباب/ تفرد ذراعيك/ كالمسيح المصلوب/ تقفُ بين الباب وبيني/ كأن أخرج غاضبة أيضًا وأصفق الباب ورائي/ فتتبعني برسائلك الإلكترونيّة:/ أيّتها النائية ولكنّي أحبك”.
وقبل أن نذهب إلى الفقرة الختاميّة أودّ أن أشير إلى موضوع تجنيس المادة الأدبيّة؛ حيث بات هذا الأمر مربكًا إلى حد ما بالنسبة لي على الأقل. لم أجد فرقًا يُذكر بين بعض نصوص هذه المجموعة وبعض نماذج قصيدة النثر من حيث التكثيف والانزياح. انظروا نص “الوردة والمنجل”(ص123): ”ما زلتُ على قيد أغنية لفرح غائب/ والحرب العقيمة قاب دمعتين أو أدنى/ ها إنّي أحمل الوردة والمنجل/ وأسير في الأرض اليباب/ أحلم بالمطر وبالسنابل”.
”أمل” و”عاطف” أو “عاطف” و”أمل” إنْ شئتم حكاية صحراويّة تغار منها الحكايات، يعوي فيها ذئب الشوق حتّى الصّباح، وعندما تبزغ الشمس تلمع رمال الصحراء مثل حبيبات الذّهب الأصفر، فيظهر الوجع أمامنا كسرّ من أسرار الغياب، لكنّه ليس كل الغياب، ولا نصف الغياب، ولا حتّى ربع الغياب؛ فالحبّ لا يعترف بالمسافة بين الأرض والسماء.