“رواية الفصول الأربعة” مجموعة قصصيّة تنزف وعيًا وقلقًا

“رواية الفصول الأربعة” مجموعة قصصيّة تنزف وعيًا وقلقًا


class="inline-block portfolio-desc">portfolio

text

    مجدي دعيبس
    روائي أردني

    إذا كانت لوحة الغلاف من العتبات التي نلج منها إلى جو النص أو القصص فإن غلاف المجموعة مدار الحديث، يشي بكل شيء؛ أربع صور فوتوغرافية تقف متسلسلة طوليًا لتعطينا انطباعًا وافيًا عن مضامين وثيمات القصص: الانتفاضة الفلسطينيّة، سقوط بغداد، ضياع الطفولة وكرامة الإنسان وثورات ما يسمى الربيع العربي. لعلّ مواضيع هذه القصص تعكس القلق الذي يطلّ برأسه كلما نظرنا من فوق أكتافنا، لتتوالى صور احتشدت في ذاكرتنا المثقلة بالحزن والخوف من المستقبل بعد كل هذه التّقلّبات والثورات والطعنات التي أرهقتنا على مدار عقود مريرة من الزمن الصعب. مجموعة «رواية الفصول الأربعة» من إصدارات الآن ناشرون وموزّعون للعام 2018، والغلاف من تصميم الفنان محمد خضير. مجموعة دسمة كمًّا وكيفًا؛ فبلغت قصصها ثمان وعشرين قصة وهي حصيلة ما شهدته المنطقة العربية والعالم من أحداث زعزعت كياننا إلى هذه اللحظة. ولن تكون هذه الفسحة كافية للخوض في كل قصص المجموعة، ولكن بعضها الذي يعبّر عن كلّها.
    اللغة في غالبية القصص مشرقة واقتصادية، لكنّها وافية إلى الحد الذي يحتاجه الحدث دون زخارف بلاغيّة تشتت القارئ. مقاربة مواضيع القصص فيها ذكاء وحنكة القاصين المتمرسين بفن القصة القصيرة. تبدأ الفكرة متمهلة ثم تتسارع حتى تصل إلى هدفها المبيّت فتصيبه في مقتل. الشخصيّات واضحة إلى القدر الذي يستدعيه موضوع القصة وثيمتها، أمّا المكان والزمان فقد تفاوتا في حضورهما حسب حاجة القصة وبنائها وأحداثها.
    للوهلة الأولى تبدو قصة «الطريق إلى مروة» وكأنّها تغرّد خارج السرب، ولكن يتّضح لاحقًا أنّها ليست قصة رومانسية عن رجل عاد ليبحث عن حب قديم، بل عن حزبيّ هرب من المواجهة عندما احتدمت الأمور واختلف الرفاق واشتدّت الملاحقة وفقد مصدر عيشه. فضّل الانهزام أمام هذا الوضع الصعب. في لحظة ما كان عليه الاختيار، تلك اللحظة كانت الولادة الجديدة لو أنّه انتظرها، لكنّه فوّتها ومضى في حياته القديمة. انسحب وترك الفوضى لتعيد ترتيب الخوف والقلق.
    «أحلام عارية» يستعيد الكاتب ذكرياته وخبراته في الخدمة العسكرية ويصف لنا التفاصيل الدقيقة بحرفية عالية لا تأتي إلّا من شخص عايش الحدث ويحفظ مداخله ومخارجه عن ظهر قلب. كانت النهاية غير متوقعة لكن بناء القصة جاء ليعيد إلى أذهاننا ذلك الزمن البريء عندما كانت القلوب بيضاء والأيادي بيضاء والأحلام أيضًا بيضاء.
    يتّضح من خلال التاريخ المثبت أسفل قصة «رواية الفصول الأربعة»، أنّها كُتبت تحت وطأة سقوط بغداد عام 2003، وحالة اليأس والإحباط والشعور بالصدمة التي سيطرت على شعوب المنطقة؛ بسبب التّجبّر والغطرسة الأمريكيّة. تدور أحداث القصة حول روائي يحلم بكتابة رواية بطلها محام يساري، وناشط سياسي، وبطل حقيقي يتزوج ابنة مناضل قومي فلسطيني. لكن هناك دائمًا مانع ما يحول دون الشروع بالكتابة، وقد يتعلق هذا المانع بالطقس أو الظروف العالميّة أو الظروف العائليّة. وقد نرجع للخلف خطوتين وننظر للقصة لنراها بثوب وهيئة مختلفتين؛ ربما لم يحلم بكتابة رواية بل بتغيير الواقع العربي المنهزم والتّخلّص من طعم المرارة والحنظل المترسب في أفواهنا بسبب تاريخ طويل من الهزائم والانكسارات والخيانات.
    يعود الكاتب ويؤكد على الفكرة عينها في «سيرة قلب». يتصاعد الحدث وتنمو الفكرة شيئًا فشيئًا حتّى يشتدّ عودها وتصبح قادرة على الدفاع عن نفسها. الرجل رب الأسرة بحاجة لقلب جديد بدل قلبه الضعيف. يرفض زراعة قلب في اسرائيل لأنّه كما قال لطالما هتف ضدها في المظاهرات، لكنّه قَبِلَ أن يذهب إلى أمريكا لإجراء العملية. هناك لم يجد قلبًا يناسبه أو لم يجد قلبًا البتّة فعاد إلى بلده. ينتبه لوجود مظاهرة في الشارع الذي يقيم فيه، يأخذه الحماس ويخرج ليهتف مع الهاتفين وتكون المفارقة ليعود قلبه إلى سابق عهده من النشاط والحيوية.
    ربّما أنّه لا يشكو من شيء سوى سوداويّة المشهد العربي وسيل الأخبار المزعجة على الفضائيّات التي تسبب الانقباض. تتوالى بشراسة على مدار الساعة مثل المياه الجارفة التي تداهم بيوت الشعر في المنحدرات والمناطق المنخفضة. لا تردّها الأوتاد الصغيرة في الأرض الرخوة ولا صياح الأم المفزوعة التي تلتقط أطفالها وتمضي بهم إلى بقعة أقلّ بللًا.
    ربّما أصبحت الفضائيّات من مسبّبات أمراض القلب بالإضافة إلى العوامل الوراثيّة ومستوى الكوليسترول في الدم؛ لأنّها مصدر غني للتوتر والقلق والاكتئاب، وربّما في المستقبل القريب يصف طبيب القلب لمرضاه حبة دواء جديدة اسمها (فضائِينْ) للتّخفيف من أعراض الفضائيّات.
    «تمارين على رفع الرّاية البيضاء» قصة طريفة بدلالة يفضحها العنوان، فالرجل الذي داهمت الدبّابات مدينته، عسكري سابق واختبر الكثير من حالات الاستسلام المُذِلّ خلال خدمته العسكريّة، لذلك منع أهله من استخدام القماش الأبيض في المنزل؛ حتى لا يفكّر بالاستسلام عند المواجهة في المواقف الصعبة؛ تمامًا كهذا الموقف. في لحظة ما ينتفض الإنسان الحر في داخله ويقرّر أن لا يستسلم.
    قصة «بقعة ضوء» تصلح لتكون حلقة من حلقات مسلسل (مرايا) للفنان السوري القدير ياسر العظمة. توظيف جماهرية الفنانين للتأثير على الشارع خدمةً لمصالح النظام، وهنا تظهر قيمة الفن الحقيقي للتعبير عن حسّ الناس البسطاء وأحلامهم بالحريّة والعدل والكرامة. ولا أعرف لماذا تراءت لي قصة «المغفّلة» لتشيخوف وأنا أقرأ «بقعة ضوء» مع أنّ البناء مختلف تمامًا في القصتين، لكن ربّما ما يجمعهما ثيمة الخنوع والقبول بالظلم.
    الكاتب على شكل القصة المألوف في «الدوّار والدوار» و «حكاية صور» ويلجأ للعنواين الفرعيّة داخل القصة لتبدو مثل «اسكتشات» متلاحقة وخاصة في «حكاية صور» التي تتحدث عن هوس الوزراء بالصور، وكيف تؤدي هذه المتوالية السببيّة الساخرة في نهاية المطاف لأن يحرق بائع الخضار نفسه على مثال محمد البوعزيزي. ربّما هي من الكوميديا السوداء وربّما من التراجيديا البيضاء وربّما هي غير ذلك لكنّها قصّة موفقة تجمع شتاتًا من الأفكار وتصهرها في بوتقة واحدة. لم أرَ ما يستدعي وجود العنواين الفرعيّة في قصة «الدوّار والدوار» ولم تضف هذه العناوين شيئًا للسياق الذي بدا منسابًا بذاته دون الحاجة إلى كلمات مفتاحية تنبّه القارئ حتّى يدقّق في الفقرة اللاحقة. تعرض القصّة وجهات نظر متعددة حول اعتصامات دوّار الداخليّة وما اعتراها من شدّ وجذب بين المعتصمين والشرطة.
    وحتّى لا نطيل، ربما نطلّ على بعض القصص من خلال عرض الثيمة التي قاربها القاص بأسلوب مدهش ومثقف: «الثورة»؛ التفاف الشارع حول الثورة في مصر، «سوريالية: وجوه وأماكن»؛ العنف يولّد العنف، «مقتل حلم»؛ والحلم هو انتهاء الحرب في سوريا وعودة الياسمين إلى الشام علمًا بأنّ القصة مؤرخة بـ (2015) ، «الاسكافي»؛ التفاوت الطبقي قنبلة موقوتة، «الطّاغية» قصة قصيرة جدًا تتمركز حول الثورات ونهاية الطغاة، و «سجّادة جدي» ما زالت متمسّكة بحلم العودة. باسم الزعبي قاص وباحث ومترجم من الروسيّة إلى العربيّة، يحمل درجة الدكتوراة في الفلسفة. مجموعاته القصصيّة، والقصصية المترجمة زهاء عشرين مجموعة. يقدّم لنا ثقافته ووعيه السياسي والاجتماعي وموقفه من الحياة من خلال قصص فيها لغة متماسكة وخيال حر وبناء مبتكر، ويثير فينا دهشة تشبه دهشة الفتى الصغير ابن القرية الذي ركب الجمل ورافق جده في زمان مضى في رحلة إلى دمشق أو حيفا أو بيروت ليرى قريته التي ظنّها كل العالم مجرد دعسوقة صغيرة حطّت على قرص دوّار الشمس في أوج اكتماله.