“وليد خالدي”
“ناقد جزائري”
لا غرو، في أن الكاتبة الأردنية سميحة خريس؛ تمثل أحد الوجوه الثقافية البارزة ضمن خارطة المجال الإبداعي، فعلى مستوى الكتابة السردية، تطالعنا هذه المرة برواية تحت عنوان ” بقعة عمياء ” إذ تشكل في حركتها الفاعلة انعطافة حقيقية على صعيد التفكير والإبداع الفني، إذا ما قورنت بمثيلاتها من الكتابات السابقة داخل المشهد الثقافي، مثل ” شجرة الفهود ” و” خشخاش ” و” فستق عبيد ” وغيرها من الأعمال الفنية، ومما لا شك فيه، أن الرواية في طبعتها الثانية الصادرة عن الآن ناشرون وموزعون بعمان/الاردن عام 2019م، تشي بلغة سردانية جريئة صادمة في توهجها، إذ تحمل في مظانها خطابا أو نصا موضوعيا؛ تطاله رؤية مشبعة بمعرفة عقلانية للحياة، وبصورة حاسمة، تقودنا بنيتها الداخلية في صرامتها إلى البوح عن مكنونات الأشياء، بشكل صريح ومعلن بدل التلميح والترميز والحكي المخاتل، عبر عمليات التخاطب والتواصل المبنية على تلك العلاقة التي تحاول ربط القارئ بالوجود، ويتعلق الأمر، بالمجتمع الأردني، وبعبارة أدق، الطبقة المتوسطة المطحونة والمسحوقة اجتماعيا وسيكولوجيا واقتصاديا، هذا الاختيار، في الدرجة الأولى، مرتبط بالوضع المأساوي الذي عاشته بطلة الرواية نوال مع أسرتها في لحظاتها المتفاوتة، كصورة مصغرة عن هذا المجتمع، وبطبيعة الحال، تتحدد معالمه ضمن الإطار الجدلي، نحو المجال السوسيولوجي المرئي، الخاضع لترسانة من التحاليل المنضوية تحت مظلة الفهم والإدراك والاستقصاء.
1- شظايا الذات وإكراهات الواقع:
إن التمايز الحاصل بين الأطراف المتضادة المرسخ لثنائية الأدنى والأعلى، جعل من الروائية في أمس الحاجة إلى أن تطرح في كتاباتها إشكالية مفهوم الإنسان، بكل ما تحمله الكلمة من أبعاد في سياقاتها المختلفة، وندرك أهمية هذه الحاجة الملحة في ظل الانهيار والإفلاس والتدهور المغلف بالجوانب السوداوية التي تطال المجتمع الأردني بصفة خاصة والعالم العربي بصفة عامة، إذ تضعه الكاتبة موضع مساءلة ومراجعة على أرضية الواقع المعيش، لأن الكتابة صراع مع الصمت على حد تعبير كارلوس فوينتس Carlos Fuentes وتبعا لذلك، فقد اتخذت هذا الأخير مادة للتأمل والتصوير والتعبير، باكتساح المناطق الممنوعة والمسكوت عنها، على اعتبار أن اللغة هي النمط الأساسي لاكتمال وجودنا في العالم والشكل الذي ينطوي على شمولية تأسيس وتشكيل العالم بالمفهوم الذي ذهب إليه الفيلسوف الألماني هانز جورج جادامير .Hans-Georg Gadamer
وتأسيسا على ذلك، فإن العتبة النصية ” بقعة عمياء ” علامة سيميائية؛ تشير بشكل عام إلى صور العجز الدالة على الانتهاكات البشرية وإلى كل أشكال العيش المهترئ، بقدر ما تكشف عن جراحات الهوية وإلى الرؤى الضبابية، التي انعكست آثارها على مستوى الأفراد والجماعات في أبعادها التشاؤمية، عكستها تلك العوارض الطارئة التي ساهمت في القضاء على لحمة المجتمع، وكانت صورة مرئية لمظاهر التفكك والتمزق والانحلال، فالشخصية الرئيسية نوال رفقة أسرتها تعيش أوضاعا مزرية، بحيث تطالها كل أنماط العنف المشرعن، يجعلها لا تعيش التطور والتقدم، من خلال التخطي والعبور المستوفي للشروط الموضوعية، المؤدي إلى التحول الخلاق المفضي إلى الارتقاء والتطور البشري، إذ يتوفر على علاقات الاتصال لا الانفصال، أو بعبارة أخرى، الممارسة الرامية إلى تلك المشاركة المتكافئة في بناء واقع أفضل، تقول الساردة بضمير المتكلم على لسان نوال ” تجلى لي بوضوح أني بت أنتمي لطبقة الفقراء، وداعا للأحلام والأمنيات المتخيلة…والآن هذا ما تبقى لي: راتب تقاعدي هزيل، وغلاء متوحش، وحياة تخلو من الفرح والدعة، كأن العالم تم تفصيله وخياطة على مقاس الذين يملكون بطاقات السحب من الصراف الآلي “.
والمعنى النهائي في هذا السياق، يؤكد على نوع من أنواع جلد الذات في صيرورتها الممتدة، بقدر ما يكشف عن الحروب المتعلقة بالمواقع في أشكالها الفريدة، إذ يصل في غالب الأحيان إلى أن يزيد من عمر الأزمة لدى الإنسان، وعلى ضوئها تضيق مجالات الحرية في مساحة الحدث، ما يتيح للتجربة الإنسانية البقاء على رتابتها المقيتة، التي تسلمها لكل أشكال القهر والعبودية، يجلي هذه الواقعة الملفوظ التالي، حيث تقول نوال في هذا الشأن ” أنا منشغلة بالحرائق التي تنشب في زوايا حياتي منذ زمن ” كما تحيلنا هذه الصورة في ظل استيعاب التحولات الطارئة إلى مناطق أخرى من الأسئلة الضمنية المندسة في ثنايا الخطاب أو النص المكتوب، ويتمثل ذلك، وفق رؤية الكاتبة سميحة خريس في البحث عن معاني مفهوم الوطن وأشكال الرحيل والتهجير وشظف العيش والحروب المترامية الأطراف في البلدان العربية، والإشكال الأساسي في ظل هذه الأزمات المتكثرة؛ يقودنا حتما إلى استجلاء العمى الملقى على مستوى القيم أو المسائل الأخلاقية والإنسانية، وفي أسوأ الأحوال، أفضى إلى ظهور ملامح جديدة على عناصر التفكير، دللت علاماتها على أزمة ذاتية؛ شكلت في جوهرانيتها وعيا انفصاميا على المستوى الجمعي.
وعلى هذا المراس، تغيرت طبائع البشر نحو الأسوأ، وهذا ما يجعلنا نناقش قضية تفاقم الوضع الاقتصادي المتردي الملامس للطبقة المتوسطة، حيث أفرزت لنا مجموعة من الاختلالات في الواقع المعيشي اليومي للمجتمع الأردني، فأضحى العامل الاقتصادي طريقا محفوفا بالمخاطر، تؤطره الصيغ المصلحية البراغماتية، ما أحدث فجوة عميقة لا تتلاءم مع مبادئ اللزوم الأخلاقي، فأدت تداعياته على مستوى التجارب العملية إلى عدة انقسامات؛ عدّلت من خارطة التوازن السيكولوجي والأمن الوجودي للذوات، نستحضر في هذا الشأن، قصة نوال مع مديرها وقضية التحرش الجنسي، مستغلا هذا الأخير منصبه ومكانته الاجتماعية الراقية التي تنحدر من الطبقة الأرستقراطية ” أسمعني مديري في مكتبه المعزول ووراء الباب الموصد غزلا مكشوفا ووعودا ببهجة منتظرة، مدّ ذراعه جاذبا خصري، ولأن جسدي تململ مفزوعا، تبدل صوته إلى فحيح يهددني بخسران وظيفتي إذا لم أعقل وأرضخ مثل قطة شامية…جرح الرجل كرامتي بتحرشه فتنمرت روحي، دفعته عني بعزم ليرتطم بخشب المكتب محدثا صوتا مربكا “
وفي سياق مشابه أيضا نذكر حكايتها مع جارها مالك البيت عبد الجليل الذي أقامت معه علاقة مشبوهة، يبرز هذا الموقف في المحكي التالي ” يتسامح مالك البيت في الإيجار المستحق مطلع كل شهر إكراما لتلك اللحظات المشتعلة العابرة. يهديني أساور ذهبية نحيلة وأقراطا صغيرة أعلقها في أذني ” نفهم من المقطعين السرديين في أبعادهما الدلالية أن كثرة المعوقات التي تقف في وجه الكينونة؛ تنجر عنها تبعات تنزاح عن مساراتها القيمية في ظل الاجتياح المتبع لمنطق الخروقات والانزلاقات والانتهاكات، المتمثلة في الجشع والتناحر والاعتداء والتهديد والفحش، لهذا، فبراغماتية التعايش من منظور الكاتبة يقتضي إدراك العلاقة بين الإنسان وعالمه، بحيث تتوفر هذه العلاقة على معطيات ملموسة، بهذا المعنى، نقتفي آثارها الإيجابية في صرح عناوين الوجود، بمدلولاته المشبعة ماديا ومعنويا.
2- عالم الأنساق أوإشكالية خرق الحدود:
إن الصيغ التعبيرية الممكنة المعبرة عن تطلعات الإنسان، إنها أولا وقبل كل شيء، تروم في حقيقة الأمر الإمساك بالواقع المأمول، بحيث تكون تحت طائل عملية الاستبصار أو التشخيص، وتكمن أهميتها ضمن فعل القراءة، كونها تثير اهتمام القارئ أثناء الطرح والمعالجة، من خلال معايشته للوقائع المتشابكة، بجميع حواسه الناتجة عن الرؤية المتفحصة إلى ما آلت إليه الأوضاع، وهو يتفاعل مع الشخصيات والأحداث والأزمنة، بهذا المعنى، تصف لنا الروائية هذا المشهد المؤثر، عندما كانت تبحث نوال عن ولدها نادر، وأخبرها السائق مبشرا إياها من أنه التحق بالمجاهدين في سوريا، فراحت توبخ نفسها بنبرة حادة متسائلة عن وضعها المأساوي ” أين أخطأت؟ ما هي النقطة العمياء التي غامت الرؤية عندها؟ هل ذهب ولدي إلى الموت ماشيا جذلا أم خائفا مترددا؟ هل لعب جارنا الداعية أو سواه بعقله فصور له الجنان على فوهات البنادق؟ هل اشترى أمراء الحرب فقره بمبلغ مالي مغر؟ هل هرب مني ومن أجواء البيت الكئيبة؟ “.
وفي جميع الأحوال، تبرز لنا الكاتبة من خلال المقطع السردي، سمة اللاعقلانية من خلال إفرازاتها لموجات التطرف التي ترسخ لفكرة الإرهاب، كأداة صالحة في خدمة الهيمنة لفئة معينة، بحيث لا تنفك هذه الممارسات في اتباع منطق الصراع والعنف، كنموذج يتحرك ضمن الأفق البراغماتي أو في صوره النفعية على المستوى الواقعي، وعلى هذا الأساس، فغياب الحرية المنضوية تحت رايات العدل والمساواة في ظل ارتحال التدبير الذاتي للكينونة؛ يولد ثقافة انهزامية على الصعيد السيكولوجي، ما يضطر الذات إلى اتخاذ مسالك وعرة، تتمفصل كجملة أحداث تنطوي على تصدير ثقافة العنف والتطرف بكل أنواعه، فيغرق المجتمعات في شبح وكوابيس الرعب، كما يعزز من مشاعر الحقد والكراهية والثأثر والانتقام، يتجلى ذلك في السرد التالي ” جرني ولدي من ربطة شعري الملبدة بالغبار والإهمال، قال لي في غيابه اللئيم: لقد تظاهرت مطولا بحكمة القرود، لا ترين ولا تسمعين ولا تتكلمين، لا تهتمين! قفي اليوم في زاوية الحساب العسير، عليك الآن أن تختاري، أن تقرري أين تقفين؛ تختارين خندقك حيث لا يسمح بالحياد البليد، هل أنت من الدواعش أم مع الأنظمة التي أطبقت على أعناق الشعوب عقودا! “.
فالتصحر الروحي من هذا المنطلق بوصفه ممارسة؛ تسكنه الطوبويات والذهنيات المحكومة بأساليب القمع والتسلط والاستبداد، وهي ترجمة لثمرة أفكار سيئة مستغلة لضعف الإنسان، وهي حالة من حالات الرفض والمصادرة للآخر، بدليل أنه يتسبب في العديد من الصراعات والمناوشات التي تهدد التماسك الاجتماعي، كما يحدث تماما مع الطبقات المتوسطة، ما يشكل أرضية خصبة لإمكانية الاستغلال الإنساني؛ جراء حالات التشظي والتردي والفقر المؤدي لمثل هذه الممارسات والتصرفات. والشيء الجدير بالملاحظة هاهنا، في أن رؤيا العالم تحتاج إلى مسوغات أخلاقية، والأمر متعلق بأطر فلسفة العمل أي الممارسة المشروعة في نظرتها الكلية والشاملة، إذ تعبر عن الوظيفة الفعلية للكينونة عبر مقاصدها الإيجابية، من خلال احتفائها بالمبادئ العامة والقيم المشتركة.