موسى إبراهيم أبو رياش
كاتب أردني
من نافلة القول، إن المكان أحد عناصر الرواية الأساسية؛ إذ لا حدث دون مكان وزمان؛ تصريحا أو تلميحا. وفي بعض الروايات يرتقي المكان ليصبح قوة مؤثرة في الشخوص، أو فاعلة ومشاركة في الأحداث، ويظهر ذلك جليا في البحر والصحراء والجبال والرياض الغناء، حيث يصطبغ الشخوص ببيئتهم، ويولدون من رحمها مختلفين عن غيرهم.
في رواية «كِرْكْ مُوْبَا… رسائل المدينة» ثمة علاقة قوية بين الإنسان والمكان؛ علاقة حب وارتباط وثيق، فروح المكان تسيطر على المشاعر والأحاسيس، ويشعر أهل المكان أن لا حياة لهم إلا فيه، ولا يتصورون أن يعيشوا بعيدا عنه، فالمكان روح سكنتهم وتشربتها أجسادهم، وهذه العلاقة السامية لا تعني الجميع بالتأكيد، فثمة أناس لا يشعرون بأي رابطة، أو ربما رابطة واهنة بلا جذور، وكذلك الغريب عن المكان، لن تسكنه روح المكان ما لم يعش فيه، ويخالط أهله، ويعرف أسراره. وفي المقابل، فإنه ليس لكل الأمكنة أرواح تستأثر بالمشاعر، فثمة أمكنة ميتة كالمدن الحديثة التي تطاولت مبانيها وتكاثرت فجأة كورم سرطاني، وما هي إلا غابات إسمنتية لا حياة فيها.
من بداية الرواية، وفي أول لقاء لصخر مع الفرنسية أنجيلا، أشار إلى أن رسمها للمكان ينقصه شيء ما، ولما استفسرت قال لها: «العمارة قد تجدينها في كل مكان، وقد تتشابه أحيانا كثيرة، وقد تختلف في بعض التفاصيل، لكن ما يميز مكانا عن آخر هو روحه». لم تفهم أنجيلا قصده، ولذا جاءت الرواية لتبين لأنجيلا وللقارئ روح المكان بشكل عام، ولمدينة الكرك وقلعتها بشكل خاص.
يوضح صخر رؤيته للمكان وروحه: «أنا أعتقد أن لكل مكان روحا لا يدركها إلا من يسكن المكان ويسكنه المكان. منذ تفتحت عيناي على أسوار القلعة وحجارتها وأبراجها، ومنذ أول مرة «ارتويت فيها من نبع «عين سارة» بعد مسير طويل تحت صهد الشمس اللاهبة، ومنذ أول مرة أكلت فيها خبز الطابون المحمص في قريتي البصاص والإفرنج.. منذ ذاك أحسست بروح تسري في جسدي، تجعلني في وحدة مع هذا المكان، فأكون جزءا منه ويكون قطعة مني.. كانت الكرك تكبر فيَّ وأنا أكبر بها». ثم يفصل تماهييه مع الكرك، وأنه كان جزءا من تاريخها عبر العصور، يتشكل شخصية من شخصياتها المحورية، تختلف العصور والدول والأحداث، لكنه هو هو؛ يتفاعل ويشتبك ويتجدد.
إن روح المكان سر لا يُكشف بسهولة، يقول صخر عن أنجيلا: «لا أظن أن باحثة وصلت منذ أيام قليلة قادرة على أن تعرف روح كرك موبا؛ إنها تحتاج إلى أيام وشهور، وربما إلى سنين لتعرف روح الكرك، وربما لن تعرفها أبدا، خاصة إذا كانت قادمة ولديها موقف مسبق من المكان القادمة إليه… وهي لا تعلم أن كل حجر في القلعة يحمل تاريخا من دم، وصدى صرخات أمم خلت، وعويل نساء فقدن أحبتهن عبر التاريخ». ولروح الكرك ميزة لا تتأتى لغيرها، فللكرك فرادتها، وكلٌ يرى مدينته لا مثيل لها، يقول صخر: «إن كرك موبا لم تكن مجرد مدينة وعاصمة لمملكة مؤاب؛ بل كانت في الوقت نفسه روحا لا تُرى ولا تُلمس بيد، تسكن أبناءها ولا تغادرهم. روح ميشع المؤابي ما زالت تسري في أجسادنا جميعاُ… يكفينا فخرا أننا ننتمي إليها وأن روحها تسري مع الدماء في أجسادنا».
التقطت أنجيلا ملاحظة صخر حول روح المكان وقادتها للكشف والسعي لمعرفة السر، تقول: «لكي تجد روح المكان لا بد من معرفة جيدة بتاريخه المكتوب والمحكي، ولا بد من معرفة جيدة بتفاصيل الحياة اليومية فيه، كيف جرت سابقا وكيف تجري في الوقت الراهن». ولذا قرأت تاريخ الكرك عبر العصور، وتعرفت إلى عظمتها وسيرتها في الصمود والتحدي، وخالطت أهل الكرك وقراها، وعاشت معهم، وشاركتهم حياتهم، وأكلت من طعامهم، وسمعت منهم القصص والحكايات، وسهرت معهم، فسرت إليها روح المكان، فسكنت واطمأنت وأحبت المكان وأهله، خاصة صخر، ملهمها ومرشدها الروحي.
روح الكرك تنتقل بالوراثة، لتؤكد الأصالة، وتحفظ الإرث العظيم، يقول مصباح: «نشأت كباقي أطفال الكرك، لكن قبسا قويا من روح المدينة سكنني منذ مولدي. وعلى الرغم من نحول جسدي وشرود ذهني الدائم، إلا أنني لم أكن أشكو من مرض، كأنما روح أبي لا تفارق جسدي. كنت أظن أحيانا أن أبي هو من بنى القلعة، وأحيانا أخرى كنت أرى في المنام طائرا ضخما يحلق فوق رأسي أنا دون بقية الأطفال، والطائر يحميني ولا يؤذيني». وقد رفض مصباح أن يهرب مع قمر حب حياته، فقد غلبه حب الكرك وتلبسته روحها: «لم أكن قادرا على تصور ابتعادي عن كرك موبا، فهي تسكنني، ولا أرى حياتي بعيدا عنها».
من آثار روح المكان الجميلة النقية التي تتميز بها الكرك، هذا التلاحم القوي المميز بين مكوناتها الاجتماعية والدينية بين المسلمين والمسيحيين، فلا تكاد تجد اختلافا بينهما. تقول أنجيلا في رسالتها الأولى لصخر من القدس: «هناك رسالتان نفحتهما روح كرك موبا فيّ؛ الأولى عندما رأيت صورة مريم العذراء على الجدار في منزلكم إلى جانب آيات قرآنكم للدلالة على التسامح واحترام معتقدات الآخر التي وجدتها عندك وعند كل أهل الكرك بلا استثناء، لقد أدهشني ذلك. أما الثانية فهي الموقف في كنيسة القديس جرجينوس التي تسميها أنت مقام سيدنا الخضر. عندما أخبرتني أنه يُعمَّد هناك بعض الأطفال ويُختن الآخر، ثم يصبحون أصدقاء، وربما أكثر من ذلك. لا يوجد مكان في العالم يرى الإنسان فيه أخاه الإنسان قبل أن يرى ديانته إلا عندكم، مثلما تفعل بكم روح كرك موبا العظيمة».
في حفلة وداع أنجيلا التي أقيمت في حديقة منزل توفيق العتيلي قبل مغادرة الكرك إلى القدس، كانت أنجيلا تراقب المكان، وتنظر إلى القلعة التي تطل بشموخ من بعيد، وعرفت أحد أسرار روح المدينة: «الآن أدركت كيف يمكن أن يكون حصن مثل قلعة كرك موبا أباً لكل الذين يعيشون قربه؛ إنه يقف هناك شامخاً، حارسا لأبنائه». وما زالت قلعة الكرك تظلل الكرك وما حولها، وتمد أهلها بالكبرياء والفخر والصمود والتشبث بالمكان، تطل على فلسطين، وتشرف على القدس، فالعلاقة بينهما قديمة ووثيقة لا تنفصم عراها.
وتبشر الرواية بأن روح الكرك ستبقى متوهجة في قلوب أهلها أينما كانوا، فها هي قمر المسيحية تزور إحدى مدارس الزرقاء المسيحية، وتلتقي بالطفلة قمر المسلمة، فاكتشفت أنها حفيدة حبيبها مصباح، كانت متميزة، قوية، واثقة بنفسها، تقف كالأسد فتحضنها بقوة وحب وتقول: «إنها حفيدة مصباح، لا بد أن قبساً من روح كرك موبا تسري في جسدها». هذه الروح التي ستحفظ للكرك قوتها وصلابتها ومتانة نسيجها الاجتماعي مهما تقلبت الظروف والأحوال.
وبعد؛ فإن « كِرْكْ مُوْبَا… رسائل المدينة، عمّان: الآن ناشرون وموزعون، 2021، 163 صفحة» رواية مكان بامتياز، مكان بتاريخه وتجلياته وتفاعلاته وأهله وروحه، عرجت بشكل سريع على تاريخ الكرك الضارب في القدم؛ ابتداءً من ميشع المؤابي إلى هبة الكرك «الهية» عام 2010. وهي رواية تؤكد أن قوة العلاقة الروحية بين الإنسان والمكان، هي التي تحدد مدى انتمائه وتمسكه بالمكان، وبالتالي استعداده للتضحية من أجله، ومن هنا يمكن أن نفهم لماذا يهرب البعض إذا هوجم المكان، بينما يستميت البعض في الدفاع عنه حتى آخر رمق، ولماذا يعتبر البعض المكان كعكة وصفقة، بينما يعتبره الآخرون مقدساً لا يجوز أن يكون محل مزايدات أو مساومات.